تتعالى أصوات أبواق الإخوان من وقت لآخر مناديةً بأكذوبة أن المصري المعاصر منقطع الصلة بأسلافه القدماء الذين أقاموا أعظم حضارات التاريخ القديم.
ولأن منظري الإخوان ممن يدعون لأنفسهم صفة التأريخ لا ينطقون إلا عن الهوى الإخواني الخبيث، فقد صار واجبًا كشف ما وراء ذلك الادعاء المسموم.
فمن أوجه الارتباط التاريخي بين المصري المعاصر وسلفه القديم، ذلك الأثر الخطير لكل ما يجري في المنطقة المحيطة بمصر على أمن مصر واستقرارها.
ففي نهايات عصر الدولة الوسطى من الحضارة المصرية القديمة تعرضت مصر لكارثة الاحتلال الهكسوسي لأغلب أراضيها عدا مساحة ضيقة من الجنوب.. كان الهكسوس - وأصل اسمهم كلمة "حقا خاسوت" بمعنى ملوك الشعوب الأجنبية - يعيشون في مصر منذ نزوحهم إليها، لكنهم عملوا في غفلة من السلطة المركزية على تشكيل قوة عسكرية ضاربة وعلى التدريب سرا على أعمال القتال، فانتهزوا ضعفا للسلطة ابتُلِيَت به مصر آنذاك ووثبوا على الحكم واجتاحوا الدلتا ووادي النيل حتى حدود مصر العليا (جنوب الصعيد حاليا) وحكموها بالحديد والنار.
استمر هذا الوضع لأكثر من مئة عام حتى رفع ملوك طيبة الوطنيون راية الكفاح ابتداءً من سقنن رع الذي استشهد في القتال بعد أن حرر جزءًا كبيرًا من مصر العليا، ثم ابنه كاموس الذي نجح في محاصرة الهكسوس في عاصمتهم أواريس (في محافظة الشرقية حاليا) قبل أن يقضي بدوره في ميدان القتال، ثم أحمس بن سقنن رع وأخو كاموس الذي استكمل تحرير مصر.
لم يتوقف عند طرد الهكسوس من مصر بل راح يطاردهم في الشام حتى شتتهم في البلاد وطهر منهم منطقتا شاروهين (جنوب غزة) وبلاد جاهي (الساحل الشامي).
ولم يتوقف الهكسوس الذين ساحوا في البلاد عن تآمرهم على مصر وتحريضهم ضدها طوال عهود الملوك اللاحقين لأحمس، فقد استمر ذكر تآمرهم وتدبيرهم ضد مصر حتى عهد الملك تحتمس الثالث.
منذ ذلك الوقت - عهد الملك أحمس - أدرك المصريون أن أمنهم الداخلي يبدأ من خارج حدودهم بمسافات طويلة.. فارتحالهم إلى مصر تمهيدا لاحتلالها بدأ من الممرات والطرق في جنوبي الأناضول وشمالي بلاد الشام وأطراف العراق.. وتأمين مصر يبدأ من تأمين تلك المنطقة.. أدرك المصري القديم إذن أن عليه ألا ينتظر طرق العدو أبوابه بل يجب أن تكون خارج الحدود الرسمية لمصر حدودًا أوسع لأمنها القومي.
لأسباب كهذه دأب الملوك المصريون ممن يوصفون بـ"الملوك المحاربين" على إرسال الحملات إلى الشام ومد الحماية المصرية له سهولًا وسواحل، خاصة مع قيام دولتان قويتان أرادت كلا منهما أن تهدد أمن مصر من خلال مد النفوذ على الشام وطرقه، هما دولتا ميتاني (في شمالي الهلال الخصيب في سوريا وما بين النهرين) وخيتا/الحيثيين (في جنوبي الأناضول) فكان لزامًا على ملوك مصر أن يردعوا الدولتين ومن شايعهما من المرتزقة والطامعين، ولهذا نجد أن ملوكًا عظامًا كتحتمس الثالث وسيتي الأول ورمسيس الثاني قد توالت حملاتهم في تلك المناطق حتى نجح رمسيس الثاني في اضطرار مملكة خيتا/الحيثيين إلى طلب السلام من مصر بعد أن أنهكت الحيثيين ضربات المصريين لهم.
وانتقالًا من الشرق إلى الغرب، وتحديدًا ليبيا، نجد أن حدود مصر مع ليبيا القديمة قد تعرضت لعدة تهديدات من قبائل التحنو والتمحو والليبو والماشوش (كانت تعيش بين غربي ليبيا الحالية وبحيرة تريتون في تونس حاليا) والتي حاولت التسلل عبر الصحراء الغربية إلى وادي ودلتا النيل لاحتلاله.. فكان لزامًا على المصريين أن يؤمنوا حدودهم الغربية باستباق الخطر ومراقبة الوضع في ليبيا بشكل مستمر.. فبعد أن قام سيتي الأول بالتصدي لمحاولة غزو من القبائل سالفة الذكر، واستكمل ابنه رمسيس الثاني عمله في هذا الشأن، حرص رمسيس الثاني على إقامة مراكز للمراقبة للحدود الغربية تمتد من حدود تلك الصحراء عبر شمالي مصر وصولا إلى مدينة منف - العاصمة التاريخية السابقة والتي استمرت مركزًا عسكريًا هامًا - ومنها إلى عاصمته الإدارية بررعمسيس.
ولم تتوقف الاجراءات الوقائية المصرية عند هذا الحد، بل حرصت مصر على أن تكون راعية للاستقرار في ليبيا لإدراكها أن أمن مصر واستقرارها مرتبط بأمن واستقرار الجوار، وقد أدرك المتآمرون على مصر ذلك، فعندما دوهمت سواحل المتوسط بموجة هجرة مدمرة من شعوب الجزر المتوسطية، سعت تلك الشعوب إلى اصطناع العملاء من داخل ليبيا والتحالف معهم لغزو مصر، ولكن ذلك المخطط انتهى بكارثة على المعتدين الذين فقدوا الآلاف بين قتلى وأسرى، وتم سحق قوتهم الحربية تمامًا.
وبذكر شعوب البحر، فإن هذه الشعوب (كالشردان والبلستين وغيرهم) كانت من وقت لآخر تهدد سواحل مصر وبلاد الشام وشرقي المتوسط بشكل عام، ولذلك حرص الملوك المحاربون على أن يكون لمصر وجود عسكري دائم في شرقي المتوسط للضرب على أيدي العابثين، وهو ما عززته جهود تحتمس الثالث في تأمين سواحل لبنان وسوريا وفلسطين، وكذلك قيام رمسيس الثالث باستباق الهجمات المدمرة من شعوب البحر التي داهمت سواحل شرقي المتوسط في عهده وتسببت في القضاء على مملكة خيتا، فخرج للغزاة في البحر المتوسط بالأسطول المصري وفاجأ سفنهم وأغرقها.
وبانتهاء عهد رمسيس الثالث، انتهى عصر الملوك المحاربين في مصر القديمة، والذي ترتب على انتهائه دخول مصر في عصر الاضمحلال الأخير والذي انتهى بوقوعها فريسة للغزوات الأشورية والفارسية التي قضت على حضارة مصر القديمة.
هذا هو التاريخ الذي يحاول من نصبهم الإخوان أبواقًا لهم أن يفصلونا عنه، في وقت يحاول رعاتهم الأردوغانيون أن يعيدوا سيرة الهكسوس ومملكتا ميتاني وخيتا وشعوب البحر في تهديد أمن مصر من خلال تهديد محيطها، وهم في نفس الوقت يبثون سمومهم من خلال من يطلقون تساؤلات خبيثة عن سبب إصرار الدولة المصرية على أن تتوقف تركيا عن تدخلاتها في كل من سوريا والعراق وليبيا… فهل اتضحت الصورة الآن؟
وللحديث بقية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق