الفلسفة المثالية والواقعية والوضعية عرض مبسط

. . ليست هناك تعليقات:





الفلسفة  المثالية والواقعية والوضعية عرض مبسط 

بقلم : وائل القاسم - الرياض

المدرسة المثالية في الفلسفة هي المدرسة المقابلة للمدرسة الواقعية، وسوف أعرّجُ في هذه السلسلة الموجزة على زبدة أبرز ما خرجتُ به من دراستي المعمقة للفلسفتين معًا، بتبسيط شديد.

بوابة الدخول عندي هي: الفلسفة المثالية = المصدر المهم للحقائق هو العالم العقلي والحدس والإلهام والضمير وما يدخل في هذه الدائرة الروحية. الفلسفة الواقعية = المصدر الأول للحقائق هو العالم الحسّي الذي نعيشه في واقعنا.

وبعد هذا المدخل، نبدأ التفصيل في الفلسفة الأولى «المثالية»، ومن أجمل ما قيل في تلخيص هذه الفلسفة، أنها التأمل العقلي الشامل لكل ما في الكون، فالعقل هو العريق الشامخ عندهم، وسلطانه هو السلطان المجيد الأكيد الوحيد الراسخ؛ لاعتقاد أنصار المثالية أن الحقائق التي تدرك بالعقول أكثر وأهم من الحقائق التي تدرك بالحواس، فالأفكار -بتبسيط شديد- سابقة على المحسوسات عندهم، كما أن الحقائق التي يدركها العقل البشري أزلية مطلقة، وثابتة لا تقبل التبدّل والتحوّل، أما الحواس برأيهم، فمتصلة دائمًا بالنسبية واللبس والغموض والاضطراب وعدم الاستقرار. 

فالملاحظ هو أن هذه الفلسفة تهتم كثيرًا بالروح وتعليها، وتعتبر العقل مظهراً من مظاهرها، باعتباره مصدرًا للإرادة والتفكير، وفي المقابل تقلل الفلسفة المثالية من دور المادة والحواس، كما تهتم هذه الفلسفة بالنواحي الاجتماعية كثيرًا، إذ إنها تؤمن بأن الإنسان كائن اجتماعي جدًا، ويرى بعض فلاسفتها أن الإنسان خليط معقد من الخير والشر؛ بالإضافة إلى أن أصحاب هذا المذهب الفلسفي يرون أن الغاية من التربية هي السمو بروح الإنسان أولا، والارتقاء بأخلاقه إلى أعلى المنازل. وإذا نظرنا لغويًا إلى كلمة «مثالية» سنجدها تعود في لغتنا العربية إلى الجذر «مثل»، ومَثُل الرجل مثالة بمعنى فضُل، أي صار من أهل الفضل وذا مزية بين أقرانه. قال الجوهري في كتابه (الصحاح في اللغة): «فلانٌ أمثلُ بني فلانٍ، أي أدناهم للخير. وهؤلاء أماثلُ القومِ، أي خيارُهم. وقد مَثُل الرجلُ بالضم مَثالةً، أي صار فاضلاً. والمُثْلى تأنيث الأمثلِ».

أما معناها في لغة الإغريق، فالمثال يعني الصورة أو الفكرة. ومن هنا يرى المؤمنون بهذه الفلسفة وجود أفكار عامة وثابتة ومطلقة. فالمعنى اللغوي للمثالية يرتبط دائمًا بالخير والفضيلة والسمو والرفعة وغيرها من مرادفاتها، فنقول: المثل العليا.. ويرتبط أيضا بالفكر والفكرة والأفكار ارتباطًا قويًا؛ ولذلك نجد بعض المهتمين بالفلسفة يطالب بتغيير اسمها من (الفلسفة المثالية) إلى (فلسفة الأفكار).

التعريف الفلسفي

أما تعريف المثالية في الاصطلاح الفلسفي، فمن أجمل تعريفاتها في نظري غير ما ذكرنا: المذهب الفلسفي الذي يرى أن حقيقة الكون أفكار وصور عقلية، وأن العقل هو مصدر المعرفة الأساسي الرئيس.. فالمثالية مذهب يُعبّر عن الحقائق الكبرى في الوجود بلغة الفكرة والأفكار غالبا. ويُعرّف آخرون المثالية بأنها «مذهب يعتقد المؤمنون به وجود أفكار عامة، وثابتة، ومطلقة، وهذه الأفكار وُجدتْ بطريقة ما، من قبل عقل عام أو روح عامة»،. وهذا يوجب علينا الاستطراد قليلا في نقطة حسّاسة، وهي أن السائد في عدد من الكتابات الفلسفية هو التقسيم إلى: (فلسفة مثالية وفلسفة مادية)؛ ولكن الأقرب عندي هو ما ذكرته، أي أن التقسيم هو إلى (فلسفة مثالية وفلسفة واقعية)، ويؤيد هذا الكثيرون، ومنهم رابوبرت، يقول في كتابه مبادئ الفلسفة، بتعريب أحمد أمين: وقد أخطأ بعض الناس فهم «الروحانية» فلقبوها (مذهب المثال) مع أن مذهب المثال هذا يقابله (مذهب الواقع) لا (مذهب الماديين) كما ستعلم عند الحديث عن نظرية المعرفة.

وللخلوص من هذه النقطة أعتقد - حسب اطلاعي- أن التقسيم الآخر، أي التقسيم إلى (فلسفة روحانية وفلسفة مادية)، هو تقسيم مرتبط بعقيدة الخلق أكثر، أو بعقيدة بدء التكوين إن صح التعبير، أي أنه مبني على الانقسام حول خلق المادة، هل وُجدتْ أو هل بدأ وجودها بقوة روحية أم بقوة مادية مجردة.

ومن أروع ما قرأتُ في هذه المسألة، قول جورج بوليتزر مثلاً، في كتابه: مبادئ أولية في الفلسفة، بتصرّف يسير مني: «عمد الفلاسفة إلى تحديد موقفهم من السؤال الرئيسي في الفلسفة، الذي يطرح بعدة صور عن علاقات المادة والروح، فانقسم الفلاسفة وفق إجاباتهم إلى معسكرين كبيرين، فالذين تبنوا التفسيرات غير العلمية أكدوا أن الروح هي التي خلقت المادة، وهؤلاء كونوا معسكر الروحية أو الروحانية. أما أولئك الذين بحثوا عن تفسير علمي للعالم، والذين يعتقدون أن الطبيعة أو المادة هي العنصر الأساسي.. هؤلاء كانوا ينتمون إلى مختلف مدارس المادية».

والحقيقة أن هذا التدقيق في التفريق لا يهم إلا فئة المتعمقين جدًا في الفلسفة، ولذلك يكفينا منه هذا القدر في مثل هذه المقالات التبسيطية.

نعود بعد هذا الاستطراد إلى موضوعنا، حيث يرى كثير من الباحثين أن الفلسفة المثالية هي أول فلسفة تربوية مكتوبة, والفلسفة المثالية مذهب موغل في القدم، بدأ مع أفلاطون كما يرى البعض، أو مع فلاسفة أقدم سبقوه كما يرى آخرون، وهي اتجاه فلسفي يهدف إلى تكوين الرؤى والتصورات العامة عن الكون باستخدام العقل، وينص هذا الاتجاه على أن كلَّ ما يوجد في الواقع من الأشياء ليس شيئاً غير أفكارنا في الأصل, فلا يوجد في النهاية أية حقيقة إلا ذواتنا المفكرة، فهي الحقيقة في النهاية دائمًا وأبدًا، ولذلك تُعرِّفُ بعضُ الموسوعات الفلسفية الفلسفةَ المثالية بأنها الاتجاه الفلسفي الذي يُرجع كلَّ وجود إلى الفكر، بالمعنى الأوسع الأعم لهذا المصطلح.

فالمثاليون بشكل عام ينظرون إلى العالم نظرة مزدوجة لها ناحيتان، الأولى هي ناحية العالم الحسّي، بكل ما فيها من خبرات البشر، وهو عالم ناقص عندهم.. أما الناحية الثانية فهي الكاملة الحقيقية وهي عالم الأفكار العلوي الذي يوجد في عالم آخر غير عالمنا بحسب تعبير أفلاطون وغيره من فلاسفة المثالية. وقد تفرّع عن الازدواج السابق في نظرتهم ازدواج آخر، وهو أنهم نظروا للإنسان بوصفه مكوناً من العقل والمادة؛ ولكنهم في غالب أحوالهم يصبّون جلَّ اهتمامهم على الجزء العقلي أو الروحي في الإنسان، مع شيء من الإهمال الواضح للجسد.

والزبدة أن عالم المادة بكل ما فيه هو عالم غير حقيقي في نظرهم؛ لأنه يتميز بالتبدلات والتحوّلات المستمرة وعدم الوضوح ولا الثبات لكل ما يدركه الإنسان بحواسه المختلفة؛ بالإضافة إلى أن المثاليين من الناحية الأبستمولوجية، يتجهون في الجملة إلى أن المعرفة الحقة مستقلة عن الخبرة الحسيّة.

والحق -بحسب غالبية الباحثين- أن أفلاطون الذي عاش بين 427-342ق م، هو رائد هذا الاتجاه في الفلسفة، وربما مؤسسه أيضًا، وخاصة بما برز من أفكاره المثالية في كتابيه المشهورين الجمهورية والقوانين.. ومن أبرز فلاسفة هذا التيار المثالي أيضًا «كانط» و»هيجل» و»ديكارت»، مع ضرورة التأكيد على أن نسبة كبيرة من فلسفة ديكارت أيضًا تدخل في دائرة الفلسفة الواقعية. وقد كتبتُ عن الثلاثة (أفلاطون، وكانط، وديكارت) عددًا من المقالات المفصّلة المتسلسلة، وبإمكان من أراد التعرّف عليهم وعلى تلخيصي للكثير من أفكارهم الرجوع إليها.

وهناك نقطة أكدتُ عليها سابقًا في سلسلة مقالاتي عن (الفلسفة الوجودية)، وهي أن أمَّ الأفكار الوجودية، التي يدور كلُّ شيء في فلكها عند غالب الوجوديين فيما ظهر لي، هي فكرة (الوجود السابق للماهية)، فوجود الإنسان سابق لماهيته عند الوجوديين، أي أنه يصنع نفسه بحرية لا محدودة، ودائمًا أحبُّ تقريبَ هذه الصورة بهذا المثال: لو أراد أحدنا بناء منزل مثلاً فإنه سيذهب لمكتب هندسي ليرسم ويصمم له المخطط الذي يسبق البناء، ثم يبدأ المختصون والعمال في بناء المنزل وفق ما في ذلك المخطط، وبهذا الشرح تكون ماهية المنزل سابقة لوجوده.. وهكذا لو نقلنا المثال من المنزل إلى الإنسان، فسنجد أن كثيرًا من البشر -رغم اختلافاتهم في الأديان والمعتقدات- يرون أن ماهية الإنسان سابقة لوجوده، كما في مثال المنزل السابق، أي أنهم يعتقدون بوجود أقدار إلهية أو ربانية، أو نواميس أو قوانين معينة، وجدت في الكون أو وضعها خالق الكون، تجعل كلَّ إنسان يسير في حياته وفق ما قُدّر أو كُتب له، أو حسب ما يناسبه من تدابير الرب ونواميس الحياة مثلاً. أما الوجوديون فيعتقدون العكس، فيرون أن وجود الإنسان يسبق ماهيته، أي أن الإنسان يصنع ماهيته بنفسه، وبناء عليه اهتموا بفكرة «إثبات الوجود»، فالواجب على الإنسان عندهم إثبات ذاته وتكوين صورة وجوده وخلق ماهيته الخاصة، من خلال مواجهة الحياة والكفاح في هذا العالم.

وسبب عودتنا إلى هذه النقطة هنا في هذه المقالة، هو أن (الفلسفة المثالية) تقف على العكس تمامًا من فكر التيار الوجودي في هذه الجزئية، أي أن المثاليين يقفون مع التيار الآخر الواسع الذي يؤمن بأن الماهية هي السابقة وأن الوجود هو اللاحق. كما يحسن الانتباه إلى أن الفلسفة المثالية تأثرتْ في بعض الأماكن والأزمان بالديانة المسيحية، حيث تبناها واهتم بها كثيرٌ من رجال الدين والمبشرين المسيحيين طوال العصور الوسطى وحتى عصر النهضة، والسبب هو أنها تتوافق مع إيمانهم بوجود الحقيقة النهائية في العالم الروحي المنفصل عن حياتنا وأرضنا التي نعيش عليها، ولذلك يقال: إن الفلسفة المثالية هي الفلسفة الأولى من ناحية استفادتها من عدد من الأديان التي ساهمتْ بقوة في انتشار الأفكار المثالية، وخاصة اليهودية والمسيحية.

التأثر والتأثير المتبادل مع المسيحية وغيرها من الأديان كاليهودية-


انتهينا في الجزء السابق إلى أن الفلسفة المثالية في أساسها تأثرتْ في بعض الأوقات بالديانة المسيحية وأثرت فيها أيضًا في نظر الكثيرين، ولذلك يسمّي البعض الفلسفة المثالية في مراحلها الأولى (الفلسفة الإلهية) لقوة علاقتها بعدد من الأديان وانسجامها مع أفكارٍ دينية، وهذا واضح عند روادها الأوائل كأفلاطون مثلا وعالمه المعروف بعالم المثل، الذي شرحناه مرارًا وتكرارًا في مقالات سابقة.

ونواصل الحديث اليوم، حيث انقسم الاتجاه المثالي في الفلسفة -بعد ذلك التأثر والتأثير المتبادل مع المسيحية وغيرها من الأديان كاليهودية- إلى عدد من الأقسام أو المدارس، وسنحاول في هذا الجزء المرور على أهمها، واستخراج ما أراه مهمًا من القواسم المشتركة بينها، قبل أن نختم بمزيد من تسليط الضوء على أهم الأهداف التربوية العامة للفلسفة المثالية.

فأمّا الأقسام فكثرتْ وتشعبتْ، ومن أهمها باختصار (المثالية الذاتية) أو اللامادية، وهي فلسفة برزت في العصور الحديثة في أواخر القرن السابع عشر تقريبًا على يد الأسقف الايرلندي جورج بار كلي، الذي خاض صراعًا كبيرًا ضد المادية محتجًا باستحالة إدراك الأشياء المادية إدراكا حقيقيًا واضحًا، وكان وقوفه في وجه الماديّة مرتكزًا على دافع ديني فيما ظهر لي، وهو –بكل بساطة- أن المادية تؤثر على الإيمان وتتعرض له. فالجوهر المادي ليس إلا الوهم عند باركلي، وزبدة توجهه -في فهمي- أن الأشياء لا توجد إلا من خلال إدراكنا نحن لها، ولذلك سُمّي مذهبه بالمذهب اللامادي.

كما نجد (المثالية النقدية)، ورائدها عمانوئيل كانط، الذي تناولناه بالتفصيل في سلسلة مقالات سابقة، والذي أرجع كلَّ شيء للإيمان والضمير، وقد ظهر لنا أن مثاليته النقدية تميّزتْ بوضع حدودٍ للعقل الإنساني لا يتعداها إلا من خلال التجربة الممكنة المحدودة، كما أن فلسفته وضعتْ شروطاً عقلية للتجربة وتحققها، حيث اختلف «كانط» مع كثير من الفلاسفة، فهو يرى أن للعقل جانبًا باطناً موجودًا في الماديّة الحسيّة، فالعالم الحسّي عنده لا يستطيع الوقوف عليها منفردًا، بل هو بحاجة مستمرة للعقل والمعرفة العقلية. وقد تكون خلاصة اطلاعي على كثير من كتابات «كانط» هي أنه حاول أن يوضح خطأ النزعة العقلية المجرّدة في غالب أحوالها من ناحية، وكذلك خطأ النزعة التجريبية المجردة من ناحية ثانية، فالتصوّرات العقلية دون انطباعات أو إدراكات حسية تكون جوفاء فارغة غالبًا، والانطباعات أو الإدراكات الحسية أيضًا –في المقابل- بغير التصورات العقلية تكون عمياء ناقصة. 

لقد اتفق «كانط» في بعض النقاط مع فلاسفة المدرسة الواقعية -التي سنسهب حولها في الأجزاء القادمة- وأهم ما في ذلك الاتفاق قبوله لفكرة الواقعيين أو التجريبيين حول أن تجربة الحواس هي أساس مهم للمعرفة بشكل عام؛ ولكنه –في المقابل- مال إلى توجه الفلاسفة المثاليين أكثر، حيث أضاف أن العقل وحده في النهاية، هو الذي يملك الشروط اللازمة لتحليل كيفية إدراكنا للعالم.. وأضاف أيضًا أن هناك معرفة أخرى موجودة في العقل المحض المستقل تمامًا عن كل أنواع التجربة والحواس، فالإنسان -عنده- يحصل أحيانًا على بعض المعرفة بالعقل فقط، دون أيّ اعتماد على ما تأتي به الحواس من العالم المدرك بها، ومن هنا يظهر جليًا أن كانط، خالف الكثيرين من فلاسفة الواقعية، الذين كانوا يرون أن المعرفة كلها تُستمد من الحواس فقط، فقد كان يعتقد أن طبيعة تكوين العقل البشري، تسمح له –أحيانًا- بالحصول على شيء من المعرفة، بلا أيّة استعانة بأيّة حاسة من حواس صاحبه.

وقد نجح «كانط» –في رأي الكثيرين وأنا منهم- في الوقوف بمكان وسط بين العقلانيين الذين يرى أنهم بالغوا في دور العقل، وبين التجريبيين الذين يرى أنهم بالغوا أيضًا في الوقوف على التجارب الحسيّة.
المثالية الموضوعية

ونجد أيضا (المثالية الموضوعية)، التي نشأتْ من فيلسوف ألمانيا الكبير هيجل، الذي يرى الكثيرون أن فلسفته وُلدتْ أصلا كردة فعل ضد المثالية الذاتية، وأهم ما خرجتُ به من فلسفة هيجل - رغم قلة معلوماتي عنها وضعف اطلاعي عليها- أستطيع أن أجمله في نقطتين هما: 1- أنها فلسفة تعتقد بوجود عقل مطلق في الطبيعة، حيث أن المُطلق هو الوجود الواقعي كله، فلا يوجد حقيقة خارج العقل الإنساني أو فوقه، فهناك - في اعتقاد هيجل الجازم- حقائق (خارجة عن إطار التجارب البشرية)، فجميع أعمال الإنسان ليست في النهاية إلا نتائج لنشاطات العقل المطلق. 2- أنها فلسفة تقول إن الأفكار تتطور تطورًا جدليًا، وزبدة شرح هذه المسألة المهمة عند هيجل، هي أن كلَّ فكرة تعقبها فكرة ثانية جديدة تقوم فوق تلك الفكرة القديمة، ثم تأتي فكرة ثالثة أجدّ، فتتصارع مع الفكرة الثانية السابقة لها، إلى أن ينتهي هذا الصراع بظهور فكرة أخرى أجدّ وأجدّ، تأخذ أفضل ما في كل فكرة من الفكرتين السابقتين لها، وتدمجه في كيانها الجديد.

مع ضرورة الانتباه إلى وجود أقسام أخرى للفلسفة المثالية وفلاسفة كثيرون ينتمون إلى مدارسها؛ ولكننا ركزنا على الأبرز في هذه السلسلة التبسيطية.. وقد ظهر لنا من تتبع فلاسفة المثالية وتفرّعات هذه الفلسفة ومدارسها وجود قواسم مشتركة تجمعهم جميعًا كأساسيات يشتركون فيها، ومن أبرزها مثلا الاهتمام الكبير بالعقل والروح كما أسلفنا، ووصفهما بأنهما جوهر العالم وأهم ما في الإنسان، فبالعقل يدرك الإنسان الأشياء، فالعقل دائمًا مقدّم عندهم على الإدراكات الحسية والحواس التي تأتي في الدرجة الثانية.

اعتقادهم أن المعرفة العقلية مستقلة عن الخبرة الحسيّة


ومن أساسيات الفلسفة المثالية أيضًا، اعتقادهم أن المعرفة العقلية مستقلة عن الخبرة الحسيّة، وأن جوهر الإنسان عقله، أما حوّاسه فمشكوك فيها وفي نتائجها ودقتها، فالإدراك الإنساني الصحيح الأقوى عندهم هو إدراك العقل المستقل عن التجارب الحسية؛ ولذلك قرروا أن المعرفة كلّما ارتبطتْ بالعقل وتجرّدتْ من الإدراكات الحسية غير الدقيقة وابتعدتْ عنها، سمتْ وارتفعتْ وكانت أكثر دقة ويقينية وثباتا.

ومن أساسياتها أيضا بصياغة أخرى غير المذكورة في الجزء السابق، حول قولهم: «إن الحقيقة العقلية مطلقة وثابتة» فالمعنى أن العالم المادي عند الفلاسفة المثاليين ليس واقعًا مطلقاً، فكل الظواهر المادية المحيطة بنا ليست إلا مجرد ظل لما يدركه عقل الإنسان المفكر، والحقائق العقلية هي الأزلية غير القابلة للتغيير؛ فالعقل مرتبط بالثابتات والأزليات والمطلقات دائمًا، بعكس الحواس المضطربة ونتائجها النسبية المشوشة.
الناحية التعليمية

أما من الناحية التعليمية، فالفلسفة المثالية منهجها منهج تقليدي تلقيني يرتبط بالأساليب القديمة المعروفة في كثير من المجتمعات، حيث تقوم المدرسة بحشو عقل الطالب بكم كبير من المعلومات، وكأنه وعاء يتم ملؤه بالطعام والشراب. وهذا وغيره من مناهجهم وأساليبهم وتوجهاتهم ناتج عن اتفاق المثاليين تقريبًا على قناعتهم الكبرى، وهي أن الأفكار سابقة على المحسوسات؛ لأن وجود الأشياء مرتبط بالقوى التي تدركها، فوجود العالم الخارجي مستحيل بعدم وجودها.

وهذا المنهج التعليمي في الحقيقة يركز على الاستنباط والعلوم الاستنباطية التي تمرّن العقل على الحفظ والتلقي، وهذا مهم بلا شك، ولكني أراه يهمل -إلى حد كبير- بعض المهارات والنشاطات الهامة، فالفلسفة المثالية تضع حدًا فاصلا إن صح التعبير، بين العلوم الإنسانية النظرية العقلية التي تهتم بالعقل وتنميته، وبين العلوم التجريبية المادية التي تعتمد على التجارب العملية والخبرات التطبيقية الواقعية.

ونستطيع أن نؤكد أيضا على أن (الفلسفة المثالية) ترتبط بالماضي كثيرًا على حساب الحاضر والمستقبل، وتصرف أوقاتاً طويلة في تلقين الطلاب ما جاء في كثير من كتب التراث واللغات القديمة وما شابه، ولكنها مقصّرة كما ذكرنا في الواقع المادي المعاش والتطبيقات المهارية والمناشط ذات الصبغة الحرفية والمواهب والهوايات وما شابه، وفي ذلك تجاهل لميول الطالب.. فالمثاليون دائمًا يحسنون تنظيم المقررات الدراسية تنظيماً منطقياً ينحدر من الكليات إلى الجزئيات ومن البسيطات إلى المركبات ثم الأشد وعورة تعقيداً، وهذا مهم؛ ولكنهم بحاجة إلى مزيد من الاهتمام بقدرات الأفراد الخاصة ومواهبهم وميولاتهم ورغباتهم المختلفة.

ونزيد من التفصيل في التربية، فالفلسفة المثالية تهدف تربويًا إلى الارتقاء بالعقل الإنساني قبل كل شيء، ويعتقد الكثير من فلاسفتها أن الخير هو الأصل، وأن الشر شيء عارض شاذ في الحياة، ولذلك يركز كثير منهم على أن الطبيعة الخيّرة هي الأصل ويعملون على كشفها وتسليط الضوء عليها وعلى جمالياتها في الإنسان الخيّر، ومن هنا نصل إلى أن التربية المثالية تهدف إلى تنمية السمو النفسي قبل أي شيء آخر، فهي تقدّم وتفضّل التربية المعنوية الروحية على غيرها.

ومن أبرز أهدافها التربوية أيضًا، أنها بنشر أسلوب التلقين والتحفيظ جعلتْ المعلّمَ هو الأصل والأساس، أما الطالب فيجب عليه التزام الأدب والصمت والاستماع فقط، وحفظ كل ما يطلبه منه المعلم.

ومن أهدافها التربوية تنمية العقل وتدريبه، وهم ينطلقون من أن التربية تهدف لرفع الإنسان إلى أعلى درجات الكمال والعلو، والعقل هو وسيلة الوصول إلى الحقائق، وبالتالي فهو الأهم في العملية التربوية، ومن هنا جاء اهتمام المثاليين بالمقررات التي تحقق ذلك كالرياضيات والمنطق، كما اهتموا كثيرا في بعض الأزمنة والأماكن بالدين لارتباطه بتقويم الروح والأخلاق.

ومن أهدافها التربوية أيضًا أنها اهتمّتْ بالمبادئ والأخلاق والآداب والروحانيات والقيم، أكثر من اهتمامها بالعلوم التجريبية والنواحي العملية المختلفة، فهدفها دائمًا توضيح السبل والوسائل التي تجعل الإنسان قادراً على التفريق بين الخير والشر، كما عمل المثاليون بقوة على زرع المحبة والاحترام المتبادل بين الطلاب مع بعضهم من جهة، وبينهم وبين مع لميهم من جهة أخرى.

ومن أهدافها التربوية أنها تهتم باكتشاف (نوابغ العقول من الطلاب)، فتعمل على إعداد جيل من المتميزين عقليًا وفكريًا، ليكونوا فلاسفة ومفكرين وحكماء، ولذلك ترفض التربية المثالية المبالغة في ربط التعليم بمطالب المجتمع واحتياجاته وترى أنها مسؤولية المؤسسات المهنية، أما هي فمسؤوليتها تنمية العقول والرقي بالملكات العقلية أولا، ومن هنا جاء اهتمام المثالية بالطرق الاستنباطية والحوارية كالخطابة والإلقاء والنقاشات والمجادلات؛ بالإضافة إلى التركيز على الحفظ خاصة في تدريس صغار الناشئة. كما أنها تعمل دائمًا على نقل التراث الثقافي المتوارث، وقد انتقدها الكثيرون هنا باعتبارها فلسفة متصلبة تقاوم التغيير والتجديد.

الفلسفة الواقعية

وبداية يحسن أن نشير إلى أن الكثيرين يرون أن الفلسفة الطبيعية لم تأتِ أصلاً إلا كردة فعل على الآراء والأفكار التي طرحها الفلاسفة المثاليون، الذين يؤكّدون باستمرار مثلاً على أن العقل هو المصدر الحقيقي للمعرفة.

فجاء الفلاسفة الواقعيون بتوجه آخر لا يرى العقل بذاته مكانًا لوجود الحقائق كما يُعبّر كثير من المثاليين، بل يرون العكس، وهو أننا نستطيع الوصول إلى الكثير من الحقائق الصحيحة اليقينية الثابتة (في الواقع) خارج العقل الإنساني، وكل ما نحتاجه في نظرهم هو بذل جهود تجريبية واقعية تطبيقية موضوعية حسيّة عملية، للوصول إليها. فغالب الواقعيين لا يرون صحة الاعتماد على ما يسمّى بالأفكار الفطرية أو الضميرية أو الحدسية أو ما شابه من الكلمات التي تتكرر عند المثاليين في دائرتهم الروحانية العقلية.

وهناك من يسيء فهم الفلسفة الواقعية ويراها عدوة للعقل بشكل تام، وأن الأفكار في هذا التوجه الفلسفي لا قيمة لها وما شابه، والصواب أن هذا ليس صحيحًا على إطلاقه، فهناك فلاسفة واقعيون ويهتمون بالعقل أيضًا؛ ولكنهم ضد المبالغة في تقديس الجانب المثالي، فهم يرون أن الأفكار لا بد لها من (تجارب حسيّة) ولا بد لها أيضاً أن تنسجم مع الواقع المادي في المجتمعات التي تردد تلك الأفكار العقلية.

ورغم اتفاق فلاسفة الواقعية على كثير من الأمور، كاتفاقهم على أن المادة هي الواقع الأقصى، فكل ما نشاهده في هذا الكون من شجر وثمر وبحار وأنهار وأفلاك وجبال... إلخ. كل هذه المذكورات وما شابهها في النهاية أفكار في عقول البشر الذين شاهدوها فقط، فهي - عندهم- مستقلة عن العقل الذي يتصوّرها، وليس لها مكان ميتافيزيقي آخر بعيد متوار في (العقل الحقيقي أو المثالي المطلق) كما يزعم الكثير من المثاليين.

والمهم هو أن فلاسفة الواقعية رغم اتفاقهم على هذا الأساس وغيره، إلا أنهم يختلفون في جوانب متعددة تفصيلية، ولذلك تم تقسيمهم إلى عدد من المدارس أو المذاهب الثانوية الفرعية.

ومن أبرز مدارس الفلسفة الواقعية مثلاً الواقعية الدينية أو الكلاسيكية، التي يحسن بنا أن ننظر إليها من وجهين، الوجه الأول هو الوجه الأرسطي، نسبة إلى أرسطو، الذي سنتحدث عنه.. وخلاصة مواقف الفلاسفة المتأثرين بأرسطو هي أنهم يرون أن العالم الماديّ عالم واقعي مستقل، يوجد خارج عقولنا.
والوجه الثاني هو الوجه الأكويني، نسبة إلى القس الإيطالي توما الأكويني، وخلاصة موقفهم هو أن الله –وفق النظرة المسيحية- خلق هذا الكون بتنظيم وحكمة وعقل، حيث أوجد المادة والروح مع بعضهما فيه، أي في الكون المخلوق، وهذا برهانهم على واقعيته، وبالتالي فكل ما يخلقه الله فهو في نظرهم حقيقي وواقعي. والحقيقة أن في رؤيتهم قدرًا كبيرًا من العقلانية، فبعد أن آمنوا بخلق الله للروح والمادة معًا، قالوا إن الروح ليست أكثر واقعية من المادة؛ ولكنها أهم منها في نظرهم، والحجة هي أن الله نفسه روح، وبذلك تسمو الروح على المادة، والحقيقة أن كل كلامهم هذا يرتكز في النهاية إلى نظرة المسيحية، فتوما وجماعته مسيحيون تأثروا كثيرًا بالكتاب المقدس، فهم مؤمنون بالله بقوة؛ ولكن إيمانهم القوي هذا لم يمنعهم من الاهتمام بالعقل والتجربة معًا، بل اهتموا بذلك اهتمامًا هدفه خدمة إيمانهم ومساندته.

وسنتناول بشيء من الإسهاب أحد أهم فلاسفة هذه المدرسة الواقعية الكلاسيكية، وهو أرسطوطاليس كنموذج، والسبب هو أني لم أكتبُ عنه أيَّ شيء في مقالاتي الفلسفية السابقة، فمن هو وماذا سنكتب عنه؟
هو أرسطو، ويعرف أيضًا بأرسطوطاليس، وهو تلميذ أفلاطون، فقد قضى في أكاديمية أفلاطون سنوات طويلة كطالب عند أفلاطون، الذي أعجب به أيما إعجاب، فوصفه بأوصاف منها مثلا: (عقل الأكاديمية) ومنها لقب (القرّاء) وهي صيغة مبالغة على وزن الفعّال، فيها إشارة إلى كثرة وسعة اطلاع أرسطو.

فهو فعلا كما اتفق الكثيرون عالم بحر موسوعي، وفيلسوف كبير، ويكفيه فخرًا مثلا أنه -عند عدد من الباحثين- مؤسس (علم المنطق) وغيره من الفروع المختلفة في مجالات المعرفة. ولا شك أن تأسيس علم المنطق من أهم أعمال أرسطو الكبرى، فقد كانت الفلسفة في زمنه تمتاز بأنها نشاط شفوي؛ فأراد بتأسيس المنطق جعل مفاهيم البشر أكثر ترتيبًا وتنظيما.

وأعتقدُ أ ن ماركس لم يخطئ حين قال عن أرسطو: «ذاك هو أعظم مفكري العصور القديمة»، فقد أعجبتُ كثيراً بكثير من كتاباته، التي قضيتُ معها أوقاتاً طويلة.. خذوا منها مثلا هذا النص الجميل، وعنوانه: «الطبيعة والأصل» ، وقد اختزلته في فكرته الأم، وهي أن أرسطو أراد بكتابته هذه تقسيم الكائنات من حيث طريقة أو كيفية الوجود إلى قسمين، أولهما الكائنات التي توجد بالطبيعة، كالحيوانات وأجزائها، والنباتات، والأجسام البسيطة كالتراب والنار والماء والهواء... فيقال عنها وما يشابهها إنها وجدت بالطبيعة؛ والتعليل هو أن بينها روابط الحركة والسكون والتعلّق بالمكان والتطوّر الكوني والفساد والزوال.

وهذا ما يجعلها تختلف كليًا عن تلك التي (لا توجد بالطبيعة)، كالسرير والمعطف وما ينتمي إلى جنسهما، من الأشياء الفاقدة لمعنى النزوع الطبيعي إلى التغيير، إلا من حيث كونها صُنعتْ عرضا من حجر أو خشب أو أي عنصر مماثل لهما. ومن خلال ذلك يصل أرسطو إلى أن الطبيعة مبدأ وعلة لحركة كل شيء وسكونه، علة حاصلة فيه مباشرة بالماهية لا بالعرض.

وخذوا أيضًا كمثال ثانٍ هذا النص الذي أعجبني جدًا، وعنوانه: «الذات وحدة: نفس- جسم» حيث يشير أرسطو في بدايته - حسب الترجمات العربية- إلى أن الإنسان يتألف من نفس وجسم، وجزء منهما مسيطِر، وجزء مسيطَر عليه، وفهمت من كلام أرسطو أن سبب سيطرة النفس على الجسد هو وجود العقل فيها، أي في النفس، ولذلك فقيمتها أعلى من قيمة الجسم، لأنها أعلى منه درجة في السيادة والسيطرة، من خلال ملكة التفكير.

وُلد أرسطو في ستاغيرا في تراقيه على بحر إيجة، وتربَّى في أثينا بمدرسة أفلاطون كما أسلفنا، إلا أنه عارض أستاذه كثيرًا، وقد بدأتْ هذه المعارضات والمحاورات مبكرًا، فقد كان أرسطو يأخذ صفة المعلم في الأكاديمية عند غياب أفلاطون، واستمرَّتْ هذه المعارضات حتى وصل إلى انتقاد نظرية (المثل) الشهيرة لأفلاطون، إلا أنه لم يتمكن من التغلب على مثالية أفلاطون تمامًا خاصة في قضية المثل، أو (الصور المفارقة) كما يعبّر البعض، ولذلك يرى الكثيرون فلسفته خليطًا من «المثالية والمادية».

وكما درس في أكاديمية أفلاطون، فقد أسس أرسطو مدرسته الخاصة أيضًا في أثينا.. ويرى البعض أن أفضل مدخل لفلسفته معرفة أنه من أفضل من ميّز بين الفلسفة النظرية التي تهتم بالوجود وما فيه وعلله وأصوله، والفلسفة العملية التطبيقية التي تتناول النشاطات الإنسانية المختلفة.

وقرر أرسطو أن الطبيعة كلها - دائمًا وأبدًا- في تحوّلات متتابعة، من المادة إلى الصورة ومن الصورة إلى المادة، وكان مؤمناً أن المصدر الأول لجميع الحركات هو الله، ويُعبّر عن ذلك بعدة عبارات منها قوله مثلاً: «المحرك الأول الذي لا يتحرك». وتلقَّفَ كثيرٌ من المتدينين المؤمنين بالله في مختلف الأديان مقولة أرسطو هذه وتناولوها بأساليب فلسفية مختلفة، نتج عنها الكثير من الكلام الجميل الذي لا يزيدنا كمؤمنين إلا إيمانًا بوجود الله وعظمته. وهذا ما جعل الكثيرين من أهل الفلسفة يثبتون أن لأرسطو نظرية مثالية رائعة، وأكثر موضوعية من مثالية أفلاطون، وأعمق منها وأكثر منها دقة وقربًا وملامسة للواقع.

أما من الناحية الأبستمولوجية، فيكفي هنا أن نشير إلى أن أرسطو - في نظرية المعرفة- فرّق بدقة بين اليقين الواضح واليقين الظنّي المحتمل؛ ولكنه رغم هذا التمييز الدقيق كان يربط بين هاتين الصورتين من المعرفة برابط اللغة دائمًا. ومع أنه من رواد الاتجاه الواقعي كما يصنّفه الكثيرون، إلا أننا نجده يضعِّف من التجربة أمام العقل أحياناً، ومن ذلك أنه كان يعتقد أن عملية (قوة التحقق) والتأكيد النهائي لأيّة معرفة ظنية، لا يمكن أن تتم بشكل قطعي كامل إلا عن طريق العقل، لا عن طريق نتائج الحواس، ومع ذلك فقد اتضح من فلسفته ميله الشديد دائمًا إلى الجمع بين الاستنباط والاستقراء.

وكان أرسطو يؤكد مرارًا وتكرارًا على أن أرفع وأسمى الأنشطة العقلية هو التأمل، والمثال الأعلى للأخلاق عنده هو «الله» أكمل الفلاسفة باعتباره عقل يعقل ذاته على حد تعبيره. وأوضح أرسطو في نظريته عن المجتمع نقطة مهمة، وهي أن (جذور العبودية قائمة في الطبيعة)، ولذلك اعتبر (قمة سلطة الدولة) تكمن في قدرتها على ردع الناس عن الاستخدام الأناني السيئ لقواهم الطبيعية.

يُصنّفُ أرسطو على أنه فيلسوف تجريبيّ، وانشغل كثيرًا بتصنيف العلوم، وكتب في مجالات كثيرة قلّما تجتمع لفيلسوف آخر، منها الأخلاق والميتافيزيقا والمنطق والاستطيقا والسياسة والعلوم، وخصَّ التربية بكثير من الاهتمام؛ ومن ذلك أنه يرى أن المرأة يكفيها القليل من التعليم، ويبرر أنه لا يقصد انتقاصها أو تضعيف قدراتها العقلية، وإنما يقصد أن مهمتها الأساسية في منزلها لتربية أطفالها ورعايتهم، وهي في نظر أرسطو تابعة للرجل، وتختلف عنه في مقوماتها وطبيعتها...إلخ.

الواقعية العلمية

ويقال إن هذا التوجّه الفلسفي قد وُلد من رحم النهضة الأوروبية، حين بلغ العلم والصناعة والتكنولوجيا منازل رفيعة في عصر النهضة، ومن أبرز فلاسفة هذا التوجه العلمي هيوم، وبيكون، وراسل، وغيرهم؛ بالإضافة إلى الكبير «جون لوك»، الذي سنتناوله بشيء من التفصيل كنموذج لفلاسفة هذا المذهب.

فمع أن لوك أنهى دراسة الطب، وحصل على شهادات تمكنه من العمل كطبيب، إلا أنه لم يتفرّغ للطب، ولم يتخذه مهنة رئيسية، بل مال أكثر إلى العلوم الطبيعية، والفلسفة، وخاصة الفلسفة السياسية، حيث درس الفلسفة في جامعة أكسفورد، وعُيّنَ مدرسًا للفلسفة اليونانية في نفس الجامعة.

وهاجر إلى هولندا نتيجة لصعوبة الظروف السياسية في إنجلترا في ذلك الزمن، فقد كانت هولندا أكثر حرية حينها؛ ولكنه عاد إلى إنجلترا بعد نجاح ثورة الإنجليز عام 1688م، فأخذ مكانه المستحق الشامخ بينهم، باعتباره فيلسوف الثورة.

تؤكد نظرياته دائمًا على أن الوضع البدائي هو وضع تسود فيه الهمجية واختلال النظام وغياب القوانين، وعلى أن هذا الوضع لا يمكن القضاء عليه إلا بقيام (العقود الاجتماعية) ومعنى العقد الاجتماعي –ببساطة شديدة- هو أن يعطي الناس السلطة للحاكم القادر على التقدّم والسير بهم نحو دولة الدستور والعدالة والحرية والقانون.

واللافت أنه كان في بداياته يقف مع الملكية المستبدة، حتى تعرف على «أنتوني كوبر»، أحد السياسيين البارزين في الدولة، الذي كان من أنصار البرلمان لا الملكية، فقرَّبَ لوك وحماه، وجعله خليلاً له، فتحوّل لوك من مناصر للملكية إلى مفكر حر مستقل مؤيد للبرلمان، ومنظّر للحريّات والعدل والمساواة وحقوق الإنسان، ومن عضو هيئة تدريس في الجامعة إلى فيلسوف كبير.

ألّفَ جون لوك كتابه الشهير «مقالتان عن الحكومة» بلغة سهلة، حيث وضّح لوك فيه أن الشعب هو الذي يجب أن يمنح السلطة للحكام، حسب قواعد دقيقة معينة؛ ولذلك لا يستطيع الحكام فعل ما يريدون بالسلطة، التي ينبغي أن تعود إلى الشعب مرة أخرى إذا اختلتْ تلك القواعد.
لقد واجه لوك النظام الإقطاعي بكلِّ قوة وحزم، وكذلك فعل مع النظام الملكي المستبد، من خلال نظرياته عن سلطة الشعب، والفصل بين السلطات، والحق الطبيعي، وحق الملكية الخاصة، وحق المواطن في المقاومة... لقد دفعتْ نظرياته إلى التطوّر الذي ساهم وأدّى إلى الدول الدستورية الديمقراطية الحديثة القائمة اليوم.

فقد صاغ هذا الأب الفلسفي لحقوق الإنسان والحقوق المدنية والليبرالية كما يوصف.. صاغ في كتابه «مقالتان عن الحكومة» قوانين الدولة الدستورية الحديثة، وهي القوانين التي تأثر بها كثير من الأفراد والمجتمعات.

وإن كان كثير من الفلاسفة عاشوا حياتهم في أبراج عاجية أو بأساليب انعزالية، فإن لوك على العكس؛ فقد عاش مع الناس دائمًا في قلب المجتمع، وكتب عدّة مقالات في الفلسفة السياسية في بدايات سبعينيات القرن السابع عشر، تدور حول رغبته في تكوين دولة قوية، وتنطلق من أن الحاكم يستمد شرعيته من إرادة الناس، لا من أية إرادة أخرى.

وفي كتابه الشهير «مقالتان عن الحكومة» برَّرَ جون الثورة، وأقام الحجج الفلسفية المفحمة، التي تؤكد وتحث على إسقاط الملك غير الشرعي في عصره، وينطبق غالبها -في نظري- على أيِّ ملكٍ فاسدٍ غير شرعي، وعلى كل مملكة مستبدة طاغية غير شرعية، في أيِّ مجتمع وزمن.

وتم التخطيط فعلاً لهذا الانقلاب، ولكنَّ المخططين انكشفوا، فهربوا مع كثير من مؤيديهم، ومنهم لوك، الذي هرب إلى هولندا كما أسلفنا، في عام 1683م تقريبًا، وضاع بعض أجزاء كتابه أثناء الهجرة، ولكنه نشر كثيرًا منه.
يربط لوك كتابه بالثورة بمدخل جميل، يعطي القارئ الفهم الأولي لأهداف الكتاب ومعاناة مؤلفه.. يقول لوك: «لديك أيها القارئ بداية ونهاية مقالة عن الحكومة. إنه لا فائدة من أن أحكي لك ما حدث للأوراق، التي كان ينبغي أن تملأ وسط المقالة ما بين البداية والنهاية، والتي كانت أكثر من كلِّ ما بقي من المقالة. أتمنى أن يكون الباقي منها كافيًا لتثبيت عرش منقذنا العظيم، عرش ملكنا الحالي (وليم)، ولإثبات مشروعية مطلبه في موافقة الشعب».

لوك بكتابه هذا لا يدعو إلى الثورة فحسب، بل يبرر ويثبت ويدلل على وجوب قيام الملكية الدستورية. ويُعتبر كتابه من أبسط الأعمال الفلسفية المهمة، فهو واضح وسلس جدًا، لا يجد العامة أيّة صعوبة في استيعاب النقاط السياسية الرائعة الواردة فيه، ناهيك عن النخب والطبقات المثقفة.

يحتوي الكتاب على مقالتين، الأولى: تناقش بعض المبادئ التي يراها جون خاطئة.. والثانية: تتحدث عن الأهداف الحقيقية لحكم الدولة في نظره. يعرضها ويشرحها للمتلقي بسهولة ممتنعة.
لقد نقض ودحض في هذا الكتاب بالحجج والبراهين كل ما أورده «فيلمر» في كتابه الشهير «الأبوّة» من نظريات تبرر الملكية المستبدة المقدسة، وأبرزها زعم فيلمر أن العبودية بين البشر ضرورية، بناءً على نظرية عدم التكافؤ الطبيعي، وأن بعض البشر ولدوا سادة وبعضهم ولدوا عبيدًا، ويُرجع كل ذلك إلى نظام الطبيعة!.
لقد رد جون لوك على فيلمر في النقاط السابقة وغيرها من أمثالها، بردود جميلة إنسانية راقية، ومن ذلك قوله الرائع مثلاً: «العبودية وضع محتقر يخزي الإنسان، ومخالف للأخلاق النبيلة وشجاعة أمتنا، لدرجةٍ يصعب معها فهم أن إنجليزيا أهلا للشرف يستطيع أن يدافع عنها».

ويعترض لوك بشدة على تشبيه «فيلمر» الملك برب الأسرة؛ فالفرق كبير بينهما في الواجبات عنده، فرب الأسرة مسؤول عن تربية الأبناء وتأمين الطعام والشراب لهم، أما الملك فواجباته أبعد، حيث إنه مطالب بتأمين الحماية الكاملة للحقوق الأساسية كالممتلكات والحياة والحرية وتطبيق القانون والعدالة والمساواة، وهذا منبثق من الحقوق الأساسية الإنسانية التي رسخها لوك في كتابه، وهي: الحق في الحياة، والحق في الحرية، والحق في الحيازة والملكية.

ولا يرى لوك للملك الحق في حلِّ البرلمان تعسفيًا، أو في التصرف بأموال الدولة دون إذن البرلمان.. كما أوجب لوك على السلطة التشريعية تعيين قضاة مستقلين تمامًا، وطالب باستقلال السلطة التشريعية في مقابل السلطة التنفيذية، ومن هنا اعتبره الكثيرون من رواد فكرة (فصل السلطات الثلاث) التشريعية والقضائية والتنفيذية.
ويصل لوك إلى نتيجة كبيرة في كتابه، مفادها أن الملكية لم تعد ممكنة إلا في صورة «الملكية الدستورية» فقط. وقد كان هذا الكتاب أيضًا مناصرًا للشعب في موضوع «الثورة العنيفة»، فلوك يرى أنه من حق المواطنين الذين يُحرمون من حقوقهم الأساسية أن يثوروا بالقوة للتخلص من حاكم غير شرعيّ، إذا لم يكن التخلص منه بالطرق السلمية ممكنًا!. والخلاصة هي أن هذا الكتاب قد رفع مستوى الوعي الإنساني بحقوق المواطن الحر، بطريقة سهلة واضحة، قلّما نجد لها مثيلاً في كتب الفلسفة السياسية.

وبعد هذا الاستطراد السياسي المهم نعود إلى صلب موضوعنا، والحقيقة أني اجتهدتُ في محاولة استخلاص أبرز ملامح (فلسفة لوك العامة) بوصفه فيلسوفاً واقعيًا، ومع ذلك فليس بوسعي الإحاطة بكل شيء؛ ولكنني سأركز على أبرز ما يميز فلسفته في نظري.

يعترض لوك على الزعم بأن المعارف أو أن كثيرًا منها يعود إلى «الفطرة» -كما يقول الكثير من فلاسفة المدرسة المثالية- ويصرُّ على العكس، أي على أن المعرفة تُنال بالتجارب والخبرات الحسيّة.. ومن هذا وغيره صنفوه أو اعتبروه فيلسوفًا من أبرز فلاسفة النزعة الواقعية الحسيّة العلمية التجريبية في العصر الحديث، فالحواس فقط هي المصدر الوحيد الأكيد للمعرفة الثابتة عنده، حيث أكد على أن الإنسان الذي يفقد حاسة من حواسه، يفقد المعاني المرتبطة بها، وبالتالي يفقد من المعرفة أو القدرة على تحصيل المعرفة بقدر الخلل أو العطب الذي يصيب حواسه!.

وكان لوك يتبنّى أن الوعي بالأشياء أو الأحداث لا يتكوّن إلا بعد أن ندركها بحواسنا، فوعي الإنسان يكون في بدايته كصفحة بيضاء، إلى أن يدرك الأشياء بحواسه، وهي ثمرة تجاربه، فيبدأ تشكل الوعي الخاص بكل فرد، ويتصاعد مع كثرة التجارب.

ويُفرّق جون بين نوعين من الأفكار، فإدراكنا للعالم ببعض الحواس يسميه أفكارًا حسية بسيطة. أما «الأفكار المنعكسة»، الأهم عنده، فهي إخضاع الأفكار الحسية لمجادلات وتحليلات، ومن هنا وصل إلى نتيجة مفادها أن تكرار الانطباع البسيط يولد رؤية تركيبية.
ويعتقد لوك أن العقل البشري يحمل في ذاته فكرة الله، وأن فكرة (وجود الله) ليست فكرة إيمان، بل فكرة عقل ملازم للإنسان!. والزبدة في فلسفة لوك، هي أنها فلسفة تحليلية واقعية نقدية للعقل الإنساني، تقوم على «الحرية» كركيزة أساسية، وهي -أي فلسفته- أوضح وخير ممثل لتيار الفلاسفة الواقعيين التجريبيين عامة، والإنجليز منهم على وجه الخصوص.

نتوقف هنا الآن، ونختم هذا السلسلة في الجزء القادم الأخير بالحديث عن (الناحية التربوية) عند جون لوك خاصة؛ ثم عن (الفلسفة الواقعية والتربية) بشكل عام.

الناحية التربوية = الفلسفة الواقعية والتربية)

فمما يُحسب للوك في موضوع «التربية»، اهتمامه بالطفل وتربيته اهتمامًا فائقاً، فقد حذر بقوة من القسوة والتخويف في العملية التربوية، وقرر أن الأطفال لا يمكن أن يستجيبوا ويطيعوا الكبار طاعة حقيقية كاملة مفيدة إيجابية، باستخدام العصا والضرب والرعب، فالقسوة عنده هي المدمر لروح الطفل والمحطم لعقله.

لقد حثَّ لوك الآباء والمربين على إعداد الطفل لمواجهة الحياة، من خلال الرفق واللين والعمل على البناء الشامل لشخصيته، والعناية بجسده من خلال التربية الرياضية المهمة جدًا في نظر لوك؛ لأنها تعلم التلميذ المثابرة، وتجعله قادرًا على تحمل الصعاب.. كما حثهم على تنمية مهارات الطفل العقلية والإبداعية، وتجنب أسلوب «التلقين» وحشو العقل بالمعلومات الجافة.

ولا شك أن جون لوك من الآباء الروحيين الكبار لليبرالية عامة، وخاصة الليبرالية السياسية، وقد ظهر كثير من ذلك في المقالة السابقة.. والزبدة في هذا أو الملخص الأخير، هو أن جون اهتم كثيرًا بالحرية والمساواة والعدالة بين الناس في المجتمع من كلِّ الوجوه، ودعا بقوة إلى (القوانين) فسيادة القانون مطلبٌ ملحٌّ عنده دائمًا، لنجاح المجتمع واستقرار العقد الاجتماعي.. وهذا كله شديد الارتباط بفلسفته التربوية من زاوية معينة، فهو يرى أن غياب القانون أو ضعف سيادته يُعيد المجتمع أو يقربه من الوضع البدائي الهمجي.. كما سلّط لوك الضوء على ضرورة المساواة بين الجنسين، فقرر أن وضع المرأة كتابع للرجل ليس من معطيات الطبيعة، بل خطأ أوجده وضخّمه البشر.

ونختم بتأمل نص اخترته لجون لوك، تحت عنوان «المدنية والطبيعة» يؤكد فيه لوك أن البشر بوصفهم أحرارًا مستقلين بالطبع، لا يمكن إخراج أيّ فرد منهم من دائرة الاستقلالية والحرية، أي أننا لا نستطيع إخضاع أي إنسان لسلطة إنسان آخر إلا بموافقته، وهذه الموافقة تظهر غالبًا في صورة (العقود الاجتماعية) التي شرحناها بتكرار سابقًا، أو -بعبارة أخرى- في صورة الانضمام إلى مجموعة بشرية، أو تأليف مجموعة بشرية مع بشر آخرين، يعيشون فيها بسلام وأمان على أنفسهم وأموالهم، ولا يخشون فيها من الغرباء عنهم.

ومن الجميل في نص لوك، إشارة سياسية خاطفة من خلال فكرة النص، وهي أن أي مجموعة من الناس –كبرت أو صغرت- إذا شكلوا جماعة ما، ووضعوا لها تنظيما وقوانين عامة، فإنهم بذلك يكونون قد دخلوا في تكوين حكومة، سواء شعروا أم لم يشعروا.. إنهم يصبحون بذلك هيأة سياسية واحدة، للأكثرية منهم الحق في التصرّف، وفي إلزام الآخرين بما تم الاتفاق عليه من قبل الأكثرية.

والخلاصة عند لوك في هذا الموضوع هي أن كل إنسان ينتقل من «الطور الطبيعي» لينخرط في جماعة ما، يتحتم عليه الانصياع لقراراتها وقوانينها، كما يجب عليه الالتزام بتعاقداته مع الآخرين، وبهذه الطريقة نشأتْ وتنشأ كلُّ الحكومات الشرعية في العالم.

وبهذا ينتهي حديثنا عن جون لوك، بوصفه نموذجا لفلاسفة المذهب الواقعي الطبيعي أو العلمي.


وقبل أن ننتقل إلى التربية في ظل الفلسفة الواقعية بشكل عام، يجب أن نشير إلى أن المذهبين اللذين تناولناهما هما الأبرز، أعني الواقعية الكلاسيكية أو الدينية، والواقعية العلمية الطبيعية؛ ولكن هناك مذاهب أخرى للفلسفة الواقعية، منها مثلا الواقعية النقدية، والواقعية الوجدانية، والواقعية التحليلية.. الخ.
والزبدة أنه ظهر لنا الكثير عن الفلسفة الواقعية ومذاهبها من خلال كل ما سبق، ومن خلال ما كتبناه عن عدد من مذاهبها البارزة وفلاسفتها الكبار، وبقي أن نشير -بطريقة جامعة- إلى أبرز (مبادئ الفلسفة الواقعية) خاصة ما يلامس (التطبيقات التربوية).

فمن أجمل ما يستحق التناول مثلا لا حصرا، أن الفلاسفة الواقعيين يؤكدون دائمًا من الناحية التربوية على أهمية العمل على تكيف الإنسان وانسجامه مع بيئته، وهذا الانسجام مع البيئة لا يمكن أن يتحقق بشكل ممتاز في نظرهم إلا إذا فهم الإنسان عالمه فهمًا مميزاً أيضًا، ومن هنا يتبنى الواقعيون الفكرة القائلة: إن أساس التربية هو المادة الدراسية التي يجب أن توضع أمام الطلاب بشكل يجعلهم قادرين على استيعاب العالم المادي الذي يعيشون فيه.

ولذلك يكرر الفلاسفة الواقعيون دائمًا بعدة صياغات، أن التلميذ لكي يصبح إنسانًا متوازناً فكرياً ومتوافقا مع بيئته المادية والاجتماعية، لابد أن ننميه تنمية شاملة، بتعزيز كل الجوانب الإيجابية العقلية والبدنية والنفسية والأخلاقية والاجتماعية فيه.

فتنشئة الأطفال مثلا عند الواقعيين، لابد فيها أن تحقق قدرًا كبيرًا من التوافق والتناغم بين الطفل والقوانين الطبيعية؛ ولذلك يعلمون الأطفال احترام البيئة والناس في مجتمعاتهم، ودقة المشاهدة ، وقوة الملاحظة، وحدة التفكير الاستنتاجي خاصة، والمنهج العلمي الجيد، والحقائق الكبرى المعروفة، والقوانين الرئيسية في الطبيعة والبيئة الاجتماعية المحيطة بهم...الخ

ومن خلال الفقرتين السابقتين نفهم أن الواقعيين يعارضون المناهج الدراسية المثالية المعقدة، التي تركز على الحفظ والتلقين من الكتب المتوارثة، التي تبالغ في الاهتمام بها المدرسة المثالية كما قلنا في بداية هذه السلسلة.. فالواقعيون يتجهون اتجاها معاكسًا للمثاليين ومختلفاً عنهم، حيث يهتمون بوقائع الحياة قبل أيّ شيء نظري مثالي، ومن هنا يتحمّسون جدًا في الحث على ضرورة أن تكون المادة الدراسية هي الأساس والمرتكز في التربية، بحيث تجعل المادة الدراسية المتعلمين قادرين على التعرّف على العالم الذي يعيشون فيه عن قرب.

ولذلك وغيره تحذر الفلسفة الواقعية باستمرار من خطورة ممارسة غير المختصين المؤهلين لمهنة التعليم، خاصة في (تخطيط المناهج) ووضع المواد الدراسية، كما أن هذه الفلسفة تميل إلى استخدام أدوات وأجهزة التعليم المتقدمة التقنية والمبرمجة والتكنولوجية وما شابه ذلك في طرق التدريس، وتسلط الضوء على العلوم الطبيعية والاجتماعية التي تساهم بربط الطلاب بالواقع الاجتماعي، كالطب والهندسة واللغات والعلوم الطبيعية والتطبيقية والمهنية والحرفية المختلفة، مع اهتمام هذه الفلسفة أيضًا وبقوة بالترفيه عن المتعلمين والطلاب، باللعب والنشاطات المدرسية الثقافية والتدريبية البدنية والفنية والتجريبية الميدانية، كما تمتاز كثير من مناهجها غالبًا بالانتقال من السهل والأبسط إلى الصعب والأكثر تعقيدا.

ومن أهم المبادئ العامة لفلسفة التربية الواقعية غير ما ذكر، أنها فلسفة لا تعتقد بصحة وجود كثير من (النواحي الفطرية)، التي يرى كثير من فلاسفة المثالية أن الإنسان يرثها قبل ولادته وما شابه, وإنما تعتقد المدرسة الواقعية العكس، أي أن تأثر الإنسان بالبيئة الطبيعية والاجتماعية أكثر سيطرة عليه من الأمور التي يعتقد المثاليون أنها فطرية وضميرية ووراثية وما شابه.

والفرد عند الواقعيين دائمًا هو أساس المجتمع, ومن هنا اهتموا كثيرًا بموضوع (حريات الأفراد)، واشترطوا لتحققها السليم شروطاً حثوا على تطبيقها في المجتمعات، وعلى رأسها نيل الأفراد جميع الامتيازات والحقوق الشخصية، ولذلك دأبوا وسعوا إلى تحجيم سلطة الحكومة ونفوذها وقمعها للفرد داخل أيِّ مجتمع، وأن توضع قوانين أخلاقية تمنع من إساءة الفرد لغيره، وتعزز فيه الأخلاق الحسنة، ومعيارها عند بعض الواقعيين هو أن الأخلاق الحسنة هي ما تعارف غالبية الناس على استحسانه، والعكس صحيح أيضًا في الأخلاق السيئة.

ويعتقد كثير من أصحاب التوجه الواقعي أن الأفضل أن تكون المدارس والجامعات والمعاهد الدراسية، بكل ما فيها من مناشط ودروس ومقررات (متصلة ومرتبطة بالمجتمع) ارتباطاً وطيدًا. فالواقعيون يعترضون على التربية المثالية التقليدية، التي تعتمد على أسلوب التلقين والتعويد وتحفيظ الطلاب المعلومات والمقررات متجاهلة (التجارب والمهارات) والمشاركات الاجتماعية؛ لأن هذه التربية لا تعتبر تربية صحيحة كاملة في نظرهم؛ لضعف ارتباطها بالنشاطات المجتمعية.

فالواضح أن الفلسفة الواقعية جمعتْ بين العمل على تنمية عقول الأفراد وتمرينها وفق أساسيات المنطق من ناحية، والعمل على العناية بأجساد الأفراد أيضًا من ناحية ثانية ليكون الإنسان فعالا في مجتمعه بسلامة عقله وصحة جسمه.

ولو سلطنا الضوء أكثر على ركني العملية التربوية والتعليمية الرئيسيين، المعلم والطالب، فسنجد الواقعيين ينظرون إلى المعلم باعتباره المخطط لكل سلوكيات الطلاب، ليس الظاهر منها فقط، أي ليس الظاهر من السلوكيات القولية والفعلية، بل يشمل هذا التخطيط ضرورة اهتمام المعلم بالسلوكيات الداخلية الباطنة، كالتفكير وكل ما يدخل في عمل العقل ومشاعر النفس، ولذلك ركزوا على ضرورة أن يكون المعلم دائمًا قدوة فاضلة في كل أقواله وأفعاله وطريقة تفكيره وكل سلوكياته، وأن يكون المعلم موضوعيًا دائما في طرحه أمام تلاميذه، وأن يقف مع الحق بكل صدق دائمًا بثبات ودون تردد، وأن يحرص –وهذه نقطة مهمة جدًا- على أن يجعل الطالب منتجًا للمعرفة وليس مستهلكا لها فحسب.

أما التلميذ فيجب عند الواقعيين وغيرهم أن يكون حسن السيرة والسلوك والمواظبة والانضباط داخل الفصل، وأن تعزز فيه المدرسة احترام النظام داخل المدرسة وخارجها، وطاعة المعلم دون تغييب لشخصيته واستقلاله الفكري الضروري.. ونختم بنقطة هامة، وهي أن الفلسفة الواقعية تهتم تربويًا بموضوع (تفاوت القدرات والمهارات) أكثر من اهتمام غيرها من المذاهب الفلسفية، والمعنى مثلا أنهم يحرصون على تقسيم التلاميذ وفق القدرات والمواهب والخصائص العقلية والفكرية والجسدية، وكل ما شابه مما يدخل في باب الفروقات بين البشر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ابحث في موضوعات الوكالة

برنامج ضروري لضبط الموقع

صفحة المقالات لابرز الكتاب

شبكة الدانة نيوز الرئيسية

اخر اخبار الدانة الاعلامية

إضافة سلايدر الاخبار بالصور الجانبية

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة
تعرف على 12 نوع من الاعشاب توفر لك حياة صحية جميلة سعيدة

روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية

روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية
روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية

احصائية انتشار كورونا حول العالم لحظة بلحظة

احصائية انتشار كورونا حول العالم لحظة بلحظة
بالتفصيل لكل دول العالم - احصائيات انتشار كورونا لحظة بلحظة

مدينة اللد الفلسطينيةى - تاريخ وحاضر مشرف

الاكثر قراءة

تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

-----تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

الاخبار الرئيسية المتحركة

حكيم الاعلام الجديد

https://www.flickr.com/photos/125909665@N04/ 
حكيم الاعلام الجديد

اعلن معنا



تابعنا على الفيسبوك

------------- - - يسعدنا اعجابكم بصفحتنا يشرفنا متابعتكم لنا

جريدة الارادة


أتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الارشيف

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام
الانستغرام

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة
مؤسستنا الرائدة في عالم الخدمات الاعلامية والعلاقات العامة ةالتمويل ودراسات الجدوى ةتقييم المشاريع

خدمات نيو سيرفيس

خدمات رائدة تقدمها مؤسسة نيو سيرفيس سنتر ---
مؤسسة نيوسيرفيس سنتر ترحب بكم 

خدماتنا ** خدماتنا ** خدماتنا 

اولا : تمويل المشاريع الكبرى في جميع الدول العربية والعالم 

ثانيا : تسويق وترويج واشهار شركاتكم ومؤسساتكم واعمالكم 

ثالثا : تقديم خدمة العلاقات العامة والاعلام للمؤسسات والافراد

رابعا : تقديم خدمة دراسات الجدوى من خلال التعاون مع مؤسسات صديقة

خامسا : تنظيم الحملات الاعلانية 

سادسا: توفير الخبرات من الموظفين في مختلف المجالات 

نرحب بكم اجمل ترحيب 
الاتصال واتس اب / ماسنجر / فايبر : هاتف 94003878 - 965
 
او الاتصال على البريد الالكتروني 
danaegenvy9090@gmail.com
 
اضغط هنا لمزيد من المعلومات 

اعلن معنا

اعلان سيارات

اعلن معنا

اعلن معنا
معنا تصل لجمهورك
?max-results=7"> سلايدر الصور والاخبار الرئيسي
');
" });

سلايدر الصور الرئيسي

المقالات الشائعة