هناك اتهام يطال بعض المثقفين العاملين على قضايا النقد الثقافي والتاريخي، والتجديد الديني، ونحن منهم، وهو أننا كمثقفين نقف في مواجهة تراث الأمة، وكيانها الحضاري، ونسعى لهدم أركان الدين والإيمان من خلال “صرخاتنا” الفكرية العالية للتجديد والانفتاح الديني..
أذكر هنا أنني دعوت في إحدى المقابلات إلى ضرورة تنظيم العمل الديني حتى ضمن الجوامع المفترض أنها خاضعة لمؤسسات الدولة المدنية والوقفية، كمرجعية اجتماعية، وليس تابعة لهذا الشيخ أو ذاك العالم أو المرجع.. فواجهونا مباشرة بأننا نقف على طرفي نقيض مع قيم الإسلام وضد ما تمثله “الجوامع” كمراكز حضارية للإشعاع الفكري والتنويري.
طبعاً، هذا اتهام معيب ولا طائل منه، ونحن لا نستغرب صدوره في أجوائنا المضطربة والمشحونة هذه… وإذا فهم البعض من خلال دعواتنا المتكررة (إلى أهمية تطوير آليات الدعوة والعمل الديني، وتجديد مباني الفكر الإسلامي ذاته تلبية للحاجات المعاصرة الهائلة المتنوعة) أنها دعوة لإلغاء الدين ذاته، فهذا شأنه ومشكلته التي تتمحور حول أنه لم يفهم الفرق بين الفكرة وتطبيقها، ولم يميز عملياً بين الدين وبين متدينيه، بين الدين وبين المشتغلين فيه والمدّعين تمثيله، بين النص الديني وبين شارحيه ومفسريه والناطقين به.. بين النص الثابت وبين الفقه التاريخي..
وبكل تأكيد نحن –من موقعنا كمثقفين مشتغلين على قضايا النقد والتجديد الديني- سنبقى ندعو (ونكرر الدعوة) إلى “عقلنة” التفكير الديني، وكبح جماح ونفوذ “المتمشيخين”، وتطوير الخطاب الثقافي التاريخي الإسلامي بما يتناسب والتطورات والمستجدات والتحولات الزمكانية (الزمان والمكان)، وهذا أمر –في نظري- مقدور عليه عقلاً وعلماً وتفكيراً موضوعياً (وهناك تجارب منتجة في كثير من مواقع ومواطن الفكر الإسلامي الغني والأصيل) طالما أن العقل موجود، والمقدمات والبديهيات العقلية قائمة ولاشك لدى الكثيرين، والمصلحة الإنسانية هي الأولى بالاتباع دائماً وأبداً..
أما بخصوص أننا ضد “الجوامع”، نعم أعود وأكرر (بخصوص الجوامع ومسؤولية تكاثرها واستفحالها واستخدامها واستغلالها، وتجيير العمل العبادي فيها سياسياً ونفعياً) مسؤولية الكثير من القائمين عليها، والعاملين فيها، عن هيمنة التعصب والتطرف والعنف على واقع المسلمين وحياتهم حالياً، ولجوئهم إلى الخيارات الأقصوية الخلاصية الاصطفائية المطلقة.. أقول: هؤلاء الذين يشيدون مراكز العبادة “المسجدية”، ويبنون تلك الجوامع على نطاقات واسعة، تسيطر عليهم (وعلى جوامعهم) جماعات وتيارات تكفّر بعضها بعضاً فضلاً عن أنها تكفر أكثر من ثلاثة أرباع البشرية، وهي تحظى برضا وتأييد ودعم كثير من المسلمين للأسف، خاصّة في ظل أجواء الاستقطابات الدينية الطائفية الحادّة القائمة في منطقتنا العربية (وهي مفتعلة افتعالاً طبعاً بين جناحي الإسلام: السنة والشيعة).. فكيف يمكن والحال هذه، أن نزعم بأنه لا مشكلة في تلك الجوامع؟!، وكيف يمكن أن نغض النظر عن أمثال هؤلاء (القاصرين عقلياً) ممن يمارسون نشاطاتهم الدعوية والتبشيرية في جوامع ومدارس دينية ملحقة بها، يقولون ويتحدثون وينشرون فيها أفكار وسير وأدبيات وخطابات نهائية تدعي بأنهم يمتلكون الحقيقة الإلهية المطلقة دون باقي المسلمين أو البشر؟!..
نعم أنا أدعو علناً وبكل شفافية ووضوح، إلى التفكير الجدي بتنظيم آلية العمل الديني في مجتمعاتنا بصورة متينة وراسخة (خاصة في مجتمعنا السوري)، وأؤيد أية قرارات تؤدي إلى سد منافذ التطرف الديني القادمة من أي جامع هنا أو هناك.. حتى لو أفضتْ إلى إغلاق كثير من تلك الجوامع والمدارس الدينية الأصولية المتزمتة التي خرّجت (وتخرّج) طلائع أصولية سلفية غاية في التطرف والعنف والدموية.. ولمن نسي أو تناسى: من بين المسلمين، ومن تحت عباءة الإسلام، خرجت (وتخرجت) كثير من جماعات العنف البدائي التكفيري كالقاعدة، والنصرة، وداعش وغيرها..
نعم لابد من الإشارة إلى المشهد كله، كي لا نقرأ نصف الحقيقة وننسى (أو نتناسى) نصفها الآخر.. لابد من الإشارة بقوة إلى أنّ كثيراً من مظاهر التطرف والتعصب التي تكشّفت عنها أحداثنا الماسأوية في منطقتنا العربية، وظهرت واشتعلت نيرانها في دول عربية عديدة، مع عودة كثير من الناس إلى “ملاذاتها” الآمنة وتكويناتها التقليدية ما قبل وطنية، أقول: إنّ كثيراً من مشاهد ومظاهر التطرف والعنف تفجّرت بسبب وجود عوامل داخلية مؤهبة من الظلم والفشل السياسي والعطالة والبطالة، وتعرّض الناس هناك إلى ضغوط وجودية ومصيرية لم يتحملوها..
بمعنى أن الظروف الخارجية قد تدفع المرء في كثير من الأحيان –نتيجة شعوره بالظلم والتمييز- إلى اللجوء لأساليب ومناهج عمل متطرفة وعنيفة قد تكون خياره الأخير نتيجة حبسه في القمقم، وسد منافذ التغيير عليه من كل الجوانب.. ولكن بالإطار العام تربتنا الفكرية والتاريخية ومجالنا الحضاري الثقافي بمجمله كان –على الدوام- مناخاً ملائماً ومولداً وداعماً لنمو بذور العنف، ولهيمنة العنف والتطرف والتعصب الديني.. واستمراره وتغذيته وإطالته.
وكلما امتد أيُّ صراع، وطال أمده، تتكاثرُ أيادي المتلاعبين العابثين، وتختلطُ أوراقُه ومعطياته، وتتشابكُ مفاعيلُه ومقدماته، وتتعقّدُ مواقعُه، وتتكشّفُ التناقضاتُ الجوانية لعناصره، وتتظهّرُ اختلافاتهم على هيئة خلافاتٍ حادةٍ متراكبة ومتداخلة (صعبة الانحلال)، وتكبر الأنا الفردية، وتتغلّب لغة المصالح على لغة الشعارات والأهداف العليا.. ليصبح الثانوي والفرعي، هو الأولي والرئيسي، فينساق الفاعلون واللاعبون نحو احترابات داخلية دموية قاتلة ومميتة، لا عمل لهم ولا غاية أمامهم سوى السّعي (بلا وازع من أخلاق أو ضمير) لتكريس وجودهم (الفرعي والهامشي) على حساب الوجود الأكبر والقيمة الكبرى التي هي قيمة “الإنسان-الوطن”.
والواضح من “قوس الأزمات” العربي الحالي –الذي كان وما زال محط عبث وتلاعب إقليمي ودولي- أنّ كثيراً من مجتمعاتنا العربية ما تزال هشة وضعيفة للغاية، بل وازدادت هشاشتها وهزالتها، وذلك لسببين ذاتي ثقافي تاريخي يتعلق بغياب الوعي الفعال بهويتها العربية “التضامنية” الحقيقية لدى كثير من نخبها وسياسييها ومثقفيها، وسبب آخر موضوعي يتعلق بما تعرضت له على مديات زمنية طويلة من استبداد واستفراد واستبعاد وإقصاء منظّم كما سبق القول، وما جرى لها وعليها من تعقيم سياسي بالقوة والقمع والردع والخوف الوجودي، شلّ كل بذور العقلانية والإنتاجية فيها.. ولهذا عندما تعرضت تلك المجتمعات لهزات سياسية وأمنية كبرى، سرعان ما بدأتْ تتحطم وتتفكك وتتشظّى لمكوناتها الأولى، وتستجيب سلباً من فورها، لقوى اختراق مجالها الاستراتيجي.. حيث لم تعد الناس تمتلك قدرات وقوى ذاتية للمدافعة والممانعة والثبات.. وهؤلاء الناس في النهاية، بسطاء وغير معقدين، وما يريدونه ليس شيئاً صعباً أو غير مقدور عليها، الناس تريد عيشاً بسيطاً آمناً وسعيداً، تريد وضعاً تُحترم فيه، ويتم تقديرها، يكون مستنداً على بناء قانوني عملي صحيح ومتوازن، يعاملها كذوات عاقلة وحرة في خياراتها والتزاماتها في حياتها ومسؤولياتها..
* كاتب سوري
منبر الحرية، 7 فبراير/شباط 2017
حول الدين ومسؤولية المثقف النقدي, 3.5 out of 5 based on 2 ratings
نبيل علي صالح
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق