أولاً: كتب ماكس فيبر كتابه الشهير «الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية» كمحاولة لتفسير التفوق الرأسمالي الصناعي والتجاري الذي حصل في البيئات البروتستانتية من دون غيرها من البيئات الكالفانية والكاثوليكية، واعتمد على تحليلات علمية لهذا التفوق الرأسمالي الذي لم يتحقق إلا في بعض مناطق أوروبا وأميركا البروتستانتية وحدهما، ويعتبر أن هذا الفضل الذي تنامت فيه الحرية التجارية وتعاظم رأس المال، وازدهرت الإدارة القانونية لهذا التوسع في الأسواق، هو التوافق البديع الذي حصل بين العقل والاقتصاد والدين، وهنا يتحول ماكس فيبر في هذا الكتاب إلى رجل دين لاهوتي ليبرز أثر الأخلاق الدينية، وأن انسجام العقلانية الاقتصادية مع السلوك الدافع للعمل والإنتاج لا يتحقق إلا من خلال الأخلاق الدينية التي تعتبر أعظم مؤثرات السلوك الإنساني. (انظر: الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية، ترجمة محمد مقلد، طبعة مركز الإنماء القومي، ص 12).
أيضاً، يرى فيبر أن التحرر الديني الذي تمثّله البروتستانتية يتلوه تحرر اقتصادي تمثّله الرأسمالية، ومادامت البروتستانتية مذهباً يدعو إلى الحرية فإن الرأسمالية هي الوليد الطبيعي لها، لأنها تقوم على الحرية في علاقات الإنتاج، أما الكاثوليكية فهي دعوة محافظة منعزلة عن العالم مثلها الأعلى في الاعتكاف وفي النظر إلى السماء، وهي تربي دعاتها على اللامبالاة بالنسبة إلى الماديات بعكس الزهد البروتستانتي الذي يقوم على النظر في الذات الباطنة وعلى فهم العالم والدراية به. وينقل فيبر عن مونتسكيو صاحب روح القوانيين وصفاً للإنكليز البروتستانت: «أنهم أكثر شعوب العالم انتفاعاً من أشيائهم الثلاثة الكبرى: الدين، والتجارة، والحرية» (انظر: المرجع السابق 18-22).
ظهر فيبر متأثراً في حديثه عن روح الرأسمالية بالمبادئ التي وضعها بنيامين فرانكلين، وهي: الوقت هو المال، والثقة هي المال، والمال بطبيعته يولّد المال، والدافع الجيد هو في كيفية الحصول على مال الآخرين، ثم أكّد أهمية الأفعال اليومية لكسب ثقة الناس، مع ضرورة الظهور بمظهر الرجل الشريف الورع؛ لأجل جني المزيد من الأرباح، هذه المبادئ التي شرحها فيبر وربطها بالبروتستانتية من خلال مفهوم الشغل النسكي والطهورية المابعد لوثرية؛ مع ذمّ الفقر والتسوّل والتشجيع على توفير المال، وإثبات النزاهة الأخلاقية حتى مع التلبّس بالبرجوازية الثرائية، هذه الروح هي التي جاءت مع النزعة البروتستانتية وأثمرت هذه الظاهرة العالمية والتقدم الصناعي الذي قاد أوروبا للسيطرة الاقتصادية قروناً عدة.(انظر: المرجع السابق 28، 146).
وفي قراءة أخرى للكتاب يعلّق الدكتور حسن حنفي على هدف فيبر من تأليفه بقوله:» غرض فيبر إذاً هو أن تصبح الأفكار الدينية قوى تاريخية محركة، وذلك لإعطاء الرأسمالية دفعة جديدة وجدها في الدين، فأعطى الدين تفسيراً رأسمالياً وأعطى الرأسمالية تفسيراً دينياً، كما تفعل الاتجاهات اليمينية في الغرب، وكما يرفع الأميركيون البيض لافتات عليها (أيها المسيح أنقذنا من هؤلاء السود!)». (انظر: مقال» الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية: قراءة عربية» مجلة التسامح (التفاهم) العمانية 2011م).
ثانياً: وبعد هذا العرض السريع لكتاب فيبر، يمكن لنا أن نطرح مقاربة للموقف الإسلامي من الدين والرأسمالية؛ بحكم أن الحرية الاقتصادية في التملك والتوسع في التجارة في ظل تنافسية لا تتدخل الدولة فيها إلا بصفة إشرافية ضابطة لتوازناتها المحلية والسياسية؛ أصبحت شاناً عالمياً وأقرب للطبيعة الإنسانية لولا أزمنة الإقطاع والاشتراكية التي أخلّت بهذا المفهوم، ومن ثمّ نجد أن الرأسمالية في النظام الاقتصادي الإسلامي بينهما تشابه كبير، وقد يظهر الفرق بينهما من خلال تشريع الملْكيتين الفردية والجماعية بتنظيم متوازن يكفل الحاجات الخاصة والعامة، كما أن الحرية مقيدة بعدم الإضرار بالآخرين وتحقيق النفع وعدم مخالفة نص ديني، وغالب النصوص الشرعية المحرمة للمعاملات المالية؛ تدور حول ثلاثة محرمات رئيسة: الربا، والقمار، والغرر أو الخديعة، وهنا تظهر النفعية والعقلانية في شكل واضح في الفلسفة الاقتصادية الإسلامية، والأمر الآخر المهم؛ أن النظام التكافلي والأخلاقي من صميم الرأسمالية الإسلامية وليس خارجاً عنها أو تابعاً لها، (انظر: كتابي «إصلاح المال، طبعة دار الذخائر، الفصل التمهيدي)، ومن الشواهد على أهمية القيم الأخلاقية في المجال الاقتصادي؛ قول النبي عليه الصلاة والسلام: «التاجر الأمين الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين» (رواه الترمذي وقال: حديث حسن، رقمه: 3497) فاكتساب خصلتَي الصدق والأمانة فحسب؛ سبب لرفع مقام الإنسان إلى منزلة الأنبياء؛ الأعلى شرفاً وفضلاً، وهذا الشاهد الأخلاقي مَعْلَم اقتصادي أصيل في المجال الرأسمالي الإسلامي.
ثالثاً: والمتعلق بالحالة السعودية الراهنة ومدى تداخل الدين والمجتمع في تطور الاقتصاد؟ وهل التدين المحلي كان له أثر في الاقتصاد؟ وهل خضعت التجارة للدين أم العكس؟، ويمكن تقسيم الجواب على مستويات عدة، أوجزها في ما يلي:
على المستوى الجغرافي والتاريخي: نستطيع أن نفسر الحالة السعودية؛ بالزعم أن رأسماليتها المحلية تختلف من مكان إلى آخر، فشرق المملكة وجنوبها كان يغلب عليهما النشاط الزراعي والحرفي والدعم اللوجستي (عمال وصناعات خدمية) فهم أشبه بالكاثوليك وفق تقسيم ماكس فيبر للمجتمع الأوروبي، بينما الحجاز وبعض واحات نجد والقصيم كانت تمثل الثقل البرجوازي في السعودية لأكثر من مئتي عام، ومن ثمَّ يمكن تشبيهها بالبروتستانت بناء على التقسيم الفيبري، أما بقية مناطق المملكة؛ فإما بادية تهتم بالرعي أو عوائل برجوازية تقدم المساعدة لطرق القوافل النجدية والحجازية أو تشاركها في العمل، وهذا التوصيف يغلب على تاريخ المملكة قبل اكتشاف النفط، وبناءً على هذا التقسيم: هل كان التدين الحجازي والقصيمي على وجه الخصوص رافداً للعمل التجاري وتكوّن طبقة برجوازية ضمن هذا المجتمع؟. المتأمل في هذا المشهد يظهر له أن الحجاز استلهمت التجارة من موقعها وطبيعتها المقدسة بحكم وجود الحرمين وسفر الحجاج والمعتمرين إليها، أما القصيم وخصوصاً عنيزة وبريدة فقد كانتا تمثلان مصدراً رئيساً للمنطقة كلها عبر نقل البضائع من فارس والعراق والشام ومصر لإدخالها إلى المناطق الداخلية عبر قوافل (العقيلات) التي كانت تمثّل شريان التجارة لأكثر من أربعمئة عام حتى عام 1949م، يقول الرحالة محمد شفيق أفندي مصطفى الذي زار نجد في عام 1926م: «أهل القصيم، لا سيما سكان بريدة وعنيزة أغنى أهل نجد جميعاً وأكثرهم تحضراً وأنشطهم حركة وأعرفهم بأساليب التجارة» (انظر: كتاب نجديون وراء الحدود، لمؤلفه عبدالعزيز إبراهيم، دار الساقي 2014م، ص181).
أما على المستوى الاجتماعي والديني فيمكن أن نعتبر موطن البرجوازية التجارية في المملكة كان القصيم والحجاز وبعض العوائل القليلة في بقية المناطق، والمجتمع الحجازي يتوارث التجارة من خلال إشرافهم على الواجبات الدينية التي يقدمونها لضيوف بيت الله في الحج والعمرة، فالدور الوظيفي للدين كان سبباً رئيساً للتفوق التجاري، ولا أظنه كان يتطلب أخلاقاً دينية بحكم تعامل الزائرين اضطراراً معهم، لكن المعروف عنهم الكرم والعلم بالمناسك ما أثمر حصولهم على مكافآت وقفية قدمها الحجاج لهم بعد انتهائهم من المواسم، بينما المجتمع القصيمي معروف عنه أنه المجتمع الأكثر تديناً والأكثر ممارسة للتجارة، وهذا يشير إلى معنى أن النموذج التديني لا يمانع ممارسة التجارة في شكلها البسيط لا المعقد، وغير المنفتح عالمياً، وأصبح الوسط الاجتماعي المتدين أهم دافع لممارسة التجارة، أو بعبارة ماكس فيبر:»نمط التربية التي يرسخها المناخ الديني لدى الوسط العائلي» (الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية ص18). وهذا ليس ممنوعاً في الشرع ولا العادة؛ فالصحابة المهاجرون كانوا من كبار تجار المدينة ولم ينفِ هذا العمل فضلهم وسابقتهم في الدين، ولكن الخلل يكمن في صور الاستغلال والتمظهر بالدين لجمع المال على أساس مطلق الموثوقية في التعامل مع المتدين، وربما يقفز إلى الذهن الأنموذج اليهودي الممتهن للتجارة في أحط صورها الربوية والاستغلالية بالاعتماد على التوظيف التوراتي المحرَّف لتبرير هذه الممارسات من البعض.
أما على المستوى المعاصر فقد تشكلت حاضنات تجارية دينية أوجدت طبقة من البرجوازية التي تجمع بين المثالية في شخصية الداعية والعالم وبين التجارة القائمة على توظيف الفتوى والرقية وتفسير الأحلام والسمسرة العقارية أو التزكية لشركات تجارية في أسواق الأسهم المحلية، حتى أضحى هناك العديد من القوائم التي يقف خلف كل قائمة عدد من طلاب العلم والدعاة، وهذا الظاهرة التي برزت خلال العقدين الماضيين، كشفت عن أخطاء أخلاقية وعلمية كبيرة؛ تجيز بعض طرق التمويل الشكلي من خلال هيبة لجنة الإجازة الشرعية، ثم يظهر بعد ذلك وقوعها في مخالفات بدهية اكتنفت تلك العقود (!)، أما ظاهرة كثرة الرّقاة ومفسري الأحلام فقد برزت بقوة خلال فورة الصحوة في السعودية، ثم انتقلت العدوى إلى بعض المجتمعات الإسلامية، التي تماهت كثيراً مع تلك المخالفات العميقة وغضت الطرف لاعتبارات شكلية وحزبية تحقق بعض النفوذ والمنفعة، أما السمسرة من خلال تزكية قوائم مالية أو تجارات وهمية فقد كشفت للمجتمع عن خطورة قناع التزلف بالدين لأجل جمع الأموال وكسبها من غير تعب أو جهد.
وفي الختام... أعتقد بأن الحالة السعودية مرت بتداخلات متعددة بين رأسماليتها وأخلاقها الدينية وهي تفاعل مجتمعي طبيعي، ولكن تبقى التساؤلات مفتوحة لمزيدٍ من التحليل والدراسة عن تمازج أشد الحالات تديناً في المجتمع مع أكثر الممارسات التجارية الأبعد عن الزهد والتحوط اللذين يظهران في سلوكاتهم الطهورية الظاهرة ويختفي في شركاتهم التجارية !؟، ولا أدري ونحن في أعتاب مرحلة جديدة من البحث عن بدائل غير النفط وثورة اقتصادية وقانونية تعيد ترتيب البيت التجاري الداخلي من خلال رؤية 2030 الواعدة؛ هل ستقوم هذه الطبقات البرجوازية وسكان المناطق التجارية واللوجستية؛ زراعياً وحرفياً وصناعياً؛ بدورهم التاريخي كرافعة للاقتصاد ومساهم في معالجة تحديات العجز والبطالة وتوحش الرأسمالية؟... ولعلي أترك الجواب للعشرية المقبلة، والأمل كبير والله الموفق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق