تصريح وزير الدفاع الأمريكي باستعداد بلاده لصراع محتمل مستقبلا يختلف عن "الحروب القديمة"، ينبئ بالتحول إلى نمط حروب غير تقليدية.
سيعتمد هذا النمط بالأساس على مخرجات التكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي، التي أحدثت طفرة هائلة في الصناعات الدفاعية والعسكرية، كل هذا سينعكس على جيوش المستقبل وطبيعة المهام، التي قد تقوم بها، في إدارة الحروب.
تضمنت تصريحات وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، في أول كلمة سياسية له خلال زيارته القيادة الأمريكية في المحيط الهادي بهاواي، مايو الماضي، إشارات إلى وجود تصور مختلف حول صراعات وحروب المستقبل، إذ قال بوضوح إن على الولايات المتحدة الاستعداد لصراع محتمل في المستقبل لا يشبه كثيرا "الحروب القديمة" التي "استهلكت" وزارة الدفاع الأمريكية لفترة طويلة.
كما دعا "أوستن" إلى "حشد التقدم التكنولوجي وتحسين دمج العمليات العسكرية على الصعيد العالمي" من أجل "فهم أسرع، واتخاذ قرار أسرع، والعمل بصورة أسرع"، وأضاف: "الطريقة التي سنقاتل بها في الحرب الرئيسية المقبلة ستبدو مختلفة تماما".
في ضوء حديث "أوستن"، يمكن القول إن التصور الأمريكي لصراعات وحروب المستقبل يرتكز على التكنولوجيا المتقدمة، خاصة الذكاء الاصطناعي، التي أصبحت تشكل معالم الأجيال الجديدة من الأسلحة الدفاعية والعسكرية، واختلاف ساحات حروب المستقبل عن تلك الحروب التقليدية، فلا تعتمد على المواجهات المباشرة وإنما تقوم على إدارة الصراعات والحروب عن بُعد، عبر الهجمات السيبرانية والفضاء كأهم أدوات الردع، والتركيز على الأدوات التي تمكّن قيادات الجيوش من "الفهم الأسرع، واتخاذ قرار أسرع"، على حد تعبير وزير الدفاع الأمريكي.
هذا يعني أن الولايات المتحدة ترى أن الاستعداد لصراعات وحروب المستقبل يتطلب أدوات غير تقليدية لإدارتها، تعتمد على الكيف والنوع والجودة وضرورة امتلاك المهارات القيادية، التي تمكنها من إدارة هذه الحروب بكفاءة ومرونة عالية، والتحول في العقيدة القتالية للجيوش، لتواكب صراعات وحروب المستقبل.
سيتركز شكل الحرب الجديدة على الأدوات الرادعة، التي يمكن من خلالها أن تؤدي القوة العسكرية وظيفتها في تغيير سلوك الأطراف المتصارعة.
ولعل من أهم مظاهر التحول في العقيدة العسكرية الأمريكية، والتي بدأت في التبلور نهاية حكم الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب، فكرة الانسحاب من مناطق الأزمات والصراعات التي أنهكت الجيش الأمريكي، وكلفت الولايات المتحدة تريليونات الدولارات.
فالحروب التي خاضتها أمريكا في أفغانستان والعراق خلال العقدين الماضيين لم تضر فقط بمصالحها ولا بهيبة الجيش الأمريكي، وإنما أيضاً استنزفت قدراته وأخَّرت عملية تحديثه لدرجة دفعت العديد من المسؤولين الأمريكيين إلى القول بأن الجيش الأمريكي "لا يزال يستخدم تقنيات تعود إلى عقدين أو أكثر"، فيما شهدت القوة العسكرية لدول أخرى، كروسيا والصين، طفرة غير مسبوقة صارت تهدد التفوق الأمريكي.
لهذا، فإن الحديث الأمريكي المتصاعد خلال الآونة الأخيرة عن حروب وصراعات المستقبل لا ينفصل عن كل ما سبق، ويأتي في سياق التحول إلى مرحلة جديدة تعيد فيها الولايات المتحدة أولوياتها لتكون على أهبة الاستعداد للتعامل مع حروب المستقبل.
لا شك أن الحديث عن صراعات وحروب المستقبل يتطلب من جيوش العالم الاستعداد لمواكبة متطلباتها والإلمام بأدواتها، حتى تتمكن من مواجهة التحديات والمخاطر والتهديدات، التي قد تثيرها على الأمن القومي والمصالح الاستراتيجية للدول.
ويرى خبراء أن جيوش المستقبل ستختلف في ملامحها وطبيعة مهامها عن الجيوش التقليدية، إذ ستركز بالأساس على النوعية والكيف، سواء فيما يتعلق بالعنصر البشري أو الأسلحة، وأنها ستكون أقرب إلى القوة الشاملة الصغيرة، التي تمتلك ما يكفي من الأفراد المؤهلين والمعدات العسكرية الحديثة القادرة على هزيمة قوات معادية تقليدية ضخمة.
من الواضح أن الولايات المتحدة تقود العالم نحو الاستعداد لمرحلة جديدة من صراعات وحروب المستقبل، التي تستفيد من خبرات ودروس الحروب التقليدية التي شهدها العالم خلال العقدين الماضيين، وهي حروب ترتكز على التكنولوجيا المتطورة، التي تعيد تشكيل منظومات الدفاع والأسلحة، وصياغة الاستراتيجيات الدفاعية لتأخذ في الاعتبار المنظور الشامل لهذه الصراعات، فهي ليست فقط عسكرية وإنما اقتصادية وتكنولوجية وثقافية وسياسية، وترتبط بالصراع على المكانة والنفوذ في النظام الدولي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق