التديّن هو التطبيق العملي لتعليمات الدين سواء كان سماويّا أو وضعيّا.
القاهرة – ظل عدم التفريق بين الدين والتديّن كفعل اجتماعي، ملازما للكثير من الثقافات والحضارات التي مازالت تُصر على عدم الفصل بينهما رغم الوعي الكامل بأن التديّن متحرّك وخاضع لقوانين التعدّد والحركة.
لا يمكن الحسم في هذه المسألة دون تبيان الفروقات بين الدين والتديّن، فالدين هو مجموعة المعتقدات وقد يكون إحدى الديانات السماوية أو أحد الأديان التي تكون صنيعة البشر، أما التديّن فهو التطبيق العملي لتعليمات الدين سواء كان سماويّا أو وضعيّا، أي انسياق البشر وراء تعليمات الدين وتطبيقها.
هذا المبحث الهام، غاص في شرحه المفكر المصري عبدالجواد ياسين في دراسة بعنوان “اللاّهوت” تطرق فيها إلى موضوع الدين من زاوية محددة هي زاوية العلاقة بينه وبين الاجتماع.
ورأى المؤلف أن مفهوم الدين يفترض الحديث عن طرفين متمايزين، وهو المعنى الذي يوفره تصور الدين في النسق التوحيدي. ووفقا لهذا النسق فإن “الدين” مطلق مفارق صادر من خارج الاجتماع، وبالتالي فهو واحد ثابت في ذاته لا يتعدد ولا يتطور. ولذلك فإن “التدين”، ليس هو الدين، بل هو فعل من أفعال الاجتماع التي تخضع بالضرورة لقانون الكثرة “التعدد” وقانون الحركة “التطور”.
ويضيف: أما الديانة فهي صيغة من صيغ التدين؛ صيغة جماعية ذات خصائص سلطوية. وهي الصيغة التي سادت منذ البداية داخل الاجتماع البشري نتيجة لطابعه الجماعي المعروف “ذوبان الذات الفردية في كيان العشيرة والقبيلة والدولة”. وقد تواصل حضورها عبر نسق التدين التوحيدي من خلال اليهودية التي دشنت هذا النسق، عبر تجربة ذات طابع جماعي إثني صريح.

ويشدد عبدالجواد على أن الخصائص السلطوية للديانة تكرست داخل النسق التوحيدي بفعل وجود المؤسسة الدينية وتداخلها مع الدولة التي ظلت تحافظ على ارتباطها التقليدي بالدين، مقرا بأنه رغم الطابع المعقد للبدايات اليهودية، يمكن القول إن الديانة “التوحيدية”، التي كانت تنشأ على يد المؤسس بمنطوق بسيط نسبيا يدور حول المطلق، كانت تؤخذ في التضخم تدريجيا عبر ممارسات التدين التي تنضم إلى هذا المنطوق، وتكتسب بقرار المؤسسة صلاحيات السلطة المؤبدة للمطلق. وظلت المؤسسة ترادف بين معنى الدين وبنية الديانة، ودائما كان حجم ما هو اجتماعي أكبر مما هو مطلق “إلهي” في منطوق هذه البنية.
ويفكك ياسين بنية الديانة “التوحيدية” القائمة بغرض التمييز داخلها بين ما هو مطلق يمثل الدين وما هو اجتماعي ناتج عن تاريخ التدين، موضحا أن “خطاب التفكيك موجه، بالأساس، إلى العقل التوحيدي. وهو يستصحب مقولات هذا العقل ومصادراته الأولية، لا ليناقش مصداقيتها على طريقة الكلام، ولكن ليضع يده على بنية الديانة كما هي في ذاتها الآن،.
ويضيف: وفقا لهذا المعيار يمكن القول إن المطلق أو “الدين في ذاته”، داخل بنية الديانة، ينحصر في مبدأ الألوهية والأخلاق “الله-القيم الكلية”. أمّا بقية مفردات البنية فتنتمي إلى دائرة التدين التي صنعها التاريخ الاجتماعي للبشر: التشريعات “الأحكام التكليفية” والطقوس “شعائر العبادة” واللاهوت “التمثيلات أو التصورات المتنوعة لفكرة الألوهية داخل العالم”، فقد أسفرت جميعا باستقراء النسق التوحيدي عن أشكال متعددة ومسارات متطوّرة وثيقة الارتباط بالثقافات التاريخية المجاورة وامتداداتها الميثولوجية القديمة، فيما ظلّت الألوهيّة “المبدأ لا التمثلات” ثابتة كمشترك وحيد داخل هذا النسق.
ويهتم ياسين بالتشريع أو التكاليف ذات الطابع الاجتماعي كشقّ من بنية الديانة، فدار “النقاش حول فكرة القانون على أنه واقعة اجتماعية محضة تعكس علاقات تاريخية وإقليمية خاصة، وأنه يظل كذلك حتى بتضمنه نص ديني”.
وركز على التشريع الإسلامي حيث فحص طبيعته التاريخية بدءا من ظهوره في النص القرآني كرد فعل لظروف الواقع المحلي، وبالاستعارة المباشرة منه، حتى تشكله المتطور بواسطة الفقه في منظومات متعددة تعكس التعددية المذهبية والجغرافية التي أفرزها التطور السياسي والاجتماعي العام.
ويحلل ياسين بنية الديانة، حيث يرى أن الموضوع “هو اللاهوت الإسلامي من حيث هو ككل لاهوت فعل تدين صادر عن تاريخه الخاص؛ أي من حيث هو عموما فعل اجتماعي ينشأ عن مؤثرات قائمة في الواقع المحلي، ويتغير نتيجة للتحولات التي تطرأ على هذه المؤثرات، ومن حيث هو، امتداد لنسق ديني سابق نشأ وتطور في محيط جغرافي وثقافي مجاور”.
بشأن هذه الفرضية السابقة يعيد المفكر المصري اختبارها من خلال إعادة قراءته ضمن التاريخ الاجتماعي. وهو ما يعني تناوله من جديد في سياقين متمايزين زمنيا، ولكنهما متداخلان على مستوى الموضوع الأول: سياق النسق العام التوحيدي الذي ينتسب إليه النسق العام شق من تاريخ اللاهوت الإسلامي، واللاهوت الإسلامي شق من موضوع النسق العام. أما الثاني فهو: سياق تكونه وتطوره الذاتي، من لحظة التشكل في حقبة التأسيس حتى لحظة الكلام المذهبية في حقبة التدوين، ومن هذه اللحظة الأخيرة حتى لحظة الفحص التي تفتح النقاش على أسئلة المستقبل.
ويوضح أنه في السياق الأول “تهدف القراءة إلى استكشاف أكثر ضبطا للعلاقة بين تباين المناخات الاجتماعية، التي ظهرت فيها ديانات الوحي الثلاث، وتباين صور اللاهوت في هذه الديانات، التي تشترك في مقولة الوحي عن مطلق واحد مفارق للعالم”. وهذا الاشتراك يمكّننا من الحديث عن نسق كليّ موضوعيّ، وعن بنية هيكلية واحدة للاهوت التوحيدي بغضّ النظر عن مادته الموضوعية المتنوعة. وهو أيضا ما يبرّر الحديث عن التباينات الاجتماعية “الديموغرافية، السياسية، الفردية والجماعية” كسبب للتباينات اللاهوتية؛ فالقول بالوحي عن المطلق المفارق ذاته كان يقتضي وجود تصور واحد للمطلق داخل العالم؛ أي يقتضي عدم تعدّد الديانات التوحيدية؛ إذ يعني الوحي أنّ الله الواحد هو الذي يُملي صيغة اللاهوت ليعرِّف بذاته على الصورة التي يريد للبشر أن يعرفوه بها. فلماذا تتعدّد صور اللاهوت في كلّ مرة يُقال فيها بتجدّد الوحي؟ أو لماذا تتعدد الديانات؟
ويقول “هذا سؤال مشكلة بالنسبة إلى ديانات الوحي؛ فهي، من ناحية، تنكر ‘إمكانية’ التغير في طبيعة الله المطلق المبرّأ من الزمن، ومن ثَمَّ تتنكر لفاعلية التنوع الطبيعي الاجتماعي الذي يفرض التعدّد كواقعة مادية، وهو ما يضع الدين إلى الأبد في مسار صراعي لا مفر منه”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق