قبل الشروع في دراسةٍ موضوعية لعلم الاجتماع التاريخي للأمم والقومية، يجب أن يكون لدينا أولًا فكرة واضحة عن الموضوعات التي ندرسها. ثانيًا: ينبغي علينا دراسة العمليات الاجتماعية والموارد الثقافية لتكوُّن الأمم واستمراريتها. ثالثًا: تتطلب مسألة أمم ما قبل الحداثة نظرة تاريخية عميقة ودراسة ثقافية في علم أنساب الأمم تعود إلى الشرق الأدنى القديم والعالم الكلاسيكي، إذا كنا سنقيِّم التقاليد التي تكوَّنت من خلالها أنواعٌ مختلفة من الهُويات القومية في أوائل العصر الحديث. تلك إذنْ مهام كل فصلٍ من الفصول الثلاثة القادمة.
يرى التصوُّر الحداثي للأمة أنها الشكل السياسي الأساسي للمجتمع البشري الحديث. بالنسبة إلى معظم الحداثيين، فإن الأمة تتصف بما يلي:
(١)
إقليم واضح المعالم، ذو مركزٍ ثابت وحدودٍ مرسومة بوضوح ومُراقَبة.
(٢)
نظام قانوني موحَّد، ومؤسسات قانونية مشتركة داخل إقليم معين، تخلق مجتمعًا قانونيًّا وسياسيًّا.
(٣)
مشاركة من قِبل كل الأعضاء أو «المواطنين» في الحياة الاجتماعية وسياسات الأمة.
(٤)
ثقافة عامة جماهيرية تُنشر من خلال نظام تعليمي جماعي موحَّد عام.
(٥)
حكم ذاتي جماعي راسخ في دولة إقليمية ذات سيادة لأمة معينة.
(٦)
عضوية الأمة في نظام «دولي» لمجتمع الأمم.
(٧)
إقرار شرعية الأمة، إنْ لم يكن خلقها، من خلال أيديولوجية القومية.
هذا، بطبيعة الحال، نوعٌ خالص أو مثالي لتصوُّر الأمة الذي تتشابه معه أمثلة بعينها، ويمثل معيارًا للأمة في حالاتٍ محددة. وعلى هذا النحو، أصبح تقريبًا وعلى نحوٍ مُسلَّم به «المعيار» الحاسم الذي يمثل أيُّ تصورٍ آخر غيره انحرافًا عنه.1
(١) مشاكل التصوُّر الحداثي
إلا أنَّ الاستقصاء بمزيدٍ من الكثب يكشف أن التصوُّر الحداثي للأمة ذو خصوصية تاريخية. وعلى هذا النحو، فإنه يتعلق فقط بشكلٍ واحد من الأشكال التاريخية للمفهوم، وهو «الأمة الحديثة». وهذا يعني أنه شكل مختلف معين من المفهوم العام للأمة، له سماته الاستثنائية، التي قد يشترك في بعضها فقط أنواعٌ أخرى أو أشكالٌ مختلفة من المفهوم العام.
هل يمكن أن نكون أكثر تحديدًا فيما يخص أصل النوع المثالي ﻟ «الأمة الحديثة»؟ إن إلقاء نظرةٍ على سماته البارزة — الإقليمية، والوحدة القانونية، والمشاركة، والثقافة الجماهيرية والتعليم الجماعي، والسيادة، وغيرها — يضع هذا التصور مباشرةً فيما يطلق عليه التقليد «الإقليمي المدني» لأوروبا الغربية وأمريكا الشمالية في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. لم يصبح تصوُّر الأمة الذي تَميَّز بالثقافة المدنية العقلانية لعصر التنوير — لا سيَّما المرحلة الأخيرة منه المتعلقة بالاختيار ما بين الأسلوب «الأسبرطي» وأسلوب «الكلاسيكية الحديثة» المرتبطة بالفلاسفة روسو وديدرو وديفيد — شائعًا إلا في عصر الثورات والحروب النابليونية. وكما وثَّق هانز كون منذ سنواتٍ عديدة، فإن هذا التصوُّر للأمة ازدهر أساسًا في تلك الأجزاء من العالم التي تولت فيها الطبقة البرجوازية القوية مهمة الإطاحة بالحُكم الملكي المتوارَث والامتياز الأرستقراطي من أجل «الأمة». ليس هذا هو نوعَ الأمة المتخيَّلة، ولا حتى المكوَّنة، في أجزاءٍ أخرى كثيرة من العالم، كانت فيها تلك الظروف الاجتماعية أقل اكتمالًا أو غائبة تمامًا.2
الآن، إذا كان مفهوم «الأمة الحديثة» وسماته الاستثنائية مستمدًّا من ظروف القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر في الغرب، فإن النموذج المثالي الحداثي متحيِّز حتمًا؛ لأنه يشير إلى نوعٍ فرعيٍّ محدد من المفهوم العمومي للأمة، وهو نوع «الأمة الحديثة»، وإلى نوعٍ واحدٍ فقط من القومية، وهو نوع القومية الإقليمية المدنية. وهذا يعني أن نسخةً معينةً من مفهوم عام تُمثِّل النطاق الكامل من الأفكار التي يشملها ذلك المفهوم؛ نسخة تحمل كل سمات الثقافة الخاصة بزمانٍ ومكانٍ مُعَينَين. وهذا يعني أيضًا أن التأكيد على حداثة الأمة ليس إلا إطنابًا، وهو إطنابٌ يستبعد أي تعريفٍ منافس للأمة يخرج عن إطار الحداثة والغرب. لقد أصبح التصوُّر الغربي للأمة «الحديثة» مقياسًا لإدراكنا مفهوم الأمة «في حد ذاتها»؛ مما أسفر عن جعْل كل التصوُّرات الأخرى غير مشروعة.
بعيدًا عن الأسباب المنهجية، فإن ثَمَّةَ عددًا من الأسباب التي تستوجب رفض مثل هذا الشرط التعسُّفي. في المقام الأول، مصطلح أمة باللاتينية «ناشيو» مشتقٌّ في نهاية الأمر من فعل «ناشي» الذي يعني «يُولَد»، ولمعنى هذا المصطلح تاريخٌ طويل، إنْ لم يكن معقدًا، يعود إلى قدماء الإغريق والرومان. وكما رأينا، له استخدامه الذي لم يكن مقتصرًا على طلاب في جامعات العصور الوسطى يوصفون بِناءً على موقعهم الجغرافي، أو على أساقفة مجتمعين في المجالس الكنسية وُلِدوا في أجزاءٍ مختلفة من العالم المسيحي. إنه مستمَدٌّ من ترجمة الفولجاتا اللاتينية للعهد القديم والعهد الجديد، ومن كتابات آباء الكنيسة الذين جعلوا اليهود والمسيحيين في مواجهةٍ مع الأمم الأخرى الذين يُطلَق عليهم في مجملهم «تا إثني» وتعني الأمميين. استخدمَت الإغريقيةُ القديمة نفسها مصطلح «إثنوس» لكل أنواع الجماعات المشتركة في صفات متشابهة (وليس البشر فقط)، لكن المؤلفين أمثال هيرودوت استخدموا أحيانًا المصطلح الشبيه «جينوس». وفي هذا الصدد، لم نكن مختلفين عن اليهود القدماء، الذين استخدموا في العموم مصطلح «آم» للإشارة إلى أنفسهم — آم إسرائيل — واستخدموا مصطلح «جوي» للإشارة إلى الشعوب الأخرى، لكن هذا النمط لم يكن متسقًا إلى حدٍّ بعيد. كان الرومان أكثر اتساقًا؛ إذ خصُّوا أنفسهم بتسمية «بوبيولوس رومانوس» — وتعني الشعب الروماني — وخصَّصوا المصطلح الأقل أهميةً «ناشيو» — ويعني أمة — للإشارة إلى غيرهم، لا سيَّما القبائل البربرية البعيدة. إلا أنه مع الوقت أصبحت كلمة «ناشيو» تشير إلى كل الشعوب، بما فيهم قوم المرء وعشيرته. لا يمكننا اعتبار استخدامات ما قبل الحداثة لكلمة «ناشيو»/أمة استخداماتٍ خاصةً بوصف الأجناس البشرية على نحوٍ صِرف؛ فهي على النقيض من المفهوم السياسي للاستخدام الحديث؛ لأن هذا لا يمثل على نحوٍ كافٍ مجموعة حالات العالم القديم وعالم العصور الوسطى التي جمعت بين كلا الاستخدامين، بدايةً من إسرائيل القديمة. على الرغم من أن معانيَ المصطلحات تمر غالبًا بتغييرٍ كبير مع تعاقُب الأزمنة، فإننا ما زلنا عاجزين عن صَرف النظر بسهولةٍ عن التاريخ الطويل للاستخدامَين السابقَين للمصطلح قبل ظهور الحداثة.3
تتعلق مشكلة أخرى بالتصوُّر الحداثي ﻟ «أمة العوام». لقد تناولنا ذلك جزئيًّا فيما يتعلق بفرضية ووكر كونور التي تقول إن مشاركة العوام في حياة الأمة هي معيار وجودها؛ ومن ثَمَّ، في ظل الحكم الديمقراطي، فإنه توجد حاجة إلى منْح حق التصويت لأغلبية السكان كشرط لوصفها بالأمة. إلا أن الأمر يتجاوز هذا الموضوع بعينه. يَعتبر الحداثيون أمثال كارل دويتش، وإرنست جيلنر، ومايكل مان «أمة العوام» الشكلَ الأصلي فقط للأمة؛ ونتيجةً لذلك يتعاملون مع الأمة على أنها ظاهرة حديثة تمامًا. وبطبيعة الحال، فإن واضعي النظريات مؤهلون على نحوٍ تام لوصف ظاهرة معينة — «أمة العوام» في هذه الحالة — بأنها «الحقيقة» السياسية الوحيدة، واعتبار كل نسخة أخرى ثانوية وغير حقيقية، إن لم تكن مضلة. إلا أنه إذا استطاع مؤرخو العصور الوسطى إظهار الأساس التاريخي والأهمية التاريخية للنسخ الأخرى، وهذه بالضبط نقطة محل بحث من قِبل أتباع فلسفة الحكمة الخالدة الجديدة، فإن موقف الحداثيين يصبح مرة أخرى متعسفًا ومقيدًا على نحوٍ غير ضروري. وهذا ينطبق أيضًا على الزعم الأضعف القائل إن أمة العوام الحديثة هي النسخة «الأكثر تطورًا» للأمة، وأن كل النسخ الأخرى ناقصة إلى حدٍّ ما، هل هذا يعني أننا لا يمكننا التفكير في أنواعٍ أخرى من الأمم استُبعد منها العوام؟ على أي حال، حتى وقتٍ طويل في الحقبة المعاصرة قليلٌ من الأمم المعروفة يمكن وصفه بأنه «أمم عوام»؛ لأن أعضاءً كثيرين من سكانها، لا سيَّما الطبقة العاملة والنساء والأقليات العرقية، ظلوا فعليًّا مستبعَدين من ممارسة الحقوق المدنية والسياسية؛ لذلك، يجب على الأقل أن نكون مستعدين لقَبول احتمالية وجود أنواع أخرى من «الأمم» بعيدًا عن «أمم العوام».4
ثَمَّةَ مشكلة أخرى تنبع من التأكيد الحداثي الشائع القائل إن الأمم ناتجة عن القوميات (بمساعدة الدولة أو دون مساعدتها)، ونظرًا لأن «القومية»، باعتبارها حركة أيديولوجية، لم تظهر قبل القرن الثامن عشر، فالأمم لا بد أن تكون حديثة أيضًا. إلا أننا حتى لو قبلنا أن القومية، باعتبارها أيديولوجية منهجية، لم تظهر قبل القرن الثامن عشر، فإن افتراض أن القوميين فقط هم من يُكوِّنون الأمم هو افتراض مشكوك فيه، وهذا صحيح حتى لو عرفنا حركة القومية «الأيديولوجية»، بالإضافة إلى الأيديولوجيات الأخرى بمصطلحات «حداثية» نسبيًّا، وأعتقد أننا يجب أن نفعل ذلك فقط من أجل تجنُّب الخلط بينها وبين مفاهيم أكثر عموميةً مثل مفهوم «الحس الوطني» أو مفهوم «الوعي الوطني».
الآن، عند قول «القومية» فإنني أقصد «حركة أيديولوجية للحصول على الاستقلال الذاتي والوحدة والهُوية والحفاظ عليها نيابةً عن سكان يعتقد بعض أفراد منهم أنهم يُكوِّنون أمة فعلية أو محتملة.» وبالمثل، أعتقد أننا نستطيع تحديد «عقيدة أساسية» للقومية؛ أي مجموعة مبادئ عامة يتمسك بها القوميون، على النحو الآتي:
(١)
العالم مقسَّم إلى أمم، لكلٍّ منها تاريخها، ومصيرها، وشخصيتها.
(٢)
الأمة هي المصدر الوحيد للسلطة السياسية.
(٣)
من أجل الحرية لا بد أن ينتميَ كل فرد إلى الأمة ويمنحها ولاءً أساسيًّا.
(٤)
يجب أن تمتلك الأمم أقصى قدرٍ من الاستقلال الذاتي والتعبير عن الذات.
(٥)
العالم العادل والسلمي يجب أن يكون قائمًا على تعدديةٍ من الأمم الحرة.
على هذا النحو، لم يتبنَّ الكُتَّاب والمفكرون في أوروبا الغربية وأوروبا الوسطى من روسو وهيردر إلى فيشته وماتسيني أيديولوجياتِ «القومية» إلا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر؛ ومن ثَمَّ، فإن القومية مذهب حديث، والعلامة الأيديولوجية المميزة لتلك الحداثة تكمن في الافتراضات الحديثة نسبيًّا المتعلقة بالاستقلال السياسي والأصالة التي يقوم عليها هذا المذهب، وطريقة تضافرها مع الأنثروبولوجيا السياسية.5 إلا أن هذا لا يجعلنا ننكر أن بعض عناصر ذلك المذهب تعود إلى أبعد من ذلك بكثير. على سبيل المثال،
كانت أفكار الأمة والمجاملات الدولية حاضرةً بوضوحٍ في مجمع كونستانس عام ١٤١٥، ويمكننا العثور على الكثير من الإشارات إلى الأمم وعلاقاتها في قرونٍ سابقة، تعود إلى العصر القديم، حتى لو كان تفسيرها يُمثل مشاكل خطيرة. هذا يعني أن بعض التصوُّرات عن الأمة تسبق بعدة قرون ظهورَ القومية وتفسيراتها الخاصة للأمة؛ ونتيجةً لذلك فإن مفهوم الأمة لا يمكن أن يكون مشتقًّا ببساطةٍ من أيديولوجية «القومية». إن قصر مفهوم الأمة وممارسته على عصر القومية، واعتبارهما من نتائج هذه الأيديولوجية الحديثة، هو مرةً أخرى تعسُّف وتقييد زائد عن الحد.6 إلا أن أخطر عيوب النوع المثالي الحداثي ﻟ «الأمة الحديثة» قد يكون التعصب العرقي المتأصل. وقد أدرك كثير من أصحاب النظرية هذا الأمر بطبيعة الحال.
ورغم ذلك، فقد استمروا في التعامل مع النوع الإقليمي المدني من الأمة الحديثة وقوميتها على أنها المعيار، واعتبروا الأنواع الأخرى انحرافات. وكان هذا هو أساس تقسيم القوميات إلى «غربية» و«غير غربية» المذكور سابقًا الذي قدَّمه هانز كون ولاقى احتفاءً. القوميات غير الغربية، على النقيض من نظائرها العقلانية، المستنيرة، الليبرالية، تميل إلى أن تكون عضوية، وصاخبة، وسلطوية، وصوفية غالبًا، وتلك مظاهر تقليدية لنُخبة مثقفة ضعيفة ومعزولة.
وكان من بين المُنظِّرين الذين اتبعوا تقسيمَ كوهن جون كلٌّ من بلاميناتس، وهيو سيتون واتسون، ومايكل إيجناتياف، وكثيرٌ غيرهم ممن يرَوْن أن الفرق الشائع بين القوميات «المدنية» والقوميات «العرقية» يتضمن هذا التقليد المعياري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق