مفهوم التفاهة عند آلان دونو من خلال كتابه نظام التفاهةla médiocratie - أحمد وزاهي
"لقد تبوأ التافهون موقع السلطة"(1)
تقديم
شكل مفهوم التفاهة موضوع كتاب الفيلسوف الكندي آلان دونو، الميديوقراطية، أو نظام التفاهة، هذا الكتاب الذي يعد مؤلفا ثوريا في تشخيص ما نعيشه اليوم في ظل سيادة السطحية والرداءة، ووصف للإستراتيجية الخبيثة التي اعتمدتها من أجل تمكين التافهين والحمقى من السيطرة على كل المجالات داخل الدولة، خاصة الحيوية منها، والموجهة إلى جمهور واسع.
إن دراسة التفاهة في مجتمعنا اليوم أصبح ضرورة، قصد وقف شر الوسط المتطرف الجارف، الذي اقتحم الحياة الإنسانية، وتغلغل في السياسة، والاقتصاد، والتعليم، والقيم الاجتماعية، والثقافة والحضارة ككل، وصار قدرا محتوما وجب مجابهته، والتصدي لسياساته التدميرية، من خلال اقتفاء أثر دونو الذي انتقد بشدة مختلف مظاهره وتجلياته.
يتتبع هذا المقال قراءة دونو لمفهوم الثقافة، باعتباره مفهوما تتقاطع في تشكيله الفلسفة والعلوم الإنسانية بمختلف فروعها، دراسة وتحليلا ونقدا، وإذ لجأ دونو في متنه التحليلي إلى أمثلة كثيرة، عملت محاولة بتعويضها بأمثلة من الوضع المغربي، وفق ما أراه مناسبا، فضلا عن أن هذا المقال يحتكم لإشكالية مركزية هي: ما التفاهة؟ وما سلطتها؟، وما ألياتها واستراتيجياتها؟ وأيضا ما هي تأثيراتها على المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية؟
في دلالة مفهوم التفاهة
يصعب أن نجد مرادفا مباشرا لمفهوم التفاهة؛ كما هي واردة في كتاب نظام التفاهة، لصاحبه آلان دونو، فهي مفهوم جديد الميلاد والنحت، ويعبر عن دلالات تلتقي في معنى "ما هو متوسط"(2)، أي متوسط الذكاء، سيء القدرات، قليل الموهبة، ضعيف المهارة، الأمر المعتاد والعام، الرديء، والمستبعد والمهمل، بالتالي، التفاهة هي نقص الأصالة والكفاءة أو القيمة، تعبر عن الدرجة المتوسطة في الفعل، بما هي معيار نخضع له، وقد رُفِع إلى درجة الحكم والسلطة والهيمنة، ليتخذ صفة نظام قائم الذات نافذ السلطة والسطوة.
يشير مفهوم التفاهة إلى التافه médiocrité، وهو وصف حالة من السطحية والابتذال والسخافة، ترتكز على أبعاد نفسية وفكرية واجتماعية، فهو- التافه- "مخلوق منحط"(3) ، عديم القيمة، الذي تبوأ الصدارة، وخطف الأضواء وأصبح الفاعل النشيطّ، الموجه لكل القيم، مع العلم أن "ابتذال الأشخاص التافهين هو أمر يغيب عن أنظارهم هم أنفسهم"(4) ، جوهر كفاءته، تكمن "في القدرة على التعرف على شخص تافه آخر"(5) ، وحسن انتقاءه وتدعيمه ومؤازرته، فالتافهون لبعضه البعض دعم وسند كبير، وقد اعتبر دونو أن هناك "تصنيف من خمس شخصيات مفاهيمية تظهر لتجسد ردود الفعل المحتملة لهيمنة النظام الذي يتطلب التفاهة"(6)، وتهم هذه الشخصيات الرجل النائم أو اللامبالي؛ الذي أعلن رفضه للنظام القائم وانسحب لكينونته المغلقة، ثم الرجل التَّعسُ، وهو شخصية تصدق كل شيء مهما كانت طبيعته، وهو على استعداد تام ليؤمن أيضا بكل شيء، ويليه "الرجل التافه والمتعصب"، شخصية مقبلة على كل الطرق والحيل التي من خلالها تسعى إلى نيل سلطة، ثم "الرجل التافه رغما عنه"، وهو شخصية تتبنى الواقع كما هو رغم كل الظروف والشروط نظرا لظروفه الخاصة، أما النموذج الأخير يكمن في "الطائشين التافهين"، فهؤلاء دوما جاهزون للاندفاع وخدمة النظام من حيث لا يدرون ذلك.
تستعمل التفاهة أيضا في كتاب دونو كما هو معنون، للترميز والدلالة على "النظام التافه médiocratie"؛ بما هو نظام اجتماعي وسياسي يخضع لسلطة تدبير ممثلة بأشخاص تافهين منعدمي الكفاءة؛ صغار العقول والمجانين والحمقى، أو نظام يعمل على تمكين التافهين "بالتواطؤ والتآمر"(7) من مراكز الحكم، ومواقع المسئولية، واتخاذ القرارات، ورسم الخطط والاستراتيجيات التي تخدم السطحية، إنه حرفياً حكم التافهين، الذي يعمل على تتويج وتشجيع الأشخاص التافهين وجعلهم نجوما، ورموزا للاقتداء، "لدرجة تصير التفاهة مطلوبة بالفعل"(8) ، فيصبحون كما يتصورون أنفسهم مهمين وفي مكانهم الطبيعي، وجعلها دونو في نطاق التفكير والسلوك في تدبير الشأن العام، وفي ذات الوقت ربطها بمجالات حيوية؛ كالمعرفة والفكر والأخلاق والهيمنة والسلطة والاقتصاد والاجتماع...
ترتبط التفاهة بالسلطة فتكون "سلطة تافهة" Pouvoir médiocrité، وتعني حكم التافه، وهي في ذلك قد صارت أكثر تطورا وتقدما من ذي قبل، وباتت "تتجسد الآن بالمعايير المهنية، بروتوكولات البحث، وعمليات مراجعة الحسابات، والمعايير المنهجية التي تطورها المنظمات المهنية"(9)، أي أصبح هذا النظام يركز على الجانب التقني المهاري المتخصص، بدل الحرفة، ومن خلال أساليبه الناعمة يكرس الابتذال في الواقع، ويمنحه سلطة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق