اعتدنا العيش وسط ضباب الآراء والأفكار والمعتقدات، لكن اليوم، وبفضل كورونا، تسود أصوات المهنيين المؤهلين الشجعان. أولئك الذين يستحقون إعجابنا وامتناننا لبطولتهم في المواجهة والتحدي.
أصوات الأشخاص الذين يعرفون ولا يبخلون بمعرفتهم على أحد مهما كان لونه ودينه وقوميته..لأول مرة نكتشف القيمة، والحاجة الماسة، والأهمية القصوى للمعرفة الصلبة، والفصل بين الواقع والخيال، وتمييز أصوات من يعرفون حقاً ومن يجهلون ويتعمدون تشويه سمعة المعرفة بالجهل والدجل.
لأول مرة نشهد الاحتفال المفتوح بالخبرة والمعرفة والشهرة المستحقة وغير المسبوقة للمتخصصين في مختلف المجالات وكيف يدعم مزيجهم من المؤهلات العليا الآلية المعقدة للمجتمعات البشرية بأكملها.
في البرامج التلفزيونية حيث كان هناك حتى وقت قريب متحدثون حصريون يبدون رأيهم في كل شيء، يوجد الآن أطباء وأخصائيو أوبئة ومسؤولون حكوميون يواجهون عدواً يهاجم الجميع، ويمكن، في لحظة، مهاجمتهم أنفسهم.
الشوارع فارغة، والبيوت ساكنة، لكن التصفيق ينطلق كل مساء في عواصم العالم ومدنه مثل عاصفة لا يتوجه إلى الغوغائيين المخادعين وإنما للعاملين في الميدان والذين يقومون بمهمتهم الجليلة رغم مضايقات المتذمرين ونقص الوسائل والشكوك المعتادة حيال النتائج.
لم نعد نسمع شعارات ولا حملات سياسية مصممة للتسقيط أو الانتقام، ولا مبتذلات السحرة والأفاقين وتجار الدين والحمقى والمحتالين وباعة الحروز والأدعية.
لقد أجبرنا الواقع على وضع أنفسنا على الأرض التي كانت مهملة، أرض الحقائق التي يجب الوثوق بها حتى لا نخلط بينها وبين الأوهام والأكاذيب، أرض الظواهر التي يمكن قياسها كمياً بأعلى درجة ممكنة من الدقة.
اختفت المساحات التقليدية، وبدأ نوع جديد من التعايش الانساني المشترك، وأصبح العالم يقيم في غرفة معيشة واحدة، وفي غرفة نوم واحدة. حتى الحمام أصبح متاحاً لتنظيف أيدي الجميع.
تغير كل شئ، فهل يغير المتغطرسون والمتنمرون ومن يتغذون على أمجاد زائفة ويعتقدون أنهم مركز الكون، نظرتهم إلى أنفسهم ويضعونها على هذه الأرض؟
الفيروس الذي غير حياتنا لن يدع النرجسي يعيش مثبتًا في فقاعة نرجسيته. حتى تلك النرجسية الجماعية الغارقة في تخيلات الهوية والخصوصية والتي تنظر إلى الآخر المختلف من خلال مرشحات افتراضية لن يدعها هذا الفيروس تستمر في الجدل حول الأغلبية والأقلية.
هذا الفيروس الذي غير حياتنا لا يفرق بين أغلبية وأقلية، ولا بين مؤمن وملحد، ولا بين عربي وأعجمي، ولا بين نخبة ورعية، ولا بين يساري أو يميني بكل هواجسهما عن استبدال المعرفة التاريخية بالخرافات الوطنية والأساطير.
فيروس واقعي براغماتي عقلاني يسخر من جميع المتعلقين بماضٍ مدعوم بالاستعلاء والعنصرية والادعاء بامتلاك الحقيقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق