ألبرتو مورافيا لم يكن بحاجة إلى جائزة نوبل للآداب
بعد أسابيع من الآن ستعود جائزة نوبل للآداب بعد توقفها لتعلن عن فائزين اثنين بها. وسترتفع أصوات رافضة وأخرى مؤيدة. بينما سيخيب أصحاب تجارب أدبية هامة بقوا مرشحين لنيل الجائزة لسنوات. نيل هذه الجائزة الأدبية الأكبر في العالم غاية في الأهمية. لكن عدم التتويج بها ليس مدعاة لاستنقاص قيمة هذا الكاتب أو ذاك. كثيرون هم الكتاب الذين لم ينالوا نوبل فيما هم جديرون بها وحققوا النجاح الكبير من دونها. ليس أولهم نيكوس كازانتزاكيس ولا آخرهم ألبرتو مورافيا.
لا يمر شهر إلا ونطالع خبرا عن ترجمة جديدة لإحدى روايات الكاتب الإيطالي ألبرتو مورافيا إلى إحدى اللغات ومن بينها اللغة العربية، وقد ترجمت بالفعل -منذ سنوات- كتبه إلى العربية، وتبارى المترجمون ودور النشر في إعادة ترجمتها وإصدارها، مما يدل على ثرائها الإبداعي، وأنها لم تمت برحيل صاحبها عن عالمنا.
ويعد مورافيا واحدا من أهم كتاب القرن العشرين، رغم عدم فوزه بجائزة نوبل، التي ذهبت إلى مواطنيه لويجي برانديللو وجوسو كاردوتشي، وجراتسيا ديليدا، لكن مورافيا حقق شهرة، واسعة، وعلى مدى أكثر من نصف قرن كتب أعماله التي دارت حول موضوعات العزلة، ولا معقولية الوجود، وانعدام الاتصالات والسلوك المعادي للمجتمع، وخاضت في عوالم ساحرة جذبت إليه قراء من مختلف الثقافات والمشارب.
رفض الواقع

ولد مورافيا في 28 نوفمبر عام 1907 بروما، وكان والده مهندسا معماريا ورساما، وما كاد الفتى يبلغ التاسعة من عمره، حتى أصيب بمرض خطير “سل العظام”، الذي أقعده عن الحركة، وأجبره على قضاء كل فترة المراهقة متنقلا بين المصحات، لتتفتح ميوله الأدبية، ويكتب في عام 1925 أولى رواياته “الذين لا يكترثون” أو “المتواكلون”.
لم يكن مورافيا قد شفي تماما من مرضه، حين خرجت روايته إلى النور، والتي أسس بها للغة رافضة لكل ما هو طبيعي، ففي عام 1935 صدرت له روايته “خيبة الأمل”، وظهرت له مجموعة القصص بعنوان “شتاء مريض”، و“الأمل”، و“الموت الفجائي”، و“البليلة”، و“أحلام كسول” و“الضابط الإنجليزي”، وكلها تنطلق من شروط علاقته بالمجتمع الذي جعله يعيش معزولا، ومرتبكا أمام كل ما هو حقيقي، وأمام العلاقات الاجتماعية وأمام العالم.
وإذا كان المرض قد حدد مصير مورافيا منذ الطفولة، فإن الفاشية كان لها تأثير حاسم في فترة نضجه، فقد أبدى رفضه لنظام موسوليني، ليكون أحد الكتاب المشهورين المعادين للفاشية، وبذلك حسم ما يكتنف اتجاهاته من شكوك، من خلال نقده العنيف وواقعيته المتأججة التي صور بها المجتمع البورجوازي في عصره.
وفي أثناء الحرب العالمية الثانية كتب مورافيا تحت اسم مستعار، فقد أجبرته على ذلك ديانته اليهودية التي لم يعلن عنها مطلقا، ولم يمارس شعائرها، ليضع الأسس التي تميز أعماله، وانجذابه الفكري نحو رفض الواقع وما يمور فيه من تناقضات وصراعات.
لا يحب رواياته
كان مورافيا يرى أن معرفة العالم من الضروريات الأساسية، منذ عام 1930، بدأ يطوف ببعض البلدان الأجنبية، لتذيع شهرته في جميع الأوساط منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها.
وفي عام 1944 كتب روايته “أوجستينو” التي علق عليها الشاعر أمبرتو سامبا في عام 1945 بقوله “هو كتاب شرير، لا يجب أن يكتب، فهو يشوه الحب للأسف”، وذلك لأن مورافيا ليس مجرد كاتب موهوب بل عبقري يشك، وهذا الشك هو الذي ولد شخصية “أوجستينو”.
مورافيا كان يؤمن بأن الزمن لا وجود له والشخصية لا وجود لها ولم يقبل الأحكام الأخلاقية وسطوة المؤسسات
وقد شرع النقاد أقلامهم لتوجيه اللوم والانتقاد لمورافيا بسبب أسلوبه الخاص في نزع الأقنعة وكشف المستور عن واقع مرتبك، يحوله إلى كائن رافض وغير متوائم مع مجرياته، ليتولد الشك والانفجار الموقوت بكتابة جديدة، وقد عدوه من الكتاب المحترفين أكثر مما هو مثقف هام، وقد أيد كثيرون وجهة نظر الأديب الفرنسي أندريه مالرو عندما قال إنه كان على مورافيا أن يتوقف عن الكتابة بعد كتابة روايته “المتواكلون”.
يقول مورافيا “إني لا أحب أبدا رواياتي حقيقة، وذلك لأنه على الرغم من أني أعتني بها أيما الاعتناء فإنها تبدو لي أقل مما كنت أريد”.
التقاط التفاصيل

لا يتوقف البحث والتحليل لشخصية مورافيا، والذي كان واثقا من موهبته، الكامنة في التقاط التفاصيل التي تعتمل داخل المجتمع الإيطالي، وتغيراته وتطوراته، في عالمه الروحي والأخلاقي وآماله وآلامه. ويقول عنه صديقه المخرج بازوليني “كل ما هو ملموس لدى مورافيا هو شيء واقعي مثل الأشياء والمواد والمناظر الطبيعية والأشخاص”.
ورغم اهتمامات مورافيا السياسية، وعضويته لبرلمان أوروبا الموحدة، إلا أنه أخلص لفنه، ورفض فكرة “التطوع” بالكتابة، ليكون محترفا بكل المقاييس، إذ يقول “أعرف أن التطوع لا يمكن أن ينتج إلا أدبا رديئا. ولكن بالنسبة إلي، فإني أعتبر الكاتب مواطنا مثل الآخرين، ويجب أن يدافع مثل الآخرين عن حريته وحرية الشعب الذي ولد في وسطه، إذا اقتضت الضرورة، وبالسلاح إذا لزم الأمر”.
وقد عمل مورافيا في تحرير جريدة المساء، وهي أكثر الصحف اليومية انتشارا في إيطاليا، كما نشر مجموعة من الرسائل والقصص القصيرة وأخبار الأسفار، وكانت إصداراته أكثر غزارة، عقب الحرب العالمية الثانية، خاصة في ما بين عامي 1947 و1951، حيث نشر رواياته “امرأة من روما” و“التمرد” و“التوافق”.
يقول مورافيا “إننا مثل الزهور نولد ونموت وينتهي كل شيء، فالموت سيأتي ولكن ذلك لا يهمني”. بهذه الرؤية واجه مورافيا سنوات المرض، والحملات القاسية على إبداعه الروائي، والتي تضمنت اكتشاف النبضات الجنسية لدى المراهق، ورسم الانهيار البرجوازي، برودة المشاعر، ونقص الطاقة الحركية.
عاش مورافيا حياة مديدة وحتى وفاته في 26 سبتمبر 1990 عن عمر يناهز الثانية والثمانين، وقد قال لزوجته داثيا مارني “إن الماضي يشبه الفحم، عندما يشتعل لا يتبقى منه سوى الشوائب أي بعض قطع من مادة سوداء خفيفة جدا، إننا ندفئ أنفسنا بواسطته ثم ينتهي كل شيء”.
كان مورافيا يؤمن بأن الزمن لا وجود له والشخصية لا وجود لها، ولم يقبل الأحكام الأخلاقية، وسطوة المؤسسات التي كان دائم التشاجر معها، ولا يبالي بسوء الفهم الذي يثيره تفرده، ليؤكد أنه لم يعرف سوى صوت واحد هو صوت تغريد الطيور.

أحمد مروان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق