كل انتكاس يصيب أي تيار سياسي وطني يصيب الوطن كله ومسيرة الإصلاح فيه ، بغض النظر عن الخلافات السياسية ، لأن عافية الوطن في عافية مجمل تيارات الفعل والإيجابية فيه والمشاركة وتنوع الاجتهادات ، وبالتالي أقول باطمئنان كامل أن أحد أوجه الخسارة المهمة للحركة الوطنية المصرية خلال العقود الماضية كان يتمثل في انهيار اليسار المصري وتراجعه ثم تحوله إلى "هامش" في الحياة السياسية بحضور إعلامي أكثر منه حضورا سياسيا حقيقيا ، قبل أن ينتهي به الحال إلى أن يكون عبئا على الوطن ، كان اليسار المصري في نهاية السبعينات يبشر بفعل سياسي وشعبي كبير يمكن أن يدفع الحركة الوطنية كثيرا إلى أجواء من الشفافية والإصلاح ويدعم في النهاية التعددية الحقيقية ويحقق توازنا مهما في الحياة السياسية ، كان حزب التجمع هو بوابة اليسار الأساسية ، وكان التجمع في تلك الأثناء أكثر انفتاحا على المجتمع وعلى قواه المجتمعية والسياسية المختلفة ، ويحاول أن يتبنى قضايا جماهيرية فعلية ويدافع عن المظلومين ويحفظ مسافة البعد الكافية عن السلطة حتى لا يقع في أسره واحتوائها ، وكانت كاريزما خالد محي الدين وشخصيته التاريخية تدفع هذا التيار داخل الحركة اليسارية ، وكانت صحيفة "الأهالي" وقتها منبرا للحرية وصوتا للمستضعفين وسوطا قاسيا على السلطة وأجهزتها وجبروتها ، وكانت الأيادي تتخطف نسخها وبعضنا كان يضطر لحجز نسخته عند الباعة حتى لا تضيع عليه ، وأذكر أن الشباب الإسلامي نفسه كان من أهم قراء صحيفة الأهالي لأنه كان يجد فيها نبلا وشجاعة ومعارضة جادة ، ومع الوقت بعدما شاخ خالد محيي الدين وضعفت قبضته على الحزب ورضوخه لمشورات البعض باعتماد أسلوب "الصفقات" السياسية والانتخابية مع الحزب الوطني ، بدأ الحزب يتحول إلى شلل ومراكز نفوذ ومصالح عائلية ثم آلت الأمور داخله إلى رفعت السعيد ، وهو شخصية لا تملك أي كاريزما أو قبول لا داخل الحزب ولا في المحيط السياسي العام في البلد ، ووضع السعيد استراتيجية جديدة للحزب تجعله فرعا للحزب الوطني ، وتحول "بيت اليسار" الكبير مع الوقت إلى فناء خلفي لإرادة الحزب الوطني في القضايا الكبرى ، حتى أن الدكتور عبد الحليم قنديل ، وهو يساري ناصري نبيل ، قال لرفعت السعيد في مناظرة على الهواء أنه حول التجمع إلى "الجناح السياسي للأمن المركزي" ، وافتعل معارك وهمية ومزورة مع التيار الإسلامي يحاول أن ينفخ فيها للبحث عن دور للحزب في الوقت الذي يجامل فيها "أولياء النعمة" والحماية ، كما فتح خطوط اتصال مع أثرياء أقباط المهجر مما لوث سمعة الحزب ، ومن جهته بسط الحزب الوطني حمايته على رفعت شخصيا وعلى نفوذه داخل الحزب ، ووفر له حراسة خاصة وخدمات أخرى يطول شرحها أهونها تعيينه الثابت في عضوية مجلس الشورى لبسط الحصانة الرسمية عليه ، وكان طبيعيا بعد أن ارتمى التجمع في أحضان السلطة أن يلفظه الشارع ، ويتجاهله المواطن العادي ، حتى أصبح في عداد الأحزاب الورقية المجهولة ، حتى أن أحدا لم يعد يسمع تقريبا شيئا عن حزب التجمع إلا من خلال "مشاجرات" بعض قياداته على مناصب أو ثورة غضب ما تبقى من النبلاء داخله على سياسات رفعت السعيد التي دمرت الحزب ، وتدنت نسب توزيع صحيفة الأهالي حتى أصبحت مجهولة عند البائعين والمشترين على حد سواء ، ولا قيمة لها ولا حضور في الحياة السياسية أو الاقتصادية أو الإعلامية ، وانتهى فعليا مشروع حزب التجمع ، لكن المشكلة الأهم أن اليسار المصري ما زال عاجزا عن صياغة مشروع جديد بديل يتواصل مع هموم الأمة ويتجذر في الشارع ويلتحم مع قضايا الجماهير ، وهو العجز يضيع الرؤية والاستراتيجية ويجعل ناشطوه مندفعين إلى معارك صغيرة وتافهة تستنزف الوقت والطاقة والحضور في الهدر ، معظمها في جدل له طابع ثقافي أو فني ، وكان محزنا جدا أن نرى ناشطي اليسار المصري وقد توزعوا على خدمة مشروعات طائفية لبعض مليارديرات الأقباط ، أو ينخرطوا في نشاطات تطبيعية مؤسفة أو ينجذبوا إلى "بيزنس" حقوق الإنسان استجلابا للمال الأجنبي السخي ، اليسار المصري في أزمة ، وهو جزء من أزمة وطن بكامله .
gamal@almesryoon.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق