اليسار المصري قبل 1952: كيف ساهم رفاعة الطهطاوي في تأسيس الحزب
الشيوعي؟!
محمد العتر
الحركة اليسارية بتفرعاتها في العالم أجمع، لها دورها المؤسس في خارطة السياسة العالمية، وقبل ذلك في الفكر والفلسفة. وحكاية ظهور المصطلح معروفة؛ هي التي بدأت من البرلمان الإنجليزي حيث صُنّف أعضاء البرلمان بحسب الجالسين على جانبي رئيسه: يمين ويسار، أو يمينيين ويساريين. وكان التعبير مؤقتًا، فاليميني اليوم يساريٌّ غدًا، وهكذا، وغالبًا ما كان اليسار
للتعبير عن رفض قانون توجد نيّة مُبيّتة بطرحه وإقراره من اليمين.
مع الثورة الفرنسية، أخذ التعبير دلالة أكثر عمقًا، أيضًا من قلب البرلمان إلى الشارع، إذ بات يشار به إلى التيار المؤمن بمبادئ الثورة والداعي إلى الحفاظ عليها في وجه “اليميني” المرتد عن تلك المبادئ. وبمرور الزمن أخذت تتبدل دلالات المصطلح وفقًا لتغيّر الخارطة السياسية. في روسيا مثلًا ومع تكوّن إرهاصات الثورة البلشيفية كانت المجموعات الأكثر تعبيرًا عن اليسار هم الشيوعيون الماركسيون، قبل أن يُصبح اليسار في الاتحاد السوفيتي يُستخدم للإشارة إلى مُعارضي السلطة البلشفية، وغالبًا كانوا اللاسلطويين أو الأناركيين.
شعار الأناركية
بالجملة، يُمكن القول إن دلالة مصطلح اليسار غير دقيقة وفضفاضة بالقدر الذي يجعلها تحمل بين طياتها إشارة إلى تيارات وتجمعات تكاد تكون على طرفي النقيض، بل ربما يستخدم مصطلحي اليسار واليمين للإشارة إلى تيارين أو جناحين داخل التنظيم الواحد.
الحركة الشيوعية العالمية بأحزابها المتنوعة، هي التي أعطت طابعًا سياسيًّا وأيديولوجيًّا لتعبيري اليمين واليسار في العمل السياسي، وجعلت منه معيارًا لتقسيم العالم فكريًّا بين اليمين الرجعي واليسار التقدّمي. – خوشابا سولاقا
بدورنا هنا سنستخدم الكلمة للإشارة إلى ما اصطُلِح على تسميته باليسار (التقدّمي) في الساحة السياسية المصرية، متتبعين أهم محطاته منذ تكوّنه كفكرة ثمّ بلوغه مرحلة الفعل والممارسة، حتى تحرك الضباط الأحرار في يوليو 1952.
رفاعة رافع الطهطاوي هو السبب!
المبادئ الفلسفية التي ساهمت في تشكل الأحداث المؤدية إلى الثورة الفرنسية كانت أوّل ما استضافت مصرُ مما يمكن تسميته بأفكار اليسار الاشتراكي، والتي كانت في الأغلب نابعة من كتابات وأدبيات جان جاك روسّو التي نقلها عن الفرنسية إلى العربية رفاعة رافع الطهطاوي، وهو الذي نقل إلى العربية أيضًا الدستور الفرنسي النابع عن ثورتها، لذا فإنّ باحثين يعدّون الطهطاوي سببًا في أن تجد الأفكار الاشتراكية وأفكار اليسار الفرنسي مكانًا لها في مصر.
تكرر الأمر، ثمّ توسع مع عودة مزيد من المبتعثين إلى أوروبا للدراسة، هؤلاء الذين تأثروا بالأفكار الاشتراكية التي كانت رائجة آنذاك في أوروبا، تحديدًا في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ووقتها أيضًا ظهرت كتابات تعرض للاقتصاد السياسي. حتّى أصدر سلامة موسى أوّل منشور عربي عن الاشتراكية عام 1912، وهو كُتيّب باسم “الاشتراكية”، بعد ذلك بنحو ثلاثة أعوام، أصدر مصطفى حسين المنصوري كتاب “تاريخ المذاهب الاشتراكية“، وبات كلا الكاتبين (سلامة موسى ومصطفى المنصوري) من رواد الفكر الاشتراكي في مصر، وأوّل من ألفا فيه في العالم العربي، وإن كان المنصوري أميل للإعجاببالتيارات اليمينية داخل الاشتراكية الديموقراطية التي برزت وقتها في أوروبا الغربية.
تمثال لرفاعة رافع الطهطاوي
وخلال العقد الأوّل من القرن العشرين، حملت مصر على أرضها من اعتنق الأفكار الاشتراكية، وإن لم يسبق بالكتابة فيها سلامة موسى أو مصطفى حسين المنصوري؛ من بين هؤلاء شبلي شميل، اللبناني الذي أقام بالإسكندرية، وقد سعى في 1909 لتأسيس حركة اشتراكية، لكنّ مساعيه باءت بالفشل، ليذهب مع سلامة موسى إلى إصدار جريدة المستقبل ذات التوجهات اليسارية عام 1914. وفي 1908 أسس صحافي يُدعى محمد أحمد حزب العُمّال، ثم في 1911 أسس حسن فهمي جمال الدين الحزب الاشتراكي المبارك، وكلا الحزبين لم يستمر طويلًا.
من بلاشفة روسيا إلى عُمّال مصر: أهلًا بكم في الحزب الشيوعي
صعود البلاشفة في روسيا كان بمثابة الانتصار الأعظم للاشتراكيين حول العالم. هكذا كان الأمر في مصر، التي تأثرت الحركة العُمّالية فيها بهذا الصعود، وبدأت تنادي بتنظيمها نقابيًّا بما يحفظ لها حُقوقها. ومن أبرز المناطق التي شهدت دعوات من هذا القبيل كانت الإسكندرية، وهناك كان جوزيف روزنتال أوّل من دعا إلى اتحاد نقابي عمالي مصري، وأحد أهم الشخصيات المحورية في تاريخ اليسار المصري بل العربي.
من جانبٍ، كانت الثورة البلشيفية في روسيا عام 1917، ومن جانب آخر أشد مُتاخمةً، كانت الثورة الوطنية المصرية عام 1919، وهما الحدثان المؤثران مُباشرة في ظهور أوّل تنظيم اشتراكي عربي حقيقي، وهو الحزب الاشتراكي المصري في 1921. كان على رأس الحزب جوزيف روزنتال، وانضمّ إليه سلامة موسى والمؤرخ الإسلامي محمد عبد الله عنان والشيخ الأزهري صفوان أبو الفتح.
كان تركيز الحزب على الحركة العُمّالية، ومنها استطاع تكوين قاعدة فاعلة من الطبقة التي يُمثّلها الحزب بالأساس، والذي تحوّل من الحزب الاشتراكي المصري، إلى الحزب الشيوعي المصري في 1923، تطبيقًا للشروط التي وضعتها الأممية الشيوعية لقبول الحزب ضمنها، والتي شملت أيضًا وضع برامج ترتبط بالفلاحين وقضاياهم الاجتماعية بالإضافة إلى العُمّال، وكذا برامج خاصة بالكفاح ضد الإنجليز. لكنّ أغرب تلك الشروط كان تنقيح الحزب ممن أسمتهم الأممية بـ”العناصر التحريفية” ذات الميول النقابية والفوضوية، وعلى رأس تلك العناصر كان جوزيف روزنتال المؤسس الحقيقي للحزب!
جوزيف روزنتال
رغم ذلك استطاع الحزب التوسّع في أنشطته، عبر التخطيط لجملة من الإضرابات العمّالية، ساعده في ذلك اتحاد النقابات العام الذي تأسس بنحو 21 نقابة بإجمالي 3 آلاف عامل، قبل أن تنضم إليه مزيد من النقابات تحالفت بدورها مع الحزب الشيوعي الذي استطاع تنظيم أدائها الحَرَكي. كل ذلك لفت الانتباه للحزب من قبل الحكومة الوفدية ومعها السلطات الإنجليزية والمَلكية، جميعهم ترقبوا تحركات الحزب بقلق، زاده محاولة الحزب تنظيم إضراب كبير لعمّال شركة الغاز والكهرباء بالإسكندرية. لكن نفس تلك المحاولة كانت الضربة التي قسمت ظهر الحزب، بعد أن ألقت قوات الأمن القبضَ على عدد من قيادات الحزب، منهم من لقى حتفه داخل السجون. لكن ورغم ذلك، كان الحزب قد كوّن قواعد له في العديد من المحافظات والمراكز، كان من أبرزها كفر الزيّات والمنصورة.
عام 1924، كانت مرحلة تحوّل هامة في تاريخ اليسار المصري، فمع الخلافات التي دبّت داخل الحزب الشيوعي بين أعضائه، والضغوطات الخارجية من اعتقالات واسعة شملت أعضاءً مؤسسين، فضلًا عن توسع الحزب نفسه في تنظيم الإضرابات العُمّالية، بدأت موجة جديدة من الهجوم عليه، تضمنت مثلًا إصدار فتوى دينية بتجريم نشاط الحزب والانضمام إليه. الصحافة أيضًا (والتي كانت حزبية بامتياز) لعبت دورها في فض الاجتماع الشعبي حول الحزب. أما على الجانب الآخر، فيرى باحثون أنّ للحزب نفسه أخطاءً أودت به باكرًا.
سقط الحزب في مجموعةٍ من الأخطاء القاتلة، على رأسها الذيلية للكومنترن (الأممية الشيوعية) ورضوخه المطلق لجميع شروطه. الخطأ الثاني سقوطه في شرك الانحراف اليساري ورفعه شعارات متجاوزة الواقع السياسي، وصدامه المبكّر مع حزب الوفد بكل تراثه الوطني وشخصية سعد زغلول الطاغية. – رياض حسن مُحرّم
إثر ذلك، انتقل نشاط الحزب من العلنية إلى السرّية التي دامت نحو 87 عامًا، منذ 1924 وحتى إعلان إعادة تأسيسه في 2011 عقب ثورة 25 يناير. وفيما يذهب البعض بالقول إن الحزب الشيوعي توقفت أنشطته رسميًّا منذ 1924، يكشف لنا التاريخ امتداد النشاط اليساري في مصر عبر تجمعات وتنظيمات بأسماء أخرى، تخرّجت من رحم الحزب الشيوعي.
تظاهرة للحزب الشيوعي المصري بعد 25 يناير 2011 في وسط البلد بالقاهرة
نظرة على مثلث الأيديولوجيا السياسية المصري
مَثّل الوفد الليبرالية المصرية، فيما تمثّلت الحركة اليسارية عبر الحزب الشيوعي المصري وروافده، لكن المجتمع المصري كان تواقًا إلى سد فراغ الهوى الإسلامي مع سقوط الخلافة الإسلامية في تركيا، وهو ما شغلته سريعًا جماعة الإخوان المسلمين التي استطاعت في وقت قصير تكوين قاعدة شعبية ضخمة وبناء دور هام على الساحة السياسية المصرية، عززتها الحرب العربية الصهيونية/ الإنجليزية في فلسطين.
خلال تلك الفترة تكوّنت من الحزب الشيوعي المصري روافد طلابية في الأساس اعتمدت على الأفكار الأممية في نشأتها، حيث حمل الأجانب في مصر (إيطاليون ويونانيون بشكل أساسي) همّ إعادة تنظيم التيار الشيوعي، وتكوين جماهيرية للأفكار الماركسية في مصر، ساعدهم على ذلك النشاط الطلابي المتصاعد، والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية شديدة التدهور.
التأسيس الثاني لليسار المصري: الاقتصاد يُقرر أولًا وأخيرًا
بكل المقاييس الموجودة في الكتب المدرسية، فإنّ ثورة اجتماعية يجب أن تقوم في مصر غدًا. – صحيفة مانشيستر جارديان (24 مارس 1949)
صحافي المانشيستر جارديان قال ذلك لأنّ أعداد السكان في مصر بلغت 19 مليون نسمة في ذلك الوقت، بعد أن كانت مليونًا عام 1897، بزيادة 4 ملايين نسمة كل عشر سنوات.. هذه الأعداد لم تحظ بالاستفادة من النمو الاقتصادي الذي حققته مصر على أثر الحرب العالمية الثانية، فبحسب الصحيفة البريطانية، فقد تركّزت نحو 90% من ثروة البلاد في يد “أقلية صغيرة من كبار الملاك ورجال الأعمال”.
الحرب العالمية الثانية أدّت لتطورين هامين في الاقتصاد المصري على مستوييه الزراعي والصناعي، فأما الزراعي ولظروف الحرب التي أجبرت مصر على دعم جيوش التحالف (بقيادة بريطانيا)؛ تدهورت دورة الزراعة بهدف زيادة إنتاج القمح والحبوب، ما أثر سلبًا على الأراضي التي عانت نقص الأسمدة المستوردة لظروف الحرب أيضًا. والقُطن لم يجد له منفذًا للبيع، وتكدست أطنانه في المخازن، وعاد ذلك سلبًا بشكل مُباشر على الفلّاح.
على جانب آخر شهدت مصر نموًا اقتصاديًّا صناعيًّا زاد عن 5%، كان أثره الإيجابي على المصانع الكبيرة التي زاد إنتاجها من 29.4% إلى 39.6%، فيما تأثرت المصانع الصغيرة سلبًا بانخفاض نسبة إنتاجها حوالي الثلث، بالضرورة إذًا زاد الأغنياء ثراءً والفقراء فقرًا، وتوسع الإقطاع في السيطرة على الاقتصاد الصناعي، مع زيادة في أعداد العمّال من 247 ألفًا في نهاية الثلاثينات إلى نحو نصف مليون في 1948، هذه الوفرة في الأيدي العاملة قابلتها أجور منخفضة، حيث كان متوسط دخل العامل المصري في تلك الفترة في حدود 293 قرشًا، فيما كان حد الكفاف الأدنى لمعيشة أسرة من 6 أفراد هو 493 قرشًا!
في ظروف ملائمة كهذه، فإن الأسباب في التفجير الثوري والاجتماعي، أو على الأقل، الأسباب التي تدفع بالعناصر المطحونة تجاه اليسار، تصبح مقبولة. – عبد الوهاب بكر
الإيطاليون واليونانيون ساهموا بشكل كبير في تنظيم الحركة اليسارية، التي اقتصرت لفترة على الجاليات الأجنبية، لكنها ما لبثت أن توسعت في أنشطتها، وتجنيدها لشباب مصريين وعرب. توّجت تلك الجهود لتأسيس عدد من الحركات اليسارية، من أبرزها الحركة المصرية للتحرر الوطني (حمتّو) وحركة إسكرا (أي الشُّعلة). كلتا الحركتين شهدتا اختلافًا في التوجهات، وربما – أحيانًا- تراشقًا بين أعضائها، وانقسمت إثر خلافاتهما توجهات الحركات والتنظيمات اليسارية الأخرى، قبل أن تتحد جميعًا.
“حدتو” والتحرر الوطني: كيف توغّل اليسار في الجيش المصري؟
عام 1947، اندمجت حركتا حمتو وإسكرا مع حركات يسارية أخرى تحت اسم الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني (حدتّو)، والتي كانت بمثابة التنظيم الأوّل للحركة الشيوعية في مصر بعد الحزب الشيوعي المصري.
ركزّت حدتو في بدايتها على قضية التحرر الوطني، أو جلاء الإنجليز بالإضافة إلى أنشطتها الخاصة بطبقة العمّال وتنظيمها إضرابات من أبرزها إضراب عُمّال الغزل والنسيج بالمحلة الكبرى في سبتمبر 1947 الذي شارك فيه أكثر من 20 ألف عامل. وكانت توجهات المنظمة المعلنة الخاصة بقضية التحرر الوطني سببًا في تزايد أعداد المنضوين تحت سقفها، كما كانت سببًا في انتشار الأفكار اليسارية بخاصة داخل صفوف الجيش المصري، فيذكر مثلًا أن خالد محيي الدينوهو من أبرز الضباط الأحرار، ومؤسس حزب التجمع، كان من أعضاء حركة حدتّو.
استطاعت حدتّو أن تقيم قسمًا خاصًا للنفاذ وكسب المؤيدين بين صفوف البوليس والجيش، ولاقت النشرات التي تلمس المتاعب المادية في الخدمة العسكرية، صدى واسعًا بين رجال القوات المسلحة. – عبد الوهاب بكر
وبفضل خطها المُناهض للوجود البريطاني في مصر، استطاعت أيضًا أن تخلق تقاربًا بينها وبين جماعات أخرى مثل الإخوان المسلمين ومصر الفتاة، لكنّ موقفها من القضية الفلسطينية كان عبئًا على جماهيريتها في الشارع المصري السياسي والاجتماعي، إذ إنّ حدتو انقسمت فيما بينها إلى جبهتين، جبهة بقيادة زعيم حمتو هنري كورييل كان مؤمنًا بحل الدولتين، أما جبهة هليل شوارتز (زعيم إسكرا وهو يهودي مصري) فكان مناهضًا للصهيونية، وأسس جماعة لمعاداتها تكوّنت في الأساس من شبان يهود مصريين، وسُمّيت بـ”الرابطة اليهودية ضد الصهيونية”. هذا الخلاف ظلّ مكبوتًا حتى مايو 1948، لينفجر مسببًا تفسّخ الاندماج على أثر دخول مصر والعرب حربًا ضد الحركة الصهيونية في فلسطين.
هنريل كورييل (franceinter.fr)\
هذا التفسّخ بين التنظيمات اليسارية، مع حرب فلسطين، أدى إلى خفوت صوت اليسار، حتى دخلت مصر مرحلةً محورية في تاريخها، وهي مرحلة تحرك الضبّاط الأحرار في الجيش المصري ضد النظام الملكي في يوليو 1952. وقد كان ثمّة عناصر يسارية بين الضباط الأحرار، على رأسهم جمال عبد الناصر الذي تبنى سياسات اشتراكية غيّرت بالقطع في بنية المجتمع الاقتصادية، لكنّه في المُقابل قمع الأصوات اليسارية الأخرى، وتشارك الشيوعيون الزنازين مع أفراد الإخوان المسلمين جنبًا إلى جنب!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق