صدر حديثاً الجزء الأول من أعمال الشاعر والروائي الفلسطيني محمد الأسعد. وتميز بمجموعات القصائد القصيرة اللماحة، والمحمّلة بروح «الهايكو» اليابانية.
حاول كثير من الشعراء العرب صبغ قصائدهم بشيء من روح قصيدة الهايكو، لكن النجاح لم يكن حليفهم. يختلف الأمر مع الشاعر الفلسطيني محمد الأسعد الذي كتب نصوصاً قصيرة زاهية ومحملة بألوان الطبيعة.
مررتُ سابقاً بقصائد للأسعد في مجموعات شعرية وعلى الانترنت، فشدّت انتباهي. لكن فاجأني في الإصدار الأخير اجتماع الشعر كله كما لم يجتمع في تاريخ هذا الشاعر، إذ لم يعد الأمر، بالنسبة إلى القارئ مجرد التقاط شذرات من صورة أكبر تثيره من دون أن تكشف له عن كامل اللوحة. هنا أصبح بإمكانه تأمل عالم ثري بألوانه ومعانيه، ولمس حافات تجربة شعرية فريدة بالمقاييس الجمالية كافة.
تقييم
كتب أحد المتابعين في موقع الكتروني أنه «يجهل كيف يقيّم الشاعر محمد الأسعد، إلا أنه يسعى وراء كتاباته من موقع إلى آخر». وتأسف آخر لأن هذا الشاعر «تأخّر في نشر مجموعات كاملة من قصائده». لذا سيسعد كثر بهذا الجزء الأول من أعمال شاعر يصفه مقربون منه بـ{الشاعر الجميل» من دون أن يعرف القارئ لماذا وكيف، وكأن الحديث يدور حول أسطورة بعيدة المنال.
في مجلد يضمّ ثماني مجموعات شعرية تبدأ بعام 2006 ثم تتراجع إلى منتصف ثمانينات القرن الماضي، يكشف الشاعر عن روح تجريبية لا تتوقف، شكلاً ومضموناً، وعن تنوع في المشهد الشعري يتنقل بين جغرافيات لافتة، في ظل اكتشاف الجمال في دقائق عابرة وذكريات تتحوّل إلى خلودها الخاص.
لا تقلّد حدائق الأسعد الشعرية الأصوات الشعرية السائدة، فمواضيعها تشبه مكتشفات يصل إليها المرء في أراضٍ مجهولة، أما أسلوبها الشعري فقوامه الصورة حيث التعبير عن المشاعر بشكل غير مباشر. مثلاً، لا يقول الشاعر إنه يُحبّ أو يحنّ أو يغضب، بل يرسم مشهداً يدلّ على أحد هذه المشاعر. وربما تنشأ صعوبة الوصول إلى هذا الشعر من هذه اللامباشرة تحديداً، فالقارئ اعتاد أن يفصح له الشاعر عمّا يعنيه، فيما يبدو الأسعد في قصائده غير ملتزم بتقديم المعنى، بقدر الذهاب إليه، لذا قد يصل إليه القارئ وقد لا يفعل، لكنه عموماً يشعر بوجوده مع توالي الصور والحالات.
اللغة
اللغة في المجموعات الشعرية متينة السبك والبناء، رصينة لا تترك منفذاً لفوضى اللامعنى أو الحذلقة الثقافية كما تقول د. سلمى الجيوسي عن شعر الأسعد في مختارات الأدب الفلسطيني المعاصر الصادرة عن مطبعة جامعة كولومبيا (1992). هنا يحافظ الشاعر على جماليات العربية، رنين الألفاظ ووظيفة الميزان الصرفي التعبيرية، إضافة إلى حركات الإعراب الدالة على الأجواء النفسية.
أما إيقاع الألفاظ أو الوزن، ففيه انتقال إلى شعر التفعيلة واستخدام النثر كوسيلة شعرية مرنة، لكن الشاعر في كلا الحالتين يمنح لغته إيقاعاً خاصاً أو بصمة فريدة، ويتحول لديه شعر التفعيلة إلى مقاطع كاملة تستغني عن التقفية غالباً مع الحفاظ على روح موسيقية خارج إيقاعات التفاعيل، آتية من رهافة الإحساس بالحرف والكلمة.
كذلك يوقظ نثر الأسعد شعريّة اللغة بكثافة غير معهودة، ويمنح الكلمات طابعاً مختلفاً بسبب تحكمه بلغته وقوتها التعبيرية فلا يستغني عن البلاغة والجماليات بحجة روح العصر والسرعة وما إلى ذلك من أقاويل.
المجلد الشعري شاهد على أن الشعر جنس كلامي مغاير، والحفاظ على هذا الاختلاف يميز الفن عن غير الفن، والشعر عن غير الشعر حتى وإن حمل عنوانه.
مختارات
في الميـاهْ
وعـلى طـرقِ العـودة إلى كهفـهِ
بـدّدَ كـلَّ مـا اصطـادَ بشبكتـهِ الذهـبيّـةْ
أطـلقَ أسـماءً عـلى النهـرِ
والعشـبِ
والنجـومِ
والمرأة
ونسـي نفـسهُ
ووقـف يتـساءل أمـام عيـنيـها:
أبحيـرةٌ أنـا؟
أجدولٌ؟
مرآةٌ مسـحورةْ؟
سـلامـاً لغيـمٍ يبـدّدهُ الوقـتُ،
للنـادبـاتِ بعمـقِ الطفـولةِ،
للأرضِ تصبـح منفى، لمن
أمكنتني من النهـرِ والغـابِ وانتظـرتْ
أن يتـمّ رسـالته الوقـتُ، أن يستـفيضَ...
سـلامـاً لطيرِ الكـلامِ
يرفرفُ بين السـطورِ
ويتـركها
للبيـاضِ وصمـت ِالحجـرْ
مطرٌ خفيفٌ
ربمـا انتثرتْ زهورُ البرتقالِ
وربمـا انتبه الجسدْ
هذا المساءُ حديقةٌ مثلي
ومثلكِ
يستفيقُ بلا بلدْ
لا أرضَ للرمّـانِ
لا نهراً لظلي
أو لظلّكِ
لا أحدْ
مطرٌ خفيفٌ للجذورِ
ونسمـةٌ مرّتْ
سريعاً
بين أوراقِ الجسـدْ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق