لوحة لامين الباشا
حسين عبد الرحيم |
ما هذا الوتر الذي شدّني. كأنه لحن يلازمني من عقود. أعلم أنني أتعمَّد صم أذني كي لا أسمع تلك الموسيقى الحزينة في إسكندريتي الأسيانة المبهجة التي تحتضن الغرباء مثلي لينسوا ما أتوا من أجله ويهيموا في الشوارع؛ التي اغتسلت بصفاء البازلت. لا بوصلة لهم إلا صوتُ البحر وصخب الموج وهدير الرياح. أصوات في أذني، ووجوهٌ في مخيلتي، هي أقرب إلى الطفو؛ تحرك روحي، للتلويح له من بعيد مثلما كان يحب حين كنت قرينه في كل خروجٍ إلى منفذ الرسوة. لا أعرف لماذا تجتاحني الذكريات كل خريف. تحركتُ إليه متتبعاً نداء خفياً، له ثلاثون عاماً في ذاكرتي. لم تخمد السيرة حتى بعد رحيل رفاقه الخمسة.
صليتُ للمرة الأولى في المنشية. كان لروحه جلالٌ دفعني إلى الركض حول تمثال سعد زغلول الخاضع للترميم، متجاهلاً صوت الترام وجلبة الفتيات في مرح ما قبل المغرب، في محطة الرمل. أستعيد بورسعيد 1979 والدخول في زمن المنطقة الحرة. لم أر منه إلا الحسرة والغضب. عينُه اليسرى مُحمرَّة دائماً. رِجله المبتورة، تذكره بخروجه مصاباً من الحرب. يا لها من إرادة خائبة وذاكرة تخبو. رويداً رويداً، لفّني النسيان. هو نفسه ارتحل إلى الإسكندرية طلباً للنسيان. يقيم في كامب شيزار. يغلق على نفسه أبواب الحياة، إلا باباً يطل على سفن غارقة هناك. في البعيد؛ خلف شارع بورسعيد. في الغريق، عندما يسود طفو المياه ويحجب حِمم الموت الذي ينتظر كل عائد من بلاد بعيدة. يقول أحمد متولي: "لم يبق إلا تلك المراكب الغارقة بعد رحلة ما بين بحرين استغرقت كل عمري وخلفتني كسيحاً". مصابُ حرب يتمشى على كوبري استانلي، ساعة غروب الشمس؛ متكئاً على عصا أبنوس تناسب تلك النتواءات التي خلّفها صفع الرمال فوق الربى وفي قيعان الخنادق. قاتل قديم وليس محارباً تطاير نثار جسده على رمل سيناء وكبريت والدفرسوار.
لا أعرف ولا أعي لماذا ذهبتُ بعد مرور كل هذه العقود لأراه. لعل حلماً ذكَّرني به، بعدما تكرر كثيراً في أيامي الأخيرة حتى أتى الخريف. قلت وأنا أمشي بمحاذاة كورنيش الشاطبي: لماذا هذا الوقت تحديداً يا حسن يابن ساري؟ ثلاثون عاماً وهو يخايلني في لا وعيي، بتلك الصورة المشوهة لوجه سكندري شقي لم يشف حتى هذه اللحظات من مرارات السنين ورحلته مع الجنود لمدة عشرة أعوام، من قبل الهزيمة بثلاثة أعوام حتى بعد النصر؛ المشكوك فيه، كما يردد رفيقه الأول يسري بازل الذي جرب تخطي أسوار منفذ الرسوة في بورسعيد في العام 80 بتهشيمه لكل النوافذ الزجاجية وحتى الحواجز الحديد للخروج من أسر الفقر في تطلعات مشروعة وغير مشروعة من قبل ضباط الجمارك في عهد العنجهي التافه المسمى حسام سمك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق