من ناقد كبير إلى ناقد صغير
نقد جيد أدب جيد
د. محمد عبدالله القواسمة
لعل من الأسباب التي تَحد من وجود نقد موضوعي، ومتابعات نقدية جادة في حياتنا الثقافية موقف أصحاب النصوص المنقودة مما يوجه إلى نصوصهم من نقد يُبرز ما فيها من قصور إلى جانب ما فيها من جِدّة وتميّز.
فيحدث، في كثير من الحالات، أن يلاحقك أصحاب النصوص من روائيين وشعراء، وكتاب قصة قصيرة وقصة قصيرة جدًا مُلحّين على أن تتناول نتاجهم، ويخاطبونك بأرق العبارات بوصفك الناقد الكبير، والعالم الجهبذ، والعلامة الموسوعي، والأكاديمي العريق. وربما يتزلفون إليك بالهدايا، والمكافآت، والإغراءات المادية الأخرى. ويعدونك بتحقيق بعض المصالح لك، وتقديم بعض الخدمات التي تحتاجها. وإذا ما رفضت كل ذلك، مقدمًا الحجج الكثيرة من ضيق الوقت، وكثرة الانشغالات في البحث والتدريس وغيرها، لم ييأسوا من الإلحاح، وقد يلجؤون إلى أصدقائك المقربين كي يضغطوا عليك لتحقق هدفهم في الحديث أو الكتابة عن نصوصهم.
في بعض الحالات تستجيب إلى أن تتناول أعمال أحدهم بالنقد، بعد أن تأخذ عليه المواثيق المغلظة ألا يغضب مما تقول إذا كان لا يوافق رأيه، على أساس أن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية. عندئذ يطير فرحًا، ويصفق طربًا؛ فقد قبلت في النهاية أن تكتب عنه. إنه ينتظر منك مدحًا لأعماله، وتمجيدًا لذكائه وإبداعه.
في الحقيقة تحاول أن تجد في نصه ما يستحق أن يكتب عنه، أو معاينة جانب منه أقل ضعفًا وإخفاقًا. لكن ما إن تنشر ما كتبت، أو تقوله في ندوة أو ملتقى، أو حفلة إشهار، أو توقيع كتب حتى تجد أن الاختلاف في الرأي يفسد للود لا قضية واحدة بل كل القضايا. إذ يتفاجأ صاحب النص أو العمل الإبداعي بما قيل عن نصه أو عمله مهما كان موضوعيًّا وصادقًا. لقد انتظر منك مدحًا له وتقريضًا لا حكمًا موضوعيًا لا مجاملة فيه ولا تحيز؛ فتتحول في نظره من ذلك الناقد الكبير إلى ناقد صغير بل إلى جاهل في النقد، غير متقن لأصول الكتابة، وتتحول تلك الصداقة بينك وبينه إلى عداوة دائمة لا يمكن أن تعود إلا في حالة واحدة، وهي أن تعيد النظر فيما كتبت عن ذلك النص التعيس، وتعلن أنك كنت تحت سطوة القراءة الأولى التي قد يضل فيها الناقد ولا يُهدى. لا شك أن هذه الحالة مستحيلة الحدوث، وبخاصة إذا كان الناقد من النقاد الحقيقيين الذين يحترمون رأيهم، ويرون أن الكلمة الصائبة والصادقة أمانة لا يمكن استبدالها أو التنازل عنها. الناقد الحقيقي غير المزيف الذي يدرك أنّ تلك التقدمات التي ترفع من شأنه عاليًا، أو تلك الإهانات التي توجه إليه من أصحاب النصوص المتهالكة لا تغير من تقديره لنفسه واحترامه لذاته بل يزداد ثقة بما يقدمه، وبخاصة حين يرى أنّ أصحاب النصوص المنقودة في قرارة أنفسهم يحترمونه ويقدرونه. إنه يدرك ذلك من خلال أخذهم برأيه، وإن كان دون الإشارة إليه، حين يراجعون نصوصهم أو ينشرونها مرة أخرى.
آن الأوان أن يكف الأدباء والكتاب عن الإعلاء الفج لما يكتبون، وأن يتقبلوا ما يوجه إلى كتاباتهم ونصوصهم من نقد، وأن يتركوا للناقد الحرية في الحكم على ما يبدعون. فالأديب الحقيقي هو من يعتقد أن ما يكتبه لا يمكن أن يبلغ درجة الكمال، وأن ما يكتب عن نصه سلبًا أو إيجابًا إنما هو في صالح النص بخاصة، وفي صالح الأدب والثقافة بعامة. فإذا ظن الأديب أنه بلغ درجة الكمال، وأن أدبه فوق المساءلة والمعاينة والتقييم فما الذي سيكتبه بعد ذلك، من هنا تكون نهايته أديبًا.
هكذا، بغير أن يتقبل الأدباء ما يوجه إلى نصوصهم من نقد أيًا كان هذا النقد فلن نصل إلى أدب جيد ونقد جيد، ومن ثم إلى حياة ثقافية سليمة.
mdkawasm@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق