بقلم : توفيق برو
يسرني أن أقدم للقارئ الكريم ملخص ما قرأته في هذا الكتاب القيم الذي جمع بين دفتيه من الفوائد والمعلومات حول انتشار الحركة القومية في الدول العربية خلال القرن التاسع عشر ما قد يساعد الباحثين على استقصاء العوامل القريبة والبعيدة التي مكنت الأقطار العربية، بعد كفاح طويل، من الخروج عن طاعة الغاصبين وتحقيق رغبتها المشروعة في حياة مستقلة كريمة.
والكتاب الآنف الذكر متوسط القطع، طبع على ورق صقيل بفضل وزارة الثقافة والإرشاد القومي بدمشق وكتب بأسلوب واضح بسيط يحمل على مطالعة هذا المؤلف المفيد في كثير من الشوق والإغراء.
وقد اعتمد المؤلف في كتابة هذا الكتاب على مصادر متعددة لها قيمة تاريخية وفلسفية لا تنكر، كتب وضع بعضها أساسا باللغة العربية وبعضها الآخر باللغة الفرنسية: وقسم المؤلف كتابه إلى ستة فصول ابتداء من موجة الاستعمار الأوربي التي اجتاحت الأقطار العربية المستقلة إلى مظاهر اليقظة القومية، مشيرا في المقدمة إلى الحالة السياسية والاجتماعية التي كانت تعيش عليها الدول والممالك العربية خلال القرن التاسع عشر وكيف استطاعت الدولة العثمانية الاستيلاء عليها دون مقاومة لأن العرب والمسلمين كانوا يعلمون أن الأتراك إنما كانت رغبتهم متجهة إلى تسليط سيطرتهم على تلك الدول من الوجهة العسكرية فقط لا من الناحية الثقافية أو الدينية، والواقع أن الدول غير المسلمة التي خضعت للأتراك كانت هي الأخرى تتمتع في فترة الاحتلال العثماني بحريتها الدينية، لها كنائسها وبيعها، يضاف لذلك أن الدول العربية والإسلامية عموما احتفظت بتعليمها العربي مما جنبها الوقوع في مشكلة التعريب، فيما بعد، كما وقع ذلك بالنسبة لدول المغرب العربي، بعد تخلصها من قبضة الاستعمار، أم المغرب الأقصى فهو البلد العربي الوحيد الذي لم يخضع قط للسيطرة العثمانية مما كان له أثره العميق في المحافظة على تراثه الخالص وحضارته العريقة.
ولما شعرت الدول العربية والإسلامية بان المرض والانحلال صارا يدبان في هيكل الإمبراطورية العثمانية الواسعة الأطراف جعلوا يستعدون لانتزاع استقلالهم المغتصب، لكن نوايا الاستعمار الأوربي كانت اسبق من يقظة العرب، وبدلا من أن يسترد العرب حكمهم لوطنهم السليب ضاعت هذه الأقطار من يدهم، مرة أخرى، واحدا بعد واحد بفعل القرصنة الاستعمارية والاغتصاب، وهكذا أصبحوا في حالة اضطروا معها إلى الاستعداد لكفاح طويل مرير.. والواقع انه إذا كانت البلاد العربية بقيت، قبل القرن التاسع عشر، في مأمن من الاستعمار الأوربي فذلك راجع إلى اتجاه الأوربيين بأطماعهم إلى الشرق الأقصى أولا والقارة الأمريكية عقب الاكتشافات التي أحدثت خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر أثرا عميقا في الحياة الاقتصادية والاجتماعية الأوربية كما أن اشتغال الأوربيين بحروب داخلية في أوربا صرفتهم عن الشرق العربي حتى مطلع القرن العشرين.
فمنذ القرن السادس عشر لعبت فكرة استئناف الحروب الصليبية ضد الشرق الإسلامي دورها في تسيير السياسة الأوربية، والدليل على ذلك هو محاولة روسيا السيطرة على البحر الأسود والنفوذ منه عبر المضايق التركية إلى البحر الأبيض المتوسط منافسة بذلك السلطة العثمانية في الجزائر وغيرها من البلدان الواقعة تحت السلطنة التركية..ثم توالت الضربات على الدولة العثمانية من الشرق والغرب بسبب ضعف بعض السلاطين الذين خضعوا لإرادة الحريم وقد جاءت تلك الضربات خاصة من ايطاليا واسبانيا، ولعب» فرديناند الأول، كراندوك ذي توسكان« دورا مها في هذه الهجومات، وكان طامعا في الاستيلاء على سوريا وفلسطين وقبرص، ومن ثم حاول أن يعقد معاهدة مع صاحب حلب التي اغتصبت من السلطنة العثمانية منذ زمن قليل، وبصفة عامة فقد اتخذت الشعوب الأوربية جميع الأسباب للاستيلاء على الشعوب الخاضعة للحكم العثماني، وكانت ترى في قرارة نفسها أن الدفاع عن الجماعات البلقانية المسيحية التي كانت خاضعة للحكم العثماني خير وسيلة للتوصل إلى الأراضي الخاضعة لنفوذ الأتراك، ولذلك ما كادت فرنسا وانكلترا تنهيان من حروب أمريكا حتى راحت كل منهما تتسابق على الأراضي الواقعة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، لكن اندلاع الثورة الفرنسية شغلت حكومة فرنسا عن تلك الأهداف، ولما شعرت بالعداء الذي كانت انكلترا تكنه للثورة الفرنسية جعلت تبحث عن طريق تتوصل منه إلى إضعاف سيطرة الانكليز ومن ثم كانت الحملة الفرنسية على مصر، محاولة أن تضرب عدوتها في الصميم بالقضاء على طريق التجارة المؤدية إلى الهند التي نعتها نابليون بأنها الجهاز التنفسي بالنسبة للانكليز.. فلما أيقنت انكلترا بهذا الخطر الذي أحدق بها بادرت إلى احتلال المراكز الستراتيجية على طريق البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر بعد أن استولت على مصر ومالطة كما أحكمت سيطرتها على الخليج الفارسي والمحميات الواقعة في الجنوب العربي، أما فرنسا فقد كانت تستعد لاحتلال الجزائر مدفوعة إلى القيام بذلك العمل من طرف روسيا وذلك لسببين وهما إضعاف الدولة العثمانية من جهة وإذكاء نار التنافس بين فرنسا وانكلترا من جهة أخرى، ولما فاتحتها فرنسا فيما هي مقدمة عليه لم تبد طبعا انكلترا موافقتها، إلا انه لما دخلت الجيوش الفرنسية الجزائر اكتفت انكلترا بالاحتجاج على فعلتها، وكان جواب فرنسا أن احتلالها للجزائر إنما كان لصالح العالم المسيحي بما أنها كانت تريد أن تهدم البحرية الإسلامية وتضع حدا لأسر المسيحيين وللجزية أيضا التي كانت الدولة المسيحية تدفعها للايالة الجزائرية، وانفها راغم.
والغريب أن الدولة العثمانية لم تحرك ساكنا إزاء اعتداء فرنسا على ممتلكاتها، بل اكتفت هي الأخرى بتقديم مذكرة احتجاج على قيام فرنسا بالاعتداء على حقوقها في تلك الأثناء كانت استعدادات محمد علي قائمة على قدم وساق للاستيلاء على سوريا(1829) على يد عرابي باشا وانطلاقه في بلاد الأناضول حتى كاد أن يدق أبواب العاصمة العثمانية ويضع نهاية لحكم سلاطينها.
وكانت أزمة شاقة بالنسبة لانكلترا، فاضطرت الوقوف أمام أطماع محمد علي التي اعتبرتها بالطبع تهديدا للمصالح الانكليزية في الشرق الأوسط، وقد فضلت أن تبقى هذه المنطقة في قبضة السلطان العثماني نظرا لضعفه، وهو ضعف يفسح لها المجال لتحقيق أغراضها الاستعمارية فيها، وكان هذا نفس الشعور الذي كانت تشعر به روسيا.
وتطورت الأحداث واضطر معها عرابي باشا إلى مغادرة سوريا وتبع ذلك نزول حملة انكليزية في لبنان وجيوش أوربية مختلفة هنا وهناك في بلاد الشرق الأوسط، حتى كنت تجد مختلف الأجناس، كل واحد يسعى سعيا حثيثا لبسط نفوذه على تلك الرقعة من العالم العربي، ولم يمض إلا زمن قصير حتى تواردت على سوريا إرساليات مختلفة أجناسها، منها الفرنسي والانكليزي والأمريكي والروسي والايطالي والألماني بدعوى الاهتمام في الشرق العربي بمشاريع عمرانية وثقافية، وشرعت في فتح المدارس الأجنبية على نطاق واسع، ومن هناك شهدت بلاد الشام نهضة ثقافية عارمة كان لها أثرها العظيم في إثارة اليقظة العربية الفكرية والاجتماعية في كل جهة.
لكن تغلغل هذا النفوذ الأجنبي المقنع في شبه حركة ثقافية جعل المسلمين خاصة يتشبثون بأذيال الدولة العثمانية، على ضعفها وسوء تصرفها، ويعملون على تحقيق فكرة «جامعة إسلامية» تستطيع أن تلم شعث المسلمين وتقف في وجه ذلك الاحتلال الأوربي المقنع.
وبينما كانت الدول الأوربية تعمل على تثبيت قدمها في الشرق وخاصة منها الدولة الروسية أصبحت الدبلوماسية الانكليزية تهتم بصفة خاصة بالشرق الأوسط وتهيئ لنفسها القيام بدور هام تحصل بمقتضاه على نفوذ مطلق شامل بين الدول الأوربية، وذلك بحملها على عقد مؤتمر«برلين». وكانت تنوي استغلال هذا التجمع، فتفوت على روسيا الفرصة التي كانت تتمناها لنفسها وتفوز ببعض النفوذ على حساب المماليك العثمانية، ونجحت انكلترا في ذلك المؤتمر بما قامت به من نشاط في الكواليس، واستطاعت في الأخير أن تغرر بالدبلوماسية الايطالية والفرنسية اللتين كانت كل منهما ترمي إلى تبسيط نفوذها على القطر التونسي، فاعترفت للأولى باحتلالها للقطر الليبي بينما اعترفت للثانية باحتلال تونس مقابل امتلاكها شخصيا لجزيرة قبرص وبسط نفوذها على الشرق الأدنى بصفة عامة، ومع أن فرنسا اشترطت على انكلترا قبيل انعقاد مؤتمر برلين، ألا تثير أثناءه قضية مصر فان انكلترا لم تتورع من أن تضرب ضربتها هناك(1882)، وكانت ضربة لفرنسا بقدر ما كانت ضربة للدولة العثمانية نفسها، وبقيت العلاقات قائمة بين الدولتين الاستعماريتين، ولم يصف بينهما الجو إلا في مطلع القرن العشرين على اثر«الاتفاق الودي»(1904) الذي بمقتضاه تم الاتفاق على أن لفرنسا أن تسعى لاحتلال المغرب لقاء اعترافها لانكلترا بتوطيد أقدامها بمصر بعد أن كانت تلح عليها في الجلاء عنها، وغني عن البيان أن الدوافع التي أهابت بالدولتين إلى هذا الصفاء، بعد جفاء طويل، هو ما لمسناه من اكفهرار في الجو السياسي إذا ذاك بسبب ظهور المطامع الاستعمارية الألمانية ومنافستها للدولتين الآنفتي الذكر.
ولم يكن احتلال فرنسا لتونس بالأمر الصعب بعد أن ركزت أقدامها في الجزائر، وكفاها أن تصطنع أزمة بينها وبين الباي التونسي مدعية اعتداء شن عليها من قبل بعض القبائل الساكنة على الحدود لترسل حملة عسكرية على تونس، فتحتلها وتبسط عليها، يا للسخرية، حمايتها!
كما انتهزت انكلترا من جهتها الأزمة المالية التي كانت مع فرنسا سببا في خلقها بالنسبة للقطر المصري وذلك لتعلب دورها في احتلال البلاد عقب الثورة التي قام بها القائد عرابي باشا.
وهكذا اكتسح هذا المد الاستعماري معظم الدول الإسلامية والعربية في الشرق الأوسط بينما كانت الأقطار العربية تتحسس في كثير من الصبر الطريق التي ستفضي بها إلى الاستقلال بما تكون قد أثارته من وعي قومي في كل مكان من أنحائها.
ومعلوم أن بسط النفوذ الأجنبي على الدول الإسلامية عموما اظهر لتلك الشعوب ما أصبحت عليه المملكة العثمانية من الضعف والانحلال، فلما أيقن العرب أن العجز وحده هو الذي اقعد المملكة العثمانية عن مجابهة العدوان الأجنبي، راحوا يفكرون في ضرورة دعم السلطنة حتى تصبح قادرة على مكافحة الاستعمار الأوربي حيث أنها كانت الدولة الإسلامية الوحيدة في الشرق، وأدت تلك الحالة بالمسلمين دفعا لخطر الاستيلاء الأجنبي إلى جمود في العلوم الدينية، فتوقفت العقول من الابتكار والخلق ووقف ركب الحضارة الإسلامية بينما كانت أوربا تحت السير في نهضة رائعة، وأمام انتشار العناد قامت الحركة الوهابية بالجزيرة العربية تدعو إلى الوحدة على يد الشيخ محمد عبد الوهاب، ولم تقتصر هذه الدعوة على الناحية الدينية بل تعدتها إلى حملة سياسية عملت على طرد النفوذ التركي من مكة والمدينة بالجزيرة العربية إذ لم تكن الحركة تكتم رغبتها في الاستقلال بجزيرة العرب، ولما استفحل أمر الوهابيين أشار السلطان العثماني على محمد علي، وليه بمصر بقمع تلك الحركة، فكان له ما أراد، وعظم شأنه حتى خافت انكلترا أن يستفحل أمره في الشرق الأوسط، ولكن الأفكار التي بذرها الوهابيون جعلت تعمل عملها في النفوس من أن الإسلام لن يقوم له شأن مرة أخرى إلا برجوع المسلمين إلى الأصل عملا بالسنة والقرآن ومحاربة البدع والخرافات، وانتشرت هذه الدعوة في كل مكان عن طريق الحجاج عند عودتهم إلى ديارهم، وهكذا وجدت تلك الأفكار طريقها إلى الهند وزنجيبار واليمن وليبيا ومصر، ووجدت من يؤيدها في كل بلد من هذه البلدان ويدعهما لكن على أساس نصرة المملكة العثمانية ما دامت هي الدولة الإسلامية الوحيدة التي استطاعت أن تقوم في وجه الاستعمار الأوربي حتى ذلك الحين، وأدت تلك الحركة إلى خلق تكتل قومي في شكل «جامعة إسلامية» انضم تحت لوائها كثير من الفلاسفة والسياسيين، أمثال جمال الدين الأفغاني والأمير شكيب ارسلان ومحمد عبده وغيرهم، وقد اقتنعوا أن أي إصلاح لن يتم على نهضة دينية وحدها، بل لابد من تدعيمها بنهضة علمية صحيحة، بعد الاغتراف من العلوم الأوربية وأساليب الحكم الدستورية، بذلك يستطيع الشرق أن يجابه الغرب، بل كان جمال الدين الأفغاني يرى انه في الإمكان بعد القضاء على النزاعات الطائفية والعقائدية ومحاربة البدع والخرافات إنشاء دولة إسلامية موحدة تحت راية إسلامية واحدة يقوم عليها خليفة لا ينازع منازع فيه، لكي ينشر الأفكار التي كان يدعو إليها انشأ مجلة «العروة الوثقى» التي أناب عنه في إدارتها الشيخ محمد عبده، وكلنا يذكر ما كان لها من شأن وكيف أدت الأفكار التي كانت تنشرها إلى محاربة المجلة من طرف الدولة الانكليزية التي منعت دخولها مصر.
هذا وبقدر ما كانت دعوة جمال الدين الأفغاني معززة للجامعة الإسلامية بقدر ما كانت مهدمة للاستبداد والطغيان، ولذلك حاول السلطان عبد الحميد استغلال دعوة «الجامعة» لتقوية نفوذه في الخارج باعتباره زعيما يدين له بالولاء ما يزيد على ثلاثمائة مليون من المسلمين، يخضع كثير منهم لروسيا وانكلترا وفرنسا، وتعزيز جانبه بالنسبة لمختلف القوميات في إمبراطوريته الواسعة الأطراف فبعث إلى السيد الأفغاني يستدعيه إلى الأستانة وأجرى عليه راتبا محترما محاولا استغلال نفوذه كما أجرى على كثير من الزعماء ومشايخ الطرق الدينية الأموال والهبات، لكن الشيخ الأفغاني كان من الذكاء بحيث لم تنطل عليه تلك الحيل، وراح يدعو عبد الحميد إلى ضرورة تطبيق نظام دستوري في الولايات التي يحكمها، فلم يستجب لذلك عبد الحميد الذي كان يفضل أن يحكم بالقوة ولم يسبق جمال الدين إلا قليلا حتى استجاب لداعي ربه.
ومع ذلك فقد استفاد السلطان عبد الحميد من الدعوة الإسلامية بما مهده لنفسه بواسطة أشياعه وأتباعه من انه الساهر على الدعوة حتى تثمر والدين الإسلامي حتى يعود إلى لمعانه السابق والخلافة حتى تستقيم له باعتباره المحافظ عليها والداعي إليها، خصوصا وانه عرف كيف يبرهن على تعلقه في مد الخط الحديدي إلى الحجاز تسهيلا على الناس في القيام بفريضة الحج.
إلا أن الشك بدأ يراود بعض الكتب والمفكرين العرب في جدوى «الرابطة الإسلامية» مع الترك وفي إخلاص السلاطين العثمانيين نحو رعاياهم المسلمين، ومن الذين راحوا ينادون بهذه الفكرة المصلح الثائر عبد الرحمن الكواكبي الذي أدرك مفاسد الدولة العثمانية وانتقد إرادتها داعيا إلى برنامج جاء في إحدى «مواده» ضرورة إقامة خليفة عربي قرشي مستجمع للشرائط الشرعية في مكة المكرمة.
ولما اندلعت نار الحرب العالمية الأولى أخذت الدولة العثمانية-علاوة على انكشاف عجزها عن حماية ممتلكاتها الإسلامية- تنكل بالعرب هنا وهناك وتسعى إلى«تتريكهم» بالقوة بدلا من أن تتيح لهم كما نصحها بذلك جمال الدين الأفغاني ورفاقه من التمتع بحياة دستورية تصبح بفضلها قوية قادرة على رد هجمات العدو عند الاقتضاء ومؤازرة الدولة العثمانية الأم على كل حال، لا سيما وقد تهيأت العوامل كلها لتزيد في نشر الوعي القومي العربي بما حصل من اتصال متزايد بين مختلف الشعوب الإسلامية والحضارة الغربية وانتشار التعليم الجامعي وذيوع فلسفة قومية عربية ترمي إلى محاربة الاستبداد بكل أنواعه والحصول على الاستقلال الذي كان فيما إذا تحقق، لابد من أن يستفيد منه المسلمون قاطبة والدولة العثمانية خاصة. إلا أن الدولة التركية سارعت إلى تشديد الخناق على الولايات التي كانت تحكمها وتنصيب باشاواتها عليها، فتقضي بذلك على الاستقلال الداخلي الذي كانت تتمتع به بعضها إغراقا في الظلم والتعسف واتباعا لسياسة مركزة على إدارة مركزية بالأستانة منها تخرج الأوامر واليها تعاد الأمور كلها.. واندلعت الثورات والفتن في كثير من الأمكنة كالحجاز مثلا التي نكل بأهله الآمنين القائم بأعمال الأتراك في جدة بصورة تقشعر لها الجلود كما حاولت الباب العالية بكل وسيلة الاستيلاء على اليمن سعيا في وضع حد لانتشار الوعي القومي في البلاد الواقعة تحت سيطرة الأتراك مستعملة كل الوسائل لفرض اللغة التركية على الأقاليم التي كانت تملكها تماما كما كانت تعمل الدولة الفرنسية في المستعمرات أو الحمايات التي قدر لها أن تبسط نفوذها عليها في إفريقيا، ولا غرابة في ذلك فقد استمدت السياسة التي كانت تعتمدها في تسيير شؤون الولات العثمانية من النظام الفرنسي في مركزية الحكم، وهو نظام يضمن ولو إلى حين السيطرة على النفوس والعقول، وان كان القانون المذكور يشير بصراحة إلى ضرورة إشراك السكان في تدبير مصالحهم العامة، لكن الإدارة المركزية بقيت بكل أسف هي الغاية التي تهدف إليها الدولة العثمانية، مثلها في ذلك كمثل فرنسا في معاملتها للبلاد الواقعة تحت تصرفها. واستمر نظام الحكم هذا على صفته المطلقة- إرادة السلطان فوق كل إرادة- إلى أن تمكن فريق من الأحرار من تعزيز فكرة الحكم الدستوري، إلا أن السلطان عبد الحميد سرعان ما ضاق ذرعا بالحياة النيابية التي لم يوافق عليها إلا رغما عنه نظرا للحرية المطلقة والاستهتار اللغوي الذي سمح به النواب لأنفسهم، ولعبت المعارضة دورا خطيرا في البرلمان حتى أدخلت الهلع على السلطان الذي اضطر إلى حل المجلس النيابي ونفي عشرات من نواب المعارضة، وهكذا عطل الدستور وظل يحكم البلاد حكما فرديا استبداديا مطلقا مدة ثلاثين سنة إذ شعر بالتيار الذي صار يدفع العرب إلى البحث عن وسيلة تنقذهم من الحكم العثماني، بعد حصولهم على الاستقلال، وتفطن عبد الحميد أن انسلاخ العرب عن الإمبراطورية العثمانية سيكون نذيرا بانهيار الدولة برمتها لان بلاد العرب تشكل دعامة لهم وتمتد العثمانيين بموارد هائلة وبالعدد الأكبر من جيوشها، وشعر العرب بثقل قبضة الأتراك عليهم وراحوا يعملون بكل وسيلة للتخلص من سيطرتهم إلا أن العوامل لم تكن آنذاك مكتملة حتى تتحقق رغبة العرب في بناء مستقبلهم بأنفسهم كما يوصي به الوعي القومي الذي أصبح يتبلور شيئا فشيئا في النفوس.
كان العمل من اجل تلك الغاية صعبا غير يسير بالفعل، نظرا لما أصاب الشعوب العربية عامة من انحطاط بسبب ارتباطها بالدولة العثمانية، ولم تكن، كما يعلم كل واحد، دولة علم ومعرفة بل دولة حروب وفتوح، إلا أن شعلة المعرفة التي كانت -رغم تصلب الدولة الحاكمة- تشع من الأزهر الشريف ومفعول المدارس الحديثة التي أقبلت الإرساليات على فتحها في كل مكان من الأقطار العربية كان لهما أثرهما العميق في تطوير المجتمع العربي في الشرق الأدنى، كما أن حركة التعليم وانتشار الكتب والمخطوطات بسبب تركيز الطباعة في كل من مصر وليبيا وسوريا والعراق وظهور الصحافة وتأسيس الجمعيات الأدبية والعلمية على اختلافها وظهور حركة استشراف مباركة في كل مكان، كل ذلك كان من الأوشاب الدخيلة وجعلها لغة طيعة لاستيعاب الآراء الحديثة والتعبير عنها بوضوح ودقة وإشراق، تمهيدا لبعث وطنية صادقة ووعي قومي عن طريق إحياء التراث العربي واللغة العربية القومية.
أن الجمعيات خاصة التي كانت تحيا حياة نشيطة عن طريق إلقاء المحاضرات ومناقشة الأفكار السياسية ملتبسة بآراء أدبية وعملية اذكت لا محالة الروح الوطنية في مجتمع كان يعيش في ضيق لا يطاق وانبثق عن ذلك كله تكثلات كانت تعبر تعبيرا صادقا عما كان يخالج نفوس العرب من عواطف قومية ورغبة شديدة في التحرر والانتعاش رغم ما كان يربطها بالدولة العثمانية من علاقات وروابط دينية متينة، ونلتمس دليلا على حرارة تلك الدعوة إلى تحقيق ما كانت ترمي إليه الحركة القومية في أن الجاليات المسيحية نفسها كانت تحرص شديد الحرص على إقامة شعائرها الدينية باللغة العربية، لغة الوطن العربي، احتجاجا على اللغة التركية التي كان العرب على اختلاف نحلهم ومللهم يعتبرونها لغة أجنبية دخيلة، ولا شك أن تلك الحركة العامة أدت إلى حركة تعريب ناجحة كل النجاح.
وأهم ما حمل في طياته هذا الانتعاش الثقافي عن طريق انتشار المدارس في كل مكان هو انه كشف الغطاء عن حقيقة لا تنكر أهميتها ألا وهو أن الأمة العربية كانت ذات حضارة لها اعتبارها قبل الإسلام وبعد الإسلام، وان هذه الحضارة قد ساهم فيها المسلمون والمسيحيون على حد سواء، ولذا كان افتخارهم بالحضارة العربية الإسلامية التي أسهموا فيها عن طريق الأبحاث وعقد حلقات الدروس الأدبية والعلمية الصرف يساوي افتخار المسلمين بحضارة العرب وثقافتهم.
والذي زاد المسالة تعقيدا بالنسبة للعرب عموما هو أن المسيحيين باعتبار نحلتهم الدينية كانوا يعيشون على الهامش بالنسبة للمسلمين إذ لم تكن الدولة العثمانية تشركهم في الخدمات العسكرية ولا في الحروب التي كانت تشنها على الدول الأخرى، وأكثرها مسيحية، فلذلك شعرت الجماعات المسيحية بنوع من الانزواء عاشت بمقتضاه بعيدة عن الدولة، تراودها هي الأخرى فكرة تحقيق القومية التي راحت تسري في دماء أبنائها عن طريق التوعية الفكرية والثقافية التي كانت تعمل من اجلها عن قصد أو بدون قصد المدارس والأندية والمطابع والجمعيات في كل مكان بلبنان وسوريا ومصر والعراق.
وأما المسلمون فقد ربطوا مصيرهم، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، بالدولة العثمانية الإسلامية إذ اعتبروها امتدادا للسلطة الإسلامية الموروثة عن الدول الإسلامية السابقة، واستمر هذا الاعتبار ردحا من الزمان حتى القرن التاسع عشر عندما جعلت طائفة من العرب تشك في شرعية الخلافة العثمانية لبعدها عن النسب القرشي الذي يعتقد بعضهم انه شرط من شروط الإمامة، خصوصا وان كثيرا من المدافعين عن الديانة الإسلامية التي كانت تتمثل في كيان الدولة العثمانية صاروا ينظرون بعين من الأسف الشديد على ما آلت إليه تلك الدول من العناد والانحلال، ومن ثم يلتمسون لأنفسهم طريقا تمكنهم من المحافظة على كيانهم العربي الإسلامي، مطالبين بطائفة من الإصلاحات التي لم ينتبه إليها الحاكمون الأتراك، واضعين مقارنة بين ما يتمتع به الأتراك من حرية وحقوق وما كانت تعيش عليه الجاليات العربية في كل قطر من لبنان وسوريا والعراق ومصر من انحطاط وظلم وتعسف شديد، وهكذا بعد أن كان المسلمون يشعرون بارتباط قوي بشدهم إلى الدولة العثمانية أساسه لحمة الدين الإسلامي وبينما كان المسيحيون يعيشون بعيدين عن الدولة العثمانية يشعرون كأنهم أجانب في بلادهم فيحاولون الانسلاخ عن تلك الدولة الغاشمة، اذ توحدت شيئا فشيئا الأفكار التي كانت تروج في أدمغة هؤلاء وأولئك من مسلمين ومسيحيين نظرا لما أصابهم جميعا من إهمال، فراحوا يتوقون إلى ذلك اليوم الذي سيحققون فيه انسلاخهم عن الدولة العثمانية مطالبين إياها بإعطائهم بادئ ذي بدء حقوقهم في مختلف دوائر الدولة أسوة بالأتراك أنفسهم، وهكذا أخذت الفكرة القومية شكلا واحدا لدى المسلمين والمسيحيين معا.
ومعلوم أن هذه الحركة لم تظهر فجأة ولكن مهد لها بحركة ثقافية واجتماعية عن طريق المدارس والأندية وإصدار الصحف والمجلات وطبع الكتب والمخطوطات، فكانت أول الأمر حركة فكرية أعقبتها حركة اجتماعية، فتتبعتها حركة سياسية هي التي مهدت الطريق لانعتاق الأقطار العربية من ربقة الاحتلال العثماني، ذلك أن النابهين من العرب، مسلمين ومسيحيين، كانوا على علم بالتطور السياسي والاجتماعي الذي كان يسري مفعوله في أوربا، وكانوا متتبعين بالخصوص لنتائج الثورات الفرنسية من 1789و 1848و 1870 وما أعقبت تلك الثورات من نتائج في البلدان الأوربية الأخرى كايطاليا وألمانيا، ومن ثم راحوا يتحدثون عن الوطن والوطنية والقومية وحقوق الإنسان، فانتقلت فكرة الوطنية التي كانت تتمثل بادئ ذي بدء في الجالس على العرش العثماني إلى مفهوم جغرافي يتمثل في القطر الذي كانت تسكنه كل جماعة عربية في الأقطار الخاضعة للحكم العثماني، ومن ثم راحوا ينشرون أن الأخذ بمبادئ الحرية وأساليب الحكم الدستوري واجب على الحكومات وإلا ما تحقق ما تصبو إليه الشعوب من تقدم وازدهار، كما ذهبوا مذهب الفرنسيين الأحرار، فأعلنوا أن السيادة والسلطة للشعب وان وظيفة الحاكمين تتلخص في خدمة الأمة.
وفعلت هذه الأفكار مفعولها في النفوس، فكان من نتيجتها أن عجلت بتوعية الشعوب العربية ولكنها كانت في نفس الوقت معولا تحطمت بمقتضاه الوحدة الإسلامية والروابط الدينية التي كانت تجمع بين العرب والأتراك، فمهدت الطريق للاستعمار الذي وجدها فرصة سائغة مكنته من الانقضاض على كثير من الأقطار العربية واحتلالها، وحاول الكتاب العرب أن ينسجوا على منوال الكتاب الثوريين الفرنسيين في القرن الثامن عشر أمثال «جان جاك روس» و«فولتير» و«مونتسكيو» في تخطيط المبادئ الفلسفية التي تمهد للانقلاب الاجتماعي والسياسي الذي ارتسم في أذهانهم وذلك بالنظر لما كتبوه من وصف أخاذ للحرية وتنديد بالظلم والاستبداد المكروه عقلا وطبعا، معتمدين قول الأفغاني المشهور: «أن الحرية تؤخذ ولا تعطى». ومضى هؤلاء النابهون من العرب يكتبون وينشرون ويخطبون في كل مكان بأنه لابد من وضع دستور للشعب يشترك في وضعه هذا الأخير، وهذه القوة النيابية لا يمكن أن تشمل معناها الحقيقي إلا إذا كانت منبثقة عن الأمة العربية نفسها، شريطة أن تجري المداولات داخل مجلس الأمة باللغة العربية لان وحدة الأمة العربية هي بطبيعة الحال وحدة لغتها، ومعلوم أن ما دامت الأمة لم تنضو تحت لغة واحدة، هي لغتها الأصلية فان وحدتها السياسية والقومية ستظل وهما يعبث بمستقبلها العابثون.
ولم تبق هذه الأفكار طبعا في نطاقها النظري، بل راحت تغزو الميدان السياسي مؤلبة الطبقات العربية على الدولة العثمانية، محاولة تحويل نشاط الجمعيات الأدبية والخيرية إلى عمل سياسي مرموق، وتفاقم أمر هذه الجمعيات فتعددت وانبثت في كل جهد، واجتهد أصحابها في نشر الوعي الاجتماعي بين طبقة الشباب عن طريق ما استفادوه من تعاطيهم الثقافة الغربية، وتضافرت جهود أعضائها، مع مختلف الطوائف الدينية في عمل دائب رتيب مستمر يرمي إلى تحقيق الأهداف المشتركة على أساس الوحدة الوطنية وحدها، وجعل الرباط الذي يربط بين مختلف المواطنين هو التراث العربي وحده، وتدعمت تلك الحركة المباركة بموقف الشعراء الذين راحوا يعززون الأفكار القومية ويثيرونها في النفوس بقصائدهم الشعرية، متفننين بمجد العروبة، منددين بسياسة الأتراك، داعين إلى تحطيم الأغلال:
آن الأوان لان أخاطر بالـدم من لم يخاطر بالدما لم يسلم
أجزيرة العرب التي أحببتها كم من اكف قد رمتك باسهم
وأخذت أحيانا العواطف القومية طريق التفشي في الأتراك بمناسبة انكساراتهم في الحروب وهكذا لم يستطع رزق الله حسون كتمان فرحه عندما انتصر الروس على الأتراك في حرب 1877:
كم حروب للروس دارت على الترك رحاها فغادرتهــا طحينـــــــــا
هكـــــذا هكـــــــذا تـدرو علـــى البــا غي الليالي ويهلك المجرمونــا
وما فتئ أن انتظم بعض أعضاء هذه الجمعيات في جمعية سرية خطيرة، انتقلت الحركة من حيزها الأدنى الاجتماعي إلى الحيز السياسي القومي بوضوح، ذلك أن أعضاء هذه الجمعيات لم يكتفوا بعد بالمناقشة في اجتماعات سرية بل انتقلوا إلى نشر الوعي القومي بين طبقات الشعب بواسطة منشورات لا توقيع عليها، يحضون فيها العرب على الانتفاض والثورة ضد الدولة العثمانية، معتبرين الأتراك بأنهم مغتصبون للخلافة، متهمين إياهم بالعمل على القضاء على اللغة العربية، داعين إلى الاستقلال الذاتي للعرب، كانت هذه المناشير التي يلصقونها ليلا على جدران المنازل والدكاكين قرب المصالح الحكومية تحمل في الواقع الخطوط الرئيسية للبرنامج الذي كانت تدعو إليه تلك العصبة وكان ذلك البرنامج يلخص في ما يلي:
-منح سوريا الاستقلال الذاتي متحدة مع جبل لبنان.
-الاعتراف باللغة العربية لغة رسمية في البلاد.
-رفع الرقابة والقيود الأخرى التي تحد من حرية التعبير ونشر التعليم.
-استخدام القوات المجندة من أهل البلاد في المهام العسكرية داخل البلاد فقط.
كانت هذه المناشير مدعاة لغضب السلطات العثمانية طبعا، فراحت تضيق الخناق على المواطنين العرب، ولكنها مع ذلك لم تنجح في إخماد صوت التمرد والعصيان لان صوت الحرية إذا جلجل لا يستطيع سلطان أن يرده أو يخمده ولو ضربت دونه الأسوار والحواجز.
والواقع أن نشاط الجمعية السرية تضاعف بانضمام المدرسين إليها، وناهيك بتأثير هؤلاء على الأوساط الاجتماعية بما لهم من نفوذ على طلبتهم وتلامذتهم الذين متى ما اثروا فيهم أصبحوا لهم خير دعاة لأفكارهم الاجتماعية والسياسية في كل الأوساط.
ولم تزدد وطأة المناشير التي كانت تذيعها الجمعية السرية الا شدة بسبب ما كانت تدعو إليه المسلمين والمسيحيين إلى الاتحاد وشد أزرهم فيما بينهم حتى يتخلصوا من الحاكمين الغاشمين.
إلا أن اثر تلك الجمعية لم يتعد في الواقع عددا قليلا ممن كانوا يعملون تحت لوائها، وذلك معناه أن مبادئها لم تتجاوب مع بقية الشعب إذ لم يكن قد تكون في ذلك الوقت ما يسمى بالقضية العربية، ولم تكن الفكرة القومية قد تسربت إلى نفوس الجماهير الشعبية، ومن ثم يمكن القول بان الحركة القومية لم تكن ناضجة كل النضج، لذلك تمكنت السلطات التركية من تشتيت أفراد الجمعية، فهرب البعض إلى أقطار عربية أخرى كمصر وبقي البعض الآخر في منازلهم قابعين.
ومع ذلك فقد كان للجمعية السرية فضل كبير إذ رسمت الطريق الذي يجب أن يسلكه من الآن الوعي القومي في البلاد العربية الواقعة تحت تصرف الحكم العثماني، خصوصا وقد استمر عملها على يد بعض النابهين كعبد الرحمان الكواكبي الذي راح يدعو الناس إلى الاتحاد، اتحاد قومي عربي، لا ديني ولا مذهبي، داعيا إلى تناسي الأحقاد والتخلص من البدع والاجتماع على كلمة سواء هي فلتحيى الأمة العربية، وليحيى الوطن العربي!
ولما رحل الكواكبي إلى مصر أطلق العنان لقلمه ينتقد السياسة العثمانية وتواكل العرب، ويقترح في الأخير برنامجا يرمي إلى إقامة خلافة إسلامية في نظام يشبه نظام الولايات المتحدة الأمريكية مع مراعاة خصائص كل منطقة، هو برنامج يؤدي لا محالة إلى انسلاخ المسلمين عن الحكومة التركية.
وبما أن الكواكبي يمثل طليعة أمته في الذود عن حياض العرب والمسلمين، فقد وجب أن نذكر نبذة من حياته المليئة بالأعمال التي خلدت ذكره في الصالحات، وستتحقق من مركز هذا القائد الأكبر عندما تعلم أن نسبه يعود إلى علي بن أبي طالب أمير المؤمنين كرم الله وجهه، وقد ولد عبد الرحمان الكواكبي سنة 1848 أي في مطلع الثورة الفرنسية الثانية، وبرزت ثقافته الواسعة في صحيفة «الفرات» التي كان يديرها بحكمة وقوة، ثم في صحيفة «الاعتدال» و « الشهباء» حيث كان ينتقد الإدارة التركية انتقادا لاذعا، ولما يئس من إصلاح الإدارة اضطر إلى قبول العمل فيها، فتمت عدة إصلاحات على يده لفائدة الأمة، وهي إصلاحات تبرهن عن تبصره وإرادته ونزاهته، فقد كان له الفضل في زيادة أجور العمال والموظفين دفعا لذرائع الرشوة والاختلاس، وضبط أعمال الغرفة التجارية على نمط الغرف التجارية في البلاد المتحضرة، ووضع مشروعا لإنارة المدينة وجلب الماء إلى حلب، وكان في أعماله كلها صريحا نزيها، فجر على نفسه بذلك عداوة المسؤولين المفطورين على الوشاية والفساد، فاخذوا يكيدون له حتى اضطر إلى مغادرة البلاد إلى مصر حيث انكب على تأليف كتابه «طبائع الاستبداد» و«أم الفرس» وقد جاء الكتاب الأول والثاني عامرين بالأفكار والتجارب التي اكتسبها عن خبرة واسعة ومعرفة تامة بأحوال الناس في مختلف الأقطار الخاضعة للسلطنة العثمانية وهي أفكار مهدت كثيرا للانتفاضة الكبرى التي مكنت الشعوب العربية في أوائل القرن العشرين من تحقيق ما كانت تصبو إليه من نبذ الاستبداد وإدراك الاستقلال الذاتي عن طريق وعي قومي تسرب حتى إلى الجنود العرب الذين كانوا يخدمون في قطع الجيش العثماني.
يستخلص من كل ما تقدم أن العلاقات التي كانت تربط بين العرب والأتراك كانت رابطة إسلامية في أول عهودها بحيث ظلت الجماعات العربية الواقعة تحت تصرف الأتراك متمسكة بهذه الرابطة شعورا منها بأنها وسيلة لاستمرار المملكة الإسلامية، وحصن يتذرع به من خطر الاستعمار الأوربي المتربص بالعرب جميعا، لا فرق بين مسلمين ومسيحيين، ما دامت غايته الشنيعة الاستيلاء على أراضيهم وتسخيرهم لمصالحه الشخصية بدعوى العمل على تحضيرهم والمحافظة على مستقبل الجاليات فيهم.
ويظهر تمسك العرب بتلك الرابطة التي كانت تجمعهم بالأتراك في الموقف العدائي الذي ظهرت به طائفة من الشعراء المرموقين، للدفاع عن الرابطة الإسلامية كأحمد شوقي يؤازره في ذلك جماعة من الوطنيين المخلصين كمصطفى كامل وشكيب ارسلان، وكانوا جميعهم يؤيدون الرابطة الإسلامية والدولة العثمانية ويعملون على محاربة الأفكار المنبثقة من الجمعية السرية – مما يدل دلالة قاطعة على الخطر الذي كان يتجسم فيها على سلامة الدولة العثمانية- شعورا منهم بأنهم بدفاعهم عن الرابطة الإسلامية يعملون على إبعاد شبح الاستعمار الأوربي من الأقطار العربية وفي ذلك خدمة لمصلحة العرب ومصلحة الباب العالي في آن واحد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق