الدادائية في ضوء مراسلات بروتون وتزارا

. . ليست هناك تعليقات:




حين طُلِب مرةً من الفنان الألماني ماكس أرنست أن يحاضر في الحركة الدادائية التي انتمى إليها في بداية مسيرته الفنية، أجاب: «لم تكن الدادائية سوى قنبلة، لا لزوم لجمع شظاياها». لكن ماذا لو أن هذا ما يتوجب فعله، أي «جمع شظايا» حركة شغلت أجيالاً من الفنانين والشعراء والنقاد، بعد انحلالها، وثوّرت الفنون ونظرتنا إليها بطريقة راديكالية، وما زالت جمرتها متوهّجة إلى حد اليوم؟

وفي هذا السياق، لا يمكن إهمال الرسائل التي تبادلها رائد السورّيالية أندريه بروتون مع رائد الدادائية تريستان تزارا، وصدرت حديثاً عن دار «غاليمار» الباريسية. رسائل تُسقطنا مباشرةً في قلب نشاط الحركة الدادائية في باريس، كاشفةً طبيعة علاقة هذين العملاقين، ودوافع إشعالهما ثورتهما داخل هذه المدينة عام 1920، والأهداف التي سعا خلفها، والإستراتيجيات التي اعتمداها لإنجاح انقلابهما، قبل أن تمنحنا الأسباب الحقيقية لاختلافهما عام 1924، ثم لمعاودة نشاطهما داخل الحركة السورّيالية.

المسألة الأولى التي تدهشنا في هذه الرسائل هي نبرتها العاطفية التي لا نتوقّعها من شاعرَين ثوريين. فمنذ البداية، نستشفّ فيها إعجاب بروتون الكبير بتزارا ورؤيته في هذا الأخير ونشاطه تجسيداً لشخصية صديقه الشاعر جاك فاشيه وأفكاره. وفعلاً كان الشاب بروتون مطلع 1919 ينتظر تزارا في باريس كـ»مسيح» الثورة التي كان يرغب في إشعالها. وضعية لها في الواقع تفسير آخر غير الرغبة المذكورة، ونقصد الصدمة التي تلقّاها في الفترة نفسها إثر تبلّغه خبر وفاة فاشيه الذي غيّر حساسيته ونظرته للشعر والفن، وكشف له كيف أن طريقة ممارستهما آنذاك كانت تشكّل عقبةً لانبثاق الروح الفنية الجديدة.




ولذلك، ما أن وصلته رسالة تزارا الأولى، حصلت داخل ذهنه عملية استبدال حلّ فيها الشاعر الروماني مكان صديقه المفقود. وقد ساعدت في ذلك نبرة رسائل تزارا الأولى التي تعكس بدورها إعجابه ببروتون وتحمّسه للتعاون معه.

ولفهم خطوة تزارا الكتابة إلى بروتون، لا بد من الإشارة إلى أن نشاط الحركة الدادائية الذي انطلق في زوريخ عام 1916، كان قد بدأ بالخفوت مطلع 1919، بعدما استهلك رائدها ما في جعبته من «أدوات» فضائحية، على الأقل في تلك المدينة الباردة مقارنةً بباريس التي كانت ساحتها آنذاك ملتهبة بالنشاطات والمجلات الشعرية والفنية. ولذلك، ضمن سعيه إلى العثور على «ذخائر» جديدة، وجّه تزارا إلى بروتون رسالته الأولى طالباً فيها نصوصاً غير منشورة منه لمجلته «دادا». والحماسة التي أبداها هذا الأخير في جوابه هي التي دفعته إلى اتّخاذ قرار الانتقال إلى باريس، واعداً نفسه وصديقه بـ «الأشياء الجميلة التي سنتمكّن من تحقيقها سوية». لكن يجب انتظار مطلع 1920 كي يصل تزارا إلى العاصمة الفرنسية.

ومع أن استقراره في هذه المدينة سمح فعلاً لبروتون وأصدقائه بتحقيق مشروع فاشيه الانقلابي بواسطة أفعال ملموسة وفضائحية، لكن هذا لا يعني أنهم لم يزرعوا بأنفسهم، وقبل مجيء تزارا، «البذرة» التي ستمنحنا في ما بعد تلك الثمرة اللذيذة التي ستُدعى السورّيالية، ونقصد كتاب «الحقول المغناطيسية» الذي كتبه بروتون وفيليب سوبو سويةً عام 1919 وشكّل «التطبيق المنهجي الأول للكتابة الآلية».

فترة التفاهم الغنائي بين بروتون وتزارا لن تدوم طويلاً. فمن الرسائل المتبادلة بينهما، يتّضح لنا أن الكلمات القصيرة جداً ستحلّ تدريجياً مكان تلك الطويلة والحماسية. كلمات يقتصر مضمونها على تحديد موعد أو الاعتذار من تفويته أو تفسير ظروف وطبيعة انتقادات الواحد للآخر أمام الآخرين التي كان خبرها ينتشر بسرعة. كما لو أن الأخوّة بين هذين العملاقين لم تكن ممكنة إلا من مسافة معيّنة، وأن اجتماعهما داخل فضاءٍ واحد كان سيؤدّي حتماً إلى التنافُس.

وبالتالي، ينقل الجزء الأول من هذه المراسلات أصداء وطبيعة النزاعات داخل الحركة الدادائية، لكن قيمته لا تقتصر على ذلك لمدّه إيانا أيضاً بمعلومات في غاية الأهمية حول دور كلٍّ من تزارا وبروتون في تحديد الطُرُق التي أرادا اعتمادها لـ «قتل الفن» كما كان ممارَساً آنذاك، طُرُق تتراوح بين تنظيم حفلات شعرية وفنية فضائحية والقيام بأفعال وأداءات تحريضية داخل الفضاء العام وتأسيس مجلات وإطلاق بيانات... وفي هذا السياق، تغوص هذه الرسائل بنا في ظروف نشاطات هذه الحركة في باريس، كاشفةً على سبيل المثل أسباب «المحاكمة» التي أجراها أعضاؤها للكاتب موريس بارِس، ثم للفنان سلفادور دالي، أو خلفية تحضيرهم «مؤتمر باريس» الذي أفشله تزارا لعدم اقتناعه بجدواه، من دون أن ننسى التحديات التي واجهوها داخل مجتمعهم والأسئلة التي كانوا يطرحونها على أنفسهم، وفي مقدّمتها: هل يجب التحالف مع حزب سياسي لتسريع انبثاق الإنسان الجديد؟ وهل أن نظريات علم التحليل النفسي أو الكتابة الآلية تقدّم حلّاً مستقبلياً؟ أسئلة تبيّن أن محرّك نقاشاتهم كان دائماً الإبداع، وهاجسهم الأول كان بلورة لغة شعرية وبصرية جديدة.

وبما أن الرسائل التي تبادلها بروتون وتزارا امتدت حتى عام 1934، تمنحنا أيضاً فكرة دقيقة عن المرحلة التي تلت الدادائية. ففي واحدة من هذه الرسائل، يتّضح أن بروتون هو الذي تجاوز خلافه مع تزارا فدعاه إلى الالتحاق بالحركة السورّيالية عام 1929، مانحاً صديقه اللدود فرصة عيش المرحلة الأكثر خصوبة شعرياً في مسيرته، لوضعه خلالها الكتب الثلاثة الأهم في إنتاجه الشعري: «الرجل التقريبي» (1931) الذي يشكّل تساؤلاً عميقاً في الحياة الداخلية، و «حيث تشرب الذئاب» (1932) الذي يغوص في تلك القرابة المدهشة بين الذئب والإنسان، و «بذار ومخارج» (1933) الذي أسّس فيه لشكلٍ شعري فريد يتغذّى فيه الحس الملحمي وعلم الأنثروبولوجيا الواحد من الآخر.

ومع ذلك، حين قرر تزارا قطع علاقته بمجموعة بروتون عام 1935، كان مدفوعاً ـ وهنا المفارقة ـ برغبةٍ في الالتحاق بالحزب الشيوعي: «أطالب بحلّ الحركة السورّيالية وتوسيع جبهة المثقفين بهدف تقديم دعمٍ غير مشروط ولا نقاش فيه لنشاط الحزب الشيوعي»، علماً أنه هو الذي قال عام 1927: «الإقرار بمادّية التاريخ هو فعل خيانة للثورة الدائمة، ثورة الفكر، الوحيدة التي أدعو إليها». هكذا خان تزارا نفسه وأصدقاءه بمعانقته طوعاً الستالينية التي لن يغادرها حتى وفاته.

أما بروتون فكان دادائياً أصيلاً وصادقاً، وإن لم يدم ذلك طويلاً لسبب بسيط أدّى إلى حل الحركة الدادائية، وهو أن التخريب المنهجي الذي اتّبعه تزارا خلال المرحلة الدادائية ما لبث أن تعارض مع رغبة صديقه في تطوير نشاطهم وتوجيهه نحو أفعال وتظاهرات غير مجرّدة من المضمون، وهو ما كان يرفضه تزارا الذي أراد التعبير عن عدميته وشكّه آنذاك في جميع أشكال الفن أو الثقافة، بينما بقي العمل البنّاء الذي يتوجّب إنجازه هاجس بروتون.

ومن الرسائل التي تبادلها رائد السورّيالية مع تزارا يتجلى أيضاً بحثه الدؤوب عن صداقة عميقة لا علّة فيها، على رغم الخيبة التي تنتظر حتماً مَن يسعى إلى ذلك، وبالتالي مثاليته وحساسيته المفرطة وفضوله اليقِظ أبداً، الأمر الذي يثبّت الصورة الرائعة التي رسمها له جميع الذين عرفوه عن قرب، ويمزّق تلك الخاطئة التي حاول مبغضوه الترويج لها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ابحث في موضوعات الوكالة

برنامج ضروري لضبط الموقع

صفحة المقالات لابرز الكتاب

شبكة الدانة نيوز الرئيسية

اخر اخبار الدانة الاعلامية

إضافة سلايدر الاخبار بالصور الجانبية

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة
تعرف على 12 نوع من الاعشاب توفر لك حياة صحية جميلة سعيدة

روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية

روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية
روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية

احصائية انتشار كورونا حول العالم لحظة بلحظة

احصائية انتشار كورونا حول العالم لحظة بلحظة
بالتفصيل لكل دول العالم - احصائيات انتشار كورونا لحظة بلحظة

مدينة اللد الفلسطينيةى - تاريخ وحاضر مشرف

الاكثر قراءة

تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

-----تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

الاخبار الرئيسية المتحركة

حكيم الاعلام الجديد

https://www.flickr.com/photos/125909665@N04/ 
حكيم الاعلام الجديد

اعلن معنا



تابعنا على الفيسبوك

------------- - - يسعدنا اعجابكم بصفحتنا يشرفنا متابعتكم لنا

جريدة الارادة


أتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الارشيف

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام
الانستغرام

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة
مؤسستنا الرائدة في عالم الخدمات الاعلامية والعلاقات العامة ةالتمويل ودراسات الجدوى ةتقييم المشاريع

خدمات نيو سيرفيس

خدمات رائدة تقدمها مؤسسة نيو سيرفيس سنتر ---
مؤسسة نيوسيرفيس سنتر ترحب بكم 

خدماتنا ** خدماتنا ** خدماتنا 

اولا : تمويل المشاريع الكبرى في جميع الدول العربية والعالم 

ثانيا : تسويق وترويج واشهار شركاتكم ومؤسساتكم واعمالكم 

ثالثا : تقديم خدمة العلاقات العامة والاعلام للمؤسسات والافراد

رابعا : تقديم خدمة دراسات الجدوى من خلال التعاون مع مؤسسات صديقة

خامسا : تنظيم الحملات الاعلانية 

سادسا: توفير الخبرات من الموظفين في مختلف المجالات 

نرحب بكم اجمل ترحيب 
الاتصال واتس اب / ماسنجر / فايبر : هاتف 94003878 - 965
 
او الاتصال على البريد الالكتروني 
danaegenvy9090@gmail.com
 
اضغط هنا لمزيد من المعلومات 

اعلن معنا

اعلان سيارات

اعلن معنا

اعلن معنا
معنا تصل لجمهورك
?max-results=7"> سلايدر الصور والاخبار الرئيسي
');
" });

سلايدر الصور الرئيسي

المقالات الشائعة