الشعر العربي المعاصر والأسطورة المستعارة / إحسان عباس

. . ليست هناك تعليقات:


تحتل الأسطورة مقاماً هاماً في كثير من العلوم الإنسانية الحديثة، ويرى بعض علماء الأنثروبولوجيا (مالينوفسكي مثلاً) أن لفظة أسطورة لا تنطبق إلا على ما نبع عند البدائيين من «حكايات» لإرضاء حاجات دينية عميقة، أي أنها تعبير ديني اجتماعي، وكل ما عدا ذلك مثل القصص التي تروى عن أرباب اليونان وما شابه ذلك فإنما هي لون من الحكايات الشعبيىة لا الأساطير. ولكن دارسي الأدب لا يقفون عند هذا التحديد الصارم، وإنما يتقبلون في نطاق «الأسطورة» أشياء كثيرة لا يقبلها بعض علماء الأنثروبولوجيا، وحين استعمل كلمة «أسطورة» في هذا المقام فإني أنظر إلى معناها الواسع.

ويعد استقلال الأسطورة في الشعر العربي الحديث من أجرأ المواقف الثورية فيه، وأبعدها آثاراً حتى اليوم، لأن ذلك استعادة للرموز الوثنية، واستخدام لها في التعبير عن أوضاع الإنسان العربي في هذا العصر. وهكذا ارتفعت الأسطورة إلى أعلى مقام، حتى أن التاريخ قد حُوّل إلى لون من الأسطورة لتتم الأسطورة سيطرتها الكاملة. لماذا تمّ كل ذلك. ثمة أسباب كثيرة ربما كان في أولها ـ وإن لم يكن أقواها ـ التقليد للشعر الغربي الذي اتخذ من الأسطورة ـ من القديم ـ سداه ولحمته، ولكن منذ دراسة جيمس فريزر (في «الغصن الذهبي») للأسطورة، ومنذ دراسات فرويد ويونغ لدورها في اللاوعي الإنساني، انهارت الحواجز التي كانت تقوم دون تقبلها في الشعر العربي الحديث، أضف إلى ذلك كله أن للأسطورة جاذبية خاصة، لأنها لا تصل بين الإنسان والطبيعة وحركة الفصول وتناوب الخصب والجدب، وبذلك تكفل نوعاً من الشعور بالاستمرار، كما تعين على تصور واضح لحركة التطور في الحياة الإنسانية، وهي من ناحية فنية تسعف الشاعر على الربط بين أحلام العقل الباطن ونشاط العقل الظاهر، والربط بين الماضي والحاضر، والتوحيد بين التجربة الذاتية والتجربة الجماعية، وتنقذ القصيدة من الغنائية المحض، وتفتح آفاقها لقبول ألوان عميقة من القوى المتصارعة، والتنويع في اشكال التركيب والبناء.
لهذه الأسباب ولغيرها ذهب الشاعر الحديث ـ في توق محموم ـ يبحث عن الأسطورة، ويعتمدها أنى وجدها، لا يعنيه في ذلك أن تكون بابلية (عشتاروت وتموز) أو مصرية (أوزوريس) أو حثية (آتيس) أو فينيقية (أدونيس، فينيق) أو يونانية (أورفيوس، بروميثيوس، عولس/ أوديس، إيكار، سيزيف، أوديب…إلخ) أو مسيحية (المسيح، لعازر، يوحنا المعمدان)، بل إنه ذهب إلى بعض الحكايات الجاهلية ورموزها الوثنية (زرقاء اليمامة، اللات) وعامل القصص الإسلامية على المستوى نفسه مثل قصة الخضر وحديث الإسراء والمهدي المنتظر (صاحب الزمان)، واتخذ من كل ذلك رموزاً في شعره، تقوى أو تضعف بحسب الحال، وبحسب قدرته الشعرية، وحين اضطر إلى مزيد من التنويع ذهب إلى خلق الأقنعة والمرايا والاستعانة بالأدب الشعبي.
ومن الإنصاف أن أقول ان الشعراء يختلفون في مقدار شغفهم بالأسطورة، فبعضهم يكثر منها مثل السياب، وبعضهم قليل الالتفات إليها مثل محمود درويش، وإن شعراء العراق ولبنان ـ على وجه العموم ـ لا يجدون غضاضة في تطلبها من أي مصدر، بينما شعراء مصر مثلاً يتحفظون تجاه بعضها ويقبلون على بعضها الآخر. ومهما يكن من شيء فإن الشاعر المتميز ـ حين يشعر أنه في غير حاجة كبيرة إلى الأسطورة ـ يخلق أساطيره ورموزه الخاصة به.
ومع أن هذا الاندفاع نحو الأسطورة المستعارة كان ذا نتائج إيجابية، فقد علقت به بعض النتائج السلبية، إذ أخذت الأساطير أحياناً وأقرت على الدخول في بناء القصيدة، دون تمثل لها ولأبعادها، فوضح أنها دخيلة قلقة في موضعها، أو أنها جاءت أحياناً لا تؤدي سوى وظيفة تفسيرية توضيحية، شأنها في ذلك شأن كثير من التشبيه في الشعر القديم، وأحياناً كان رص نماذج منها في نطاق واحد لا يقدم شيئاً سوى الشهادة على الدرجة الثقافية للشاعر. ولذلك قلما ينبض الرمز بالحياة وتتشعب عروقها به في شعر الشاعر، إذ ما يكاد الشاعر يستخدم رمزاً في قصيدة ما/ حتى يقفز إلى رمز آخر في قصيدة أخرى، دون أن يكون ذلك رغبة في تنويع الدلالات أو حرصاً على تكييف المبنى. بل لعلي لا أتجنى حين أقول إن الشاعر الحديث قد اقتصر في استعمال هذه الرموز ـ رغم كثرتها ـ على دلالات محدودة، مما وسم الشعر بطابع التقارب والتكرار، وأهم هذه الدلالات ثلاث:
1 ـ التعبير عن القلق الروحي والمادي باستغلال رمز الجوّاب، وفي هذا المجال استخدم رموز عوليس والسندباد وأورفيوس وإيكار، وواضح أن حركة التجواب إما أن تكون أفقية أو دائرية (عولس والسندباد) أو نزولية (أورفيوس) أو صعودية (إيكار)، وفي كل حال يمثّل الرمز ـ بسبب وجهة الحركة ـ حقيقة أو حقائق إنسانية، وقد أضاف البياتي إلى الجوابين رمز عائشة (وهو رمز أوجده أدونيس ثم تخلى عنه) لتقوم مقام الخضر (الخالد)، لكن عن طريق الحب. كما جمع أدونيس بين الحركتين الصعودية والأفقية في قصيدته «مدائن الغزالي»، وفيما عدا هذه القصيدة نجد القصائد تعتمد الحركة المفردة، مما كان ذا أثر في طبيعة بنائها.
2 ـ التعبير عن البعث والتجدد: ومن الرموز الصالحة لذلك تموز (أو أدونيس) ولعازر والمسيح وأوزوريس وفينيق. وهنا يقف انحصار الشاعر في نطاق الدلالة دون التنويع، إلا ما نجده عند حاوي في مثل «ألعاز 1962».
3 ـ التعبير عن العذاب والآلام التي يواجهها الإنسان المعاصر، وهنا تعود رموز المسيح وبروميثيوس وسيزيف إلى الظهور.
وقد كان السياب بحكم موقعه الزمني شديد البحث عن الرمز لا يهدأ له بال، وكانت حاجته إلى الرموز قوية بسبب نشوبه في أزمات وتقلبات نفسية وجسمية، وبسبب التغيرات العنيفة في المسرح السياسي بالعراق، حينئذ، ولهذا يصلح أن يكون السياب نموذجاً للشاعر الذي يطلب الرمز في قلق من يبحث عن مهدىء لأعصابه المستوفزة، فهو يتصيده حيثما وجده، وقد تأثر كثيراً بذلك الفصل الذي ترجمه الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا من كتاب «الغصن الذهبي» عن البطل الأسطوري أدونيس، وبهذا يكون السياب قد فتح المجال بعده لمن شاء أن يستخدم الرموز، وإنْ تجاوزه بعضهم في القدرة على الاختيار وفي طريقة الاستخدام. على أن السياب نفسه قد تطور كثيراً في كيفية استغلال الأساطير والرموز، ابتداء من اتخاذها نماذج موضحة (كما في قصة يأجوج ومأجوج في قصيدة «المومس العمياء»)، حتى بناء القصيدة كلها على الرمز الواحد كما في قصيدته «المسيح بعد الصلب».


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ابحث في موضوعات الوكالة

برنامج ضروري لضبط الموقع

صفحة المقالات لابرز الكتاب

شبكة الدانة نيوز الرئيسية

اخر اخبار الدانة الاعلامية

إضافة سلايدر الاخبار بالصور الجانبية

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة
تعرف على 12 نوع من الاعشاب توفر لك حياة صحية جميلة سعيدة

روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية

روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية
روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية

احصائية انتشار كورونا حول العالم لحظة بلحظة

احصائية انتشار كورونا حول العالم لحظة بلحظة
بالتفصيل لكل دول العالم - احصائيات انتشار كورونا لحظة بلحظة

مدينة اللد الفلسطينيةى - تاريخ وحاضر مشرف

الاكثر قراءة

تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

-----تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

الاخبار الرئيسية المتحركة

حكيم الاعلام الجديد

https://www.flickr.com/photos/125909665@N04/ 
حكيم الاعلام الجديد

اعلن معنا



تابعنا على الفيسبوك

------------- - - يسعدنا اعجابكم بصفحتنا يشرفنا متابعتكم لنا

جريدة الارادة


أتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الارشيف

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام
الانستغرام

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة
مؤسستنا الرائدة في عالم الخدمات الاعلامية والعلاقات العامة ةالتمويل ودراسات الجدوى ةتقييم المشاريع

خدمات نيو سيرفيس

خدمات رائدة تقدمها مؤسسة نيو سيرفيس سنتر ---
مؤسسة نيوسيرفيس سنتر ترحب بكم 

خدماتنا ** خدماتنا ** خدماتنا 

اولا : تمويل المشاريع الكبرى في جميع الدول العربية والعالم 

ثانيا : تسويق وترويج واشهار شركاتكم ومؤسساتكم واعمالكم 

ثالثا : تقديم خدمة العلاقات العامة والاعلام للمؤسسات والافراد

رابعا : تقديم خدمة دراسات الجدوى من خلال التعاون مع مؤسسات صديقة

خامسا : تنظيم الحملات الاعلانية 

سادسا: توفير الخبرات من الموظفين في مختلف المجالات 

نرحب بكم اجمل ترحيب 
الاتصال واتس اب / ماسنجر / فايبر : هاتف 94003878 - 965
 
او الاتصال على البريد الالكتروني 
danaegenvy9090@gmail.com
 
اضغط هنا لمزيد من المعلومات 

اعلن معنا

اعلان سيارات

اعلن معنا

اعلن معنا
معنا تصل لجمهورك
?max-results=7"> سلايدر الصور والاخبار الرئيسي
');
" });

سلايدر الصور الرئيسي

المقالات الشائعة