قبل سنوات قليلة خلت أصدر يوسي بيلين الذي يعد من أبرز المفكّرين "الإسرائيليين" الصهاينة ومن المحسوبين على تيار الحمائم، ومن الذين كتبوا عن مستقبل "إسرائيل" بشكل استشرافي كتابه المعروف "موت العم الأميركي" وفيه يرتعب ويتملكه الخوف من المستقبل انطلاقًا من جملة مؤشّرات تصبّ في النهاية في مصلحة اضمحلال ما أسماه "الدياسبورا اليهودية" ويقصد بالطبع يهود العالم، وعزوف غالبيتهم عن التوجه إلى "إسرائيل"، معلنًا صرخته التي يقول فيها "أشعر بنوع من الهيستيريا والخوف إزاء ذوبان الشعب اليهودي خارج دولة إسرائيل".
وهنا نحن نتحفظ على عبارة "الدياسبورا اليهودية"، فهي أكذوبة وأسطورة وهمية، حاولت الحركة الصهيونية تسويقها كأسطورة لشعبٍ يهودي بدلًا من الدين اليهودي، بينما اليهود في العالم مواطنون في بلدانهم، كالمسيحي في فرنسا والمسلم في الصين، وبالتالي لا وجود لقومية أو شعب يهودي حتى نتحدث عن "الدياسبورا اليهودية".
وفي الوقت الذي أصبحت فيه الأمور تنحو نحو انكسار المشروع الصهيوني التوراتي وتراجعه بفضل نهوض الحركة الوطنية الفلسطينية وصمود الشعب الفلسطيني وثبات من تبقى منه فوق أرضه التاريخية، وذلك بالرغم من الظروف الصعبة السائدة، فقد بدأت مصادر القرار في "إسرائيل" تَنظُر إلى تحولات وتطورات المسارات السكانية على أرض فلسطين التاريخية باعتبارها عاملًا مؤثرًا في ميزان القوى الاستراتيجي بين إسرائيل الصهيونية والشعب العربي الفلسطيني، وتاليًا مع البلدان العربية خصوصًا منها المحيطة بفلسطين. مضافًا إليها التحولات الجارية في المسارات السكانية المتعلقة بوجود المجموعات الإثنية اليهودية داخل بلادها الأم، وفي نوع العلاقات بين "إسرائيل" ذاتها وما يسمى بـ"يهود الشتات"، إلى درجة بدأت فيها الشكوك تساور بعض أقطاب عتاة اليمين الصهيوني حول ما تسميه مصادر اليمين ذاته بمسألة "الوجود اليهودي" في المستقبل في ظل المعطيات الرقمية التي تشير إلى تناقص عدد اليهود في العالم بشكل لم يسبق له مثيل.
كما في تأثير الأوضاع السياسية المتفجرة في المنطقة والأزمات الدولية ذات العلاقة بالصراع العربي مع "إسرائيل" على يهود "إسرائيل"، واليهود عامة، منطلقين من تناول اليهود بالجملة، ووضعهم في سلة واحدة باعتبارهم "شعبًا واحدًا وأمة قومية" ولهذا فاليهود المنتشرون في شتى أنحاء العالم من الوجهة الصهيونية، لا يدينون بالولاء لأوطانهم التي يقيمون فيها، ويحنون بطبيعتهم إلى العودة إلى "وطنهم"، أي فلسطين لأنهم "يعرفون" أن جوهرهم اليهودي "لن يتحقق إلا هناك" رغم تعارض ذلك ليس فقط مع حقيقة الأمر وواقع اليهود في دول العالم المختلفة، وإنما أيضاً مع نظرة العديد من اليهود إلى أنفسهم وهويتهم، فـ"القومية اليهودية" والإيمان بأن أعضاء الجماعات اليهودية المنتشرة في أرجاء العالم هم في واقع الأمر شعب عضوي مرتبط ارتباطًا عضويًّا وحتميًّا بأرض "إسرائيل" التاريخية بات أمرًا مليئًا بالهراء بنظر العالم وحتى قطاعات من اليهود أنفسهم، فاليهودية دين وليست قومية، والدياسبورا اليهودية ليست سوى أكذوبة فاقعة.
هذا في الوقت الذي ما زالت فيه جدلية وتعريف "من هو يهودي" قائمة حتى اليوم في "إسرائيل"، حيث لم تحسم بعد ولن تحسم قريبًا، فضلًا عن نتوءات عدة فاقعة، أبرزها:
أولًا: مكانة المواطنين العرب الفلسطينيين داخل الأرض المحتلة عام 1948 وهم أصحاب الوطن الأصليون.
وثانيًا: جدلية الدين والدولة وقضايا وقوانين الأحوال الشخصية.
وثالثًا: انعدام دستور للدولة وغيرها، حيث تحاول الدولة الصهيونية حتى الآن التعويض عن انعدام الدستور فيها بما يسمى قوانين أساسية وهي أحد عشر قانونًا تعتبر أكثر أهمية وسطوة من القوانين العادية، حيث ينص قانون الأساس على تعريف "إسرائيل" بأنها "دولة يهودية وديمقراطية" (لاحظوا: يهودية قبل ديمقراطية)، وجاء ذلك التعريف بعد نقاش جرى في الكنيست "الإسرائيلي" قبل أكثر من ربع قرن مضى، واختلفت حتى "الأحزاب الإسرائيلية" بين عبارة "دولة يهودية" أو "دولة الشعب اليهودي" وكان القرار خلال التصويت على القانون عام 1985 (البند السابع/أ) على "دولة يهودية" ذي الطابع الديني والقومي معًا حسب تفسير أصحاب الاقتراح، فيما يذكر بما قاله بن جوريون قبل عقود "بأن إسرائيل هي دولة اليهود أينما كانوا".
لقد نوقشت وأشبعت نقاشًا كل المفاهيم والفرضيات السابقة في الدورات المتتالية لمؤتمر (هرتسليا) السنوي ومؤتمر "مستقبل الشعب اليهودي" في دوراته المتتالية بتنظيم من "معهد تخطيط مستقبل الشعب اليهودي"، ومشاركة كافة القيادات "الإسرائيلية" العليا ونخبة من السياسيين والأكاديميين اليهود في العالم، حيث جرى تسليط الضوء، في كل تلك الدورات المؤتمرية على واقع انتشار اليهود الديمغرافي في العالم، والحديث بالتفاصيل عن ما سمي بـ"التهديدات الجغرافية السياسية المركزية التي تُعرّض وجود الشعب اليهودي للخطر"، والميزان الديمغرافي وسوى ذلك من المواضيع كاليهود والجغرافيا السياسية، والقيادة اليهودية، ومستقبل الجاليات اليهودية، والهوية والديمغرافيا اليهودية.
وفي سياق تلك الأعمال المُشار إليها وما نتج عنها، فضلًا عن الأبحاث التي تراكمت خلال الفترات الماضية، تُشير الإحصاءات المدققة والمعطيات الرسمية المختلفة ومنها التي وزعها ونشرها ما يسمى بمعهد تخطيط سياسات "الشعب اليهودي" الذي أسسته الوكالة اليهودية إلى أن أعداد اليهود في العالم ككل آخذة بالتراجع والانخفاض لأسباب مختلفة، ففي الـ(الثلاثين) عامًا الأخيرة انخفضت أعداد اليهود خارج فلسطين المحتلة بـ(2,3) مليون نسمة، في حين بات يبلغ الآن وفق تقديرات الوكالة اليهودية (7,76) مليون فقط، أي أنها قد انخفضت خارج فلسطين بنحو الربع منذ العام 1970.
ويظهر من المعطيات، التي عرضها البروفيسور (سيرجيو ديلا غولا) من الجامعة العبرية أن (7 ملايين و760) ألف يهودي يعيشون اليوم خارج "إسرائيل"، في مقابلة أكثر من (10 ملايين في العام 1970). لنجد بالمحصلة النهائية أن أعداد اليهود في العالم بما في ذلك فلسطين المحتلة في تراجع عام، حيث بلغت أعدادهم على سبيل المثال بحدود ثلاثة عشر مليون نسمة مع نهاية العام 2006، بينما كانت تتعدى سبعة عشر مليون نسمة عام 1970.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق