بقلم : الكاتب التونسي : محمد كريشان
قرأت لليانة بدر عملين شعريين هما «زمن الليل» و«أقمار» وهو موضوع هذا المقال. أما «زنابق الضوء» وهو كتابها الشعري الأول على ما أظن، فلم تتح لي قراءته. وأقر أنه على الرغم من اطلاعي على مجمل الشعر الفلسطيني الحديث، ومن علاقات الصداقة التي تربطني بكثير من الشعراء الفلسطينيين، فإن هذا الكتاب يثير فيّ جملة أسئلة لم يسبق أن راودتني، ولعل أظهرها: إلى أي حد يصح الكلام على شعر فلسطيني حديث؟ والمسوغ لهذا السؤال أن الشعر ينتسب إلى اللغة؛ وليس إلى الجغرافيا. وحتى لو نسبناه إلى الجغرافيا، فإن من الصعوبة بمكان، أن نخضع الشعر الذي كتب في فلسطين قبل قرار التقسيم، لقوانين تاريخ الأدب الفلسطيني وقواعده. وهذا الشعر إنما ينتسب إلى العربية، والتقدير العلمي الصادق يقتضي منا أن نقول إن المصطلح «شعر فلسطيني» لم يظهر إلا بعد هزيمة 1967، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار، فيمكن أن نرجعه إلى الثلاثينيات من القرن الماضي، وتحديدا ثورة 1936 (إبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود وعبد الكريم القرني). أما الشعر الذي ظهر في فلسطين قبل ذلك، فهو جزء من تاريخ الشعر في أرض الشام (سورية ولبنان وفلسطين)، ومن تاريخ الشعر العربي عامة. ومن مفارقات التاريخ إن الاستعمار الغربي (الفرنسي والبريطاني خاصة عام 1918) الذي رسم الحدود بين هذه البلدان، رسم أيضا «الحدود» الأدبية بينها، أو هو أضفى بدون قصد، على هذه الآداب هويتها الجغرافية.
في «أقمار» نحن في صميم الشعر الفلسطيني بعد رحيل أيقونته محمود درويش، وقد أدارته الشاعرة على محورين: «سماء مليئة بالشوك والنجوم» وهو يضم ثلاثة عشر نصا؛ و«الحدود» وهو يضم عشرة نصوص. وكلها تتفاوت طولا وقصرا، ولكنها تنضوي كلها إلى شعرية التفاصيل.
يستدعي مفهوم التفصيل فحص مسألة العلاقة بين العمل وتصور كل من الشاعر والقارئ له. وما يقوله دانيال آراسه عن الرسم، نقوله عن الشعر. والمسوغ لذلك إن التفاصيل تعمل باعتبارها شِعارا مزدوجا: ما يعتمده الشاعر وما يعتمده القارئ. بيد أنها تطرح أكثر من سؤال؛ فإذا افترضنا أن مصدر التفاصيل واقع موضوعي، وأنها ناجمة عن نية فنية دقيقة يمكن إثباتها، فإن هذا لا يعني ضرورة وجودها لمجرد أن قارئا مثلي رصدها.
ما هو الجهاز الذي يسمح باستخراج التفاصيل واستصفائها؟ وإذا فعلنا، ألا تفقد شعريتها أو وظيفتها التنبيهية، وكأن مفردات النص تتراتب تفاضليا من حيث التفصيل؟ بل هل ثمة حقا تفاصيل في النص؟
أول ما نلاحظ في هذا الكتاب الشعري أن هناك مشادة بين الرغبة في الاحتفاظ بكل شيء فلسطيني، ونسيان أي شيء قد يحول دونه. وهي مشادة بين التذكر والتخييل؛ ولعلها سمة مشتركة في أكثر الشعر الفلسطيني، حيث قوة الذاكرة تكاد تحفظ أكثر ما يمكن من الأشياء وألوانها وظلالها؛ مثل هذه الإيماءة الخاطفة في «حجر أخضر يشطفه الموج» إلى اقتلاع أشجار الزيتون؛ ولكن بدون تصريح، إذ يختزل الفعل «اقتلع» المشهد كله ويذكي ذاكرة القارئ وهو يستحضر الجرافات الإسرائيلية: «سأكون النسيان حين ينسى نفسه وينام/ صفا من شجر الزيتون السعيد، لأنه لم يقتلع بعد من على سفح جبل»، بل إن هذا النص يقرأ في سياق نصها «كل زيتونة هي أمي/ كل زيتونة تحلم أن تكون/ طائرا هاربا من إسار الليل». وكذلك الشأن في «ستة هنود»: «ستة هنود بثيابهم البيضاء/ وجدائل شعرهم الطويلة/ داخل غرفتي الصغيرة/ لا أرى، بل أراهم يحدقون عبر النافذة إلى السهل الموشى بالينابيع/ يخفون أدمعهم الكثيرة/ لأن الجيش في الخارج كان/ يطرد البدو بعيدا عن الكهوف/ بعيدا/ عما مضى من بلاد». هذه القصيدة مشهد حلمي كأنه حلم الصباح الملون: «يديرون ظهورهم، فلا أرى وجوههم/ لا أرى ريشة حمراء/ ولا التطريز الملون على ثوب الزعيم». وما يقع في الظن للوهلة الأولى أن النص يعقد صلة بين الفلسطينيين البدو والهنود الحمر؛ وهذا سائغ مقبول. غير أن أعمق ما في هذا النص هو هذا النزوع إلى تحرير الخيال من رق العقل الواعي والمنطق، وإلى لغة حلمية تتبدل ألوانها وتتمازج، وتتغير خطوطها وتتداخل، فتطوي الجسد عن الواقع ومظاهره؛ لتنشره للحلم وتجلياته، فإذا تحولاته تحولات العين من حيث هي شاهد لا على خلجات النفس وحسب؛ وإنما من حيث هي عين الخيال التي ترى ما لا يُرى، فتخرق قشرة الشيء حتى يصبح مرآة لنفسه، وتصل المتخيل بالبصيرة، وبالواقع الفلسطيني الحي، مثلما تصله برمزية أسطورية أعمق أو هكذا يتهيأ لي؛ إذ يستوقفني الرقم 6: لِمَ ستة هنود وليس أكثر أو أقل؟ وهذا تفصـــيل ينبغي أن نأخذه بالحسبان.
فهل المقصود به الرقم الكامل في المخيال الديني، حيث خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام؟ أم الرقم الناقص مادام الرقم 7 هو رقم الكمال؟ أم هو رقم كمال الخليقة والإنسان معا الذي تقول الأسطورة إنه خُلق في اليوم السادس؟ بل أليس هناك سابع في هذا النص هو هذا المتكلم الحالم داخل غرفته الصغيرة، سواء أكان امرأة أم رجلا؟ أهي إشارة إلى أن النقص في الأشياء هو الرجاء في ما سيأتي أم هي طريقة في أن نَرى في الآن ذاته الذي نُرى فيه؟ بل ألا تقرأ «ستة هنود» في سياق نصها الآخر «هندي أحمر» المكتوب بتفاصيل دقيقة: القهوة ـ الريش الملون ـ الشجرة المغروسة في شكل قلب ـ الفأس؟ بل ألا تقرأ في ضوء»البدو يما» [يا أمي] : «أهلي البدو على طريق الغور الذاهبون أبدا إلى المراعي»؟
إن من حق الشاعرة أن تخفي في نصها تفسيرا، قد يكون هو المعنى الخفي الكلي. وقد يكون التفصيل أو الجزئي هو القناع الذي ينبغي إزاحته، للاستحواذ على المعنى وإنتاج الدلالة. ومثال ذلك أيضا «قريتنا الرومانية» فهذا النص تأمل على أنقاض العصر الروماني، بتفاصيل فلسطينية (الحناء ـ الشراشف ـ القرفة ـ البخور ـ سحابة الغاز) وبقفلة ذكية ساخرة هي إيماءة إلى كفافيس «قريتنا الرومانية مليئة الآن بقنابل السموم/ هدايا وصلتنا من البرابرة الجدد/ دون استئذان».
وهي من الإشارات التي تختلف وضوحا وخفاء في الكتاب، والشاعرة تعرف كيف تطبعها بطابعها مثلما هي تعرف كيف تستثمر التجارب الواقعية جنبا إلى جنب مع تجاربها الشخصية.
إن لعبة التفاصيل في الشعر، يمكن ما لم تكن متناغمة أو هي مركبة من عناصر متنافرة لا رابط بينها من منطق النص، أن تذهب بالعمل، وقد تحوله إلى فوضى. فلا بد من مزج العناصر المختلفة حتى لا تسترخي أواصر النص، ويتفكك وينحل. ووظيفة التفصيل إنما هي تخريج المعنى أو تيسير استنباطه؛ وليس حجبه أو تعميته. هذه هي المعضلة التي تواجهها قصائد كل تفصيل. فإما أن تكون التفاصيل من جوهر العمل، أو أن تظل محدودة لا تثقل على النص. والحق أن كل تفصيل في «أقمار» هو جزء صغير من الشكل أو الجسم أو الكتاب كله؛ يدور في نظام النص بقدر ما ينتظمه.
العالم الفلسطيني معقد، ولعله أكثر تعقيدا مما يقع في ظننا نحن الذين نعيش خارج أسواره. وإذا كان ثمة من هدف فهو احتواء هذا العالم في شكل فني خاص، وأقدر أن هذا ما وفقت فيه ليانة. وفي الشعر والفن عامة؛ فإن تجميع التفاصيل الحقيقية، أو القبيحة أكانت متجانسة أم لم تكن، بدلا من تبسيط العالم؛ هو الذي يمنح النص قوته ويشرع القراءة على وجهه الخفي، ويضيء المعتم فيه معجما وبناء. والنص ليس متاهة ولا ميدان تضليل، وهذه التفاصيل المستصفاة بدون بهرج أو ادعاء، هي مفتاح العملية الفنية التي تحدد شكل القصيدة وحركتها.
تلك هي بإيجاز شعرية التفاصيل عند شاعرة/ كاتبة، وهي أشبه بـ«القياس الأقرن» أو بالبرهان ذي الحدين الذي يكره الشاعرة على اختيار واحد من بديلين. فقد يزاحم التفصيل مفردات النص، بل قد يتقدمها؛ وقد يظل في خلفية النص أو من خفاياه، أو هو يخالسنا النظر، بدون أن نظفر به، بل لعل التفاصيل قضية تبادلية أو تخيير بين أمرين بما يسوق إلى حد التفصيل من حيث هو»جزء صغير من صورة أو من شيء ما أو مجموع ما»؛ ومن ثمة يمكن اعتباره متمما أو ثانويا أو تابعا يلحق بالأصل، من جهة؛ أو هو ينهض بوظيفة إشارية، من جهة أخرى؛ فهو «محصلة واضع التفصيل، أو أثر حركته». وهذا كما يقول دانيال أراس مما يجعل هاتين الطريقتين مترابطتين في تمييز تفصيل من تفصيل وإبانته.
٭ كاتب تونسي
محمد كريشان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق