صلاة قدسية لصورة المفردة في النص الشعري
وليد جاسم الزبيدي
الشعرُ يضربُ أطنابهُ في البر والبحر، لا يحدّهُ زمان ولا مكان، ولا يرتبطُ بقيودِ الواقع والنظم، بل لقدسيته، نُسبَتْ مقطوعات الى سيدنا (آدم)-عليه السلام- في رثاء ابنهِ القتيل(هابيل)، حيث يذكرهُ المؤرخون العرب في العديد من المخطوطات :
تغيّرتِ البلادُ ومنْ عليها فوجهُ الأرضِ مغبرٌ قبيحُ
ثمّ أنّ الشعرَ وُلدَ مع ( في البدء، كانت الكلمة)، واستمرّ ليكون مع رايةٍ أخرى (الكلمةُ الطيّبةُ صدقة)، ومع هذا الكم المهول من الشواعر والشعراء في عصرنا، وما ساعدت عليه وسائل التواصل بمختلف أنواعها وتأسيس المؤسسات والمنتديات التي أخذت على عاتقها نشر كل شيء، وأقول كل شيء، وأعني الغث والسمين، حيث يستطيع المتلقي والباحث والدارس تحديد أسماء المبدعين ومنْ حفروا في الذاكرة أشعارهم في مختلف العصور( الجاهلي، الاسلامي، الأموي، العباسي…حتى العصر الحديث)، ولكن ماذا سيذكرُ الباحثون أو القرّاءةُ، من أسماء في القرن الحادي والعشرين والساحة مشوشة، وفيها العدد العديد، وماذا ستتناوشُ الأقلامُ في مبثوثاتها، وما الذي سيحفرُ في صفائح ذاكرة المجتمع القرائي، وسطَ إعلامٍ يختالُ وسطَ هوسِ الحظوة. نتركُ هذه الأسئلةَ أمام منْ يعنيهم الأمر وننتظرُ مستقبلَ ما يُقالُ..؟؟
قلق الشعر/
طفولةُ الشعر العربي كانتْ لغةَ العامّةِ والخاصّة، حديث العوام والخواص، مجالس السلاطين والملوك، ومجالس الصعاليك، وحلقات الحانات، وهكذا كان الشعرُ العربي (ديوان العرب)، ولسان حالهم، عند صغيرهم وكبيرهم، رجالهم ونسائهم، ويحكمه عمود الشعر، ويقيدهُ العروض، ويظل الشكل محراباً مقدساً، لا مناص من تقليده، حتى وصلنا الى تمرد البعض من الشعراء على الشكل، والموضوع، وهكذا، جرت المواضيع والكتابة، لكننا نرى أن طواعية اللغة العربية، ووجود التنوير والانفتاح على حضارات وثقافات الآخر، فكّت جدران التحجر عن بنية الشعر العربي ليواصل مع أصالته التحرر والانطلاق نحو الآفاق بكسوةٍ جديدةٍ معاصرة، وهكذا كانت الأشكال الشعرية تأخذ طريقها في تحرير الشعر والشاعر، للإنطلاق والابداع بمستوىً ، ومستويات للتجديد، فالقافية والبحر الشعري الذي كان موسيقاه، أصبحت الموسيقى في استخدام المفردات والتكرار ، بل وتطورت لتكون الموسيقى الباطنية التي تنسابُ بين ثنيات النص، فتعددت الأشكال والمشارب والأذواق والمدارس والمذاهب، وكثُرتْ معها الخصومة والصدامات في أيهم الأفضل.
قُداس النّص/
وأنا أقرأ يومياً، انثيالات، وفيض من النتاج، بهرني نصٌ ظللتُ أتابعهُ لأطمئن بأنه لم يكن نصاً واحداً جاء محض صدفة، بل وجدتُ النصوص الأخرى التي قرأتُها لذات الشاعرة يتناسلُ من ذات النبع، وجدتُهُ نصّاً شعرياً مائزاً، في موسيقاه القدسية التي تنسابُ كموسيقى أرغن، بل هي صلاةٌ فيها من الخوف، والفرح، فيها من السؤال، والبحث والكدّ للحصول على اجابة سحريةٍ، تخرجُ من الرتابةِ والجمود، فيها قلقٌ بين المعنى والمبنى، قلقٌ جميلٌ تقشعرُ لهُ الكلمةُ للحصول على الصدى، وفي رؤى الشاعرة شطحاتٌ تجمعُ بين تصوفٍ متحرّر من ايقونة الجسد والروح، وفلسفةٍ لم تكنْ متحجرةً ، أو تقف كالطاووس متفاخرةً بالزهو، بل الفلسفة البسيطة التي تضعُ أوراقها أمام الجميع تبحثُ عن الخلاص وفق منظورٍ مفتوحٍ على الآخر.
ووجدتُ في نصوص الشاعرة اللبنانية الأستاذة(لودي جورج حداد) مبنىً جميلا هو الابتعاد عن السّرد والخطابيةِ المباشرة التي تخرج النّص من الشعرية نحو الخاطرة أو القصة، أو أي بناء يُفقد النّص أصوله وبنيته، كما وجدتُ الفكرَ مبثوثاً بشعرية ذكية في طيّات النّص، وقد اخترتُ ثلاثةَ نصوص للوقوف على منجز الشاعرة، بالرغم من جور هذا الاختيار، فأن تختارَ وردةً ليست بالضرورة تمثل البستان، وأن تختارَ قطرةً ليست بالضرورةِ تمثّلُ البحر، لكن وجدتني أحتفي بهذه النصوص وقد قمت بتفكيكها وفق دراسة أسلوبية لبيان اتجاه النّص عند الشاعرة (لودي جورج حداد).
– نص كبرياء:
في هذا النّص تضعُ الشاعرةُ جدليةً بين (الكبرياء) و(الصمت)، فهل كل كبرياء هو صمت، وهل تتوهُ الحقيقةُ في هذا اللون من الكبرياء؟ (ما بينَ كبريائي وصمتِكَ ../تاهَتِ الحقيقةُ/في غياهِبِ الظَّلامْ/استيقظَتِ العناصِرُ/) وتحيلُ الشاعرةُ الاحاسيس الى جسد، (اشتعلَ الحنين) و( وأحرقَ الأيام).. أنها تسأل عن الكبرياء الذي يكادُ يكون غائباً، فهي تؤدلجُهُ وتضعهُ في فلسفةِ الصمت والذكريات، لتختنقَ في الحناجر وتغص الأحداق، منْ..؟ تشيرُ الشاعرةُ الى (الأحرف)، وما هذهِ الأحرف؟ ولِمَ لم تكنْ حروفا؟ فالأحرف تعني عددا قليلا ممكن أن يكون كلمة أو جملة، ثم تستخدمُ الشاعرةُ مفردة (كوب) ولم تستخدم (قدح) أو (كاس)..هي العدمية التي تنشدها الشاعرةُ بعد ضجرٍ ومآسٍ، ونواح شحرور، لكنها ومع كل هذه المتاهات والصمت، تقول: (وأنا ألملمُ بقايا الرُّوحْ/لأكملَ دربَ السَّفرِ..).
– نص جليد ونار/
كيف تمسك الشاعرةُ بكفها ، الجليد والنار، كيف تبني صورةً بين نقيضين؟، بين (الجليد والنار)، وبين ( الموت والحياة) و (الأرض والسماء) ..هنا تتشكل الثنائيات قوس قزحٍ في تركيبةِ النّص، ثم التجسيد المتمثل في (حلمٍ تعرّى)، تجعل الحلم جسداً يتعرّى، يتحسسه الناظر، تطرح كلّ أسراره أمام الجميع، وتجعل للصباحِ ثغراً لأن زقزقة العصافير ورفرفة الطيور تعلن سفر الصباح، وتحيل الجسد الى احاسيس، (فراشةٌ من نور) ، وتغزل الدهشةَ على متون الرياح، تلعبُ الفلسفة دورها في هذا النّص، الذي يجمع التناقض والتضاد، وهو يسيرُ كمسار النص الذي قبله في القلق وعدم الاستقرار، بل وتظل الأسئلة مشرعة أبوابها للمتلقي ليشارك الشاعرة في وضع مسارات النّص.
-نص : خذني إليك/
نص يرتبطُ بكل القلق الانساني وهو جزء من قلق الشاعرة، فالذي كان مجهولاً في نصوصها السابقة، يأتي هذا النّص ليضع النقاط على الحروف، ولتضىئ ظلمة وأجوبة للأسئلة، ففي هذا النّص، تتوهُ (الشاعرةُ) في روح زنبقة، والزنبقةُ تنبتُ على كتف غيم، وتسألُهُ وتنادي: ( كبّل يدي/ بسلاسل الحريّة)، أية حريةٍ جميلةٍ تحياها وهي مكبلة بلاسل، وهل الحرية لها سلاسل، وهل سلاسلها تختلف عن العبودية، أسئلةٌ تنثرها على رؤوسنا وفي افكارنا، ثم تصرخُ لتقول: ( أنا قيثارةُ التأوّه/ وشذا الشهد/ وبقايا الأحرف) ثم تسترد نفسها من مخالب الأوهام، وتسأله أن يأخذها اليه، لتولدَ فيه، أنهُ نصّ رافض للواقع المرير المليء بالهموم والأحزان والضحايا والدمار، أنهُ نص يصرخُ بكل محبة ويهتف بانتظار المُخلّص.. الجميع ينتظر منْ يمنحنا الأمان والمحبة والسلام والعدل..
-أرغن الخلاص/
في نصوص الشاعرة (لودي جورج حداد) شحن موسيقي يتماهى في جنبات المقاطع، بل ترى الصورة الشعرية في المفردة المستخدمة التي تتكثف فيها الصورة مع استيحاء ظل من ظلال الحقيقة، وتنثرُ بين دفتي كل عبارة سؤال، تحاولُ فيه أن تجعل المتلقي مشاركا لها في كتابة النص وأن يبحث بين سطوره عن حلول وإجابات، لم تكن النصوص نمطية، ولا مكرورة ، بل تلج مواضيعَ انسانية لم يطرقها البعض أو الغالبية، تلبسُ نصوصها الجرأة، وأقصد الجرأة للوصول الى الحقيقة مع هارموني جميل من موسيقى المتضادات وجمال الروح ، واختيارها الراقي للفظة والمفردة التي تختزل عباراة وجملة، .. أرى أن هذه الشاعرة التي تقرأون نصوصها اليوم الشاعرة (لودي جورج حداد) ستترك بصمةً واضحةً مائزةً متميزةً في شعرنا العربي وهي تسلك هذا المنحى وهذا الاتجاه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق