ذهب ممثلو «شركة البازلت» في عرضهم «توازن» إلى خيار المسرح الإيمائي الصامت؛ معتمدين على أداء جماعي للوحاتهم التي حاولوا من خلالها طرح فكرة الأنا والآخر في مواجهة بدت أقرب إلى أفلام رسوم الكرتون بين فريقين ارتدى الأول اللون الأبيض، فيما ارتدى الثاني اللون الأسود، وذلك في مقاربة للواقع الراهن بدت على السطح في ملامستها للحرب السورية.
وجسّد إثنان وعشرون ممثلاً وممثلة من فئات عمرية مختلفة مسرحيتهم التي قدمت عروضها على خشبة الحمراء في أداء جسدي على وقع أغنيات المغنية الفرنسية الراحلة (إيديت بياف)؛ إضافة إلى مختارات من موسيقى صاخبة كتب فكرتها وأخرجها كل من كنان العشعوش ومعن دويعر. اتكأ عرض «توازن» على متتالية حركية لم تستخدم صوت الممثل العنصر الأبرز في أدوات فن التمثيل، بل ركزت على أداء بدني براني اعتمد كتلاً متنافرة على الخشبة، وصولاً إلى مشادات بين فريقي الأبيض والأسود وسيطرة زعيم فريق هذا الأخير على الفريق الخصم، ومن ثم تقرير القتل بعد انتحال أحد فتيان جماعة الأبيض صفة السواد وافتضاح أمره.
«توازن» الذي تم إنتاجه بالتعاون مع مديرية المسارح والموسيقى انحاز إلى ديالكتيك الصراع، لتقديم لعبة اعتمدت المزج بين الحركة والضوء والموسيقى؛ مفضلاً الحرب كثيمة درامية أنتجت صراعات لا مكان فيها للرماديين؛ أو ممن حاولوا التخفي بين الوحوش للظفر بحمايتهم، حيث تسود شريعة الغاب وحكم القوي على الضعيف لتتوضح في نهاية العرض قدرات معقولة لممثلي شركة البازلت للإنتاج الفني والتي غيّبت أصوات الممثلين على حساب لغة الإيماء وتقمص إيقاعية الموسيقى هذا في العرض.
برزت في «توازن» أيضاً لوحات عرضت لمنطق الافتراس، حيث تلتبس أدوار الفريسة والمفترس منذ اللوحة الأولى في العرض، والتي تجلت في قائد الأوركسترا، الرجل الضخم البدين الذي سيصبح في ما بعد زعيماً مطلقاً لا يجوز لأي كان عصيان أوامره وشق عصا طاعته أو الخروج عنها. من هنا ينزع «توازن» الأقنعة عن لعبة السلطة والأفراد في مجتمعات الصوت الواحد والحزب الواحد، حيث يصبح التمرد معادلاً للموت ولأحكام الإعدام الميدانية. إشارة تحيل على لعبة التوازن الدموية هنا لا تسمح بمعترضين أو محتجين عليها، بل يكون الحفاظ عليها مرهوناً بالدم وتقديم الأضحيات البشرية في سبيل إرساء منطقها ودوام سلطتها على الحشود. على الأقل يمكن قراءة هذا المستوى في المسرحية التي بدت كبذرة لتجربة كان من الممكن أن تقدم نفسها في سياقات أكثر نضجاً على الصعيد الفني، في حال تخلت عن الإغراق في الرمزية التي جاءت هنا كتورية على عين الرقيب ومخاتلة لذهنيته.
في النظر أكثر إلى المختبر الذي قدمه كل من العشعوش ودويعر سنشاهد إدانة لعبادة الفرد وهيمنته، لكنها جاءت خجولة وخافتة فيها من المداورة والهشاشة في التنفيذ ما جعلها أقرب إلى تصاب مسرحي، وتوليف للوحات وفق ما يشبه القدود على موسيقى «النمر الوردي» والتي استخدمها المخرجان للعرض كمعادل للحركة ومقياس لحذافير الموسيقى على خطوات الممثلين، لتأتي الجيستات- الوقفات المتتابعة على الخشبة ميزاناً للمختارات الغنائية في العمل.
هكذا يصبح الصمت أرضية لكم الأفواه وترويجاً لسيادة الصوت الواحد في جوقة يؤلف بينها النشاز كسمة رئيسية في مقاربة لرواية (1984) لجورج أورويل، حيث الأخ الأكبر قادر على أن يسيطر على الأفكار من خلال سيطرته على اللغة، جنباً إلى جنب مع إنتاج مجتمعات شمولية على المختلف فيها أن يدفع ضريبة اختلافه أحياناً بفقدان حياته أو ربما نبذه وتخوينه. مواجهة لا تخلو من وحشية تبدت في مبالغات الفحيح والصوت الحيواني المخنوق لبعض الممثلين الذين حاولوا اللعب على شكل الكاركتر- الشخصية التي يزعمون تقديمها على المسرح، مرةً في تقليد تنمّر واستئساد يطرحه طقس الصيد والصدام مع المختلف، ومرةً في حركات النظام المنضم والمشية العسكرية وفق رتل أو جوقة أو حشد بهيمي يسمع ويطيع ويمتثل وينصاع بعماء تام وكامل، إلى أن يأخذه الندم على ما اقترف من آثام ظاهرها جماعي وباطنها ذات مستلبة أحالها الأخ الأكبر إلى حطام إنساني وهيكل فارغ ومثالٍ دامغ عن (الرجال الجوف) المفرغة قلوبهم من أية رحمة أو شفقة أو تعاطف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق