لعل في إمكاننا أن نقول أن واحداً فقط من بين كل الفنانين التشكيليين الذين ساهموا في ولادة الحركة السوريالية، ظلّ أميناً لها ويحمل قيمها حتى أيامه الأخيرة، فيما انفض عنها رفاقه جميعاً بشكل أو بآخر واختاروا لأنفسهم دروباً ظلت تعتبر «سوريالية» بصورة إجمالية، لكنها راحت تبتعد أكثر وأكثر عن القوانين التي صنعت تلك الحركة. والرسام الذي نعنيه هنا هو ماكس إرنست (1891-1976) الذي قد يظل الهاوي العربي يذكر له أن آخر نشاط جماعي له في حياته كان مساهمته في معرض تشكيلي عالمي أقيم من أجل فلسطين أواسط سبعينات القرن العشرين.
> كان إرنست الألماني الأصل والفرنسي الهوى والهوية لاحقاً في نهاية سنوات مراهقته حين كانت زيارته الأولى لمعرض أقيم في مسقط رأسه كولونيا وجّهه ناحية الرسم بعدما كان دارساً للآداب. ثم كان في الثالثة والعشرين حين التقى هانز آرب الذي وجّهه إلى الحداثة، ثم في الثلاثين حين تعرف إلى بول وغالا إيلوار ثم تريستان تزارا ليصبح من فوره عضواً متحمساً في الجماعة السوريالية التي كانت في أول تكوّنها، ولسوف يكون واحداً من كبار المتحمسين لها إلى درجة أنه جمع الأعضاء جميعاً في لوحة ستصبح من أشهر أعماله وتبدو دائماً كرمز لولادة تلك الجماعة، وهي لوحته «في لقاء الأصدقاء» التي رسمها عند انتمائه الرسمي إلى الجماعة في عام 1922 لتصبح نوعاً من وثيقة ميلاد لها.
> في هذه اللوحة الضخمة (نحو 130 سم ارتفاعاً مقابل عرض يصل إلى 193 سم) جمع إرنست إذاً الرفاق من فنانين وأدباء في جلسة قد تكون هي واقعية، لكنه أحاط المبدعين الذين ضمتهم اللوحة بمناخ غرائبي لن يكون من السهل أبداً تأويله أو تبرير أي من مكوناته. لكن أغرب ما في الأمر أن الفنان جعل نقطة المحور في اللوحة نوعاً من حضور للكاتب الروسي دوستويفسكي يبدو فيه مثل تمثال يحضر هنا كضمانة للحركة وربما كأب شرعي لها. بيد أن الأغرب من هذا هو أن إرنست رسم نفسه جالساً على ركبة صاحب «الإخوة كارامازوف»، ناهيك بأن ثمة حضوراً في اللوحة، موارباً هذه المرة، لعنصر بالغ الذاتية من حياة ماكس إرنست لا يمكن أن يدرك ماهيته سوى المطّلعين على سيرته. فمن يتأمل في اللوحة سوف يلاحظ أن أيدي المبدعين تعبر عن شيء ما إنما بلغة الصمّ البكم. والحقيقة أن مشاهد اللوحة سيحار أمام هذا الأمر إلى أن يعرف أن والدي إرنست نفسه كانا يعملان في تدريس لغة الصم البكم هذه. ومهما يكن من أمر تبقى للوحة قيمتها التاريخية الكبرى باعتبارها سجلت ولادة واحدة من أهم الحركات الإبداعية التي ظهرت في القرن العشرين، كما سجلت ذلك الاهتمام الشخصي الذي أبداه ماكس إرنست نفسه بانضمامه الشخصي إليها. لكن في وسعنا أيضاً أن نرى في اللوحة نوعاً من الحداد الذي، بدوره، لن يمكن فهمه إلا على ضوء التاريخ الحقيقي للسوريالية، وذلك أن هذه الحركة التي قد يبدأها المؤرخون مع الفنان النهضوي جيرونيموس بوش ويعتبرونها متواصلة حتى الآن، لم تعش طويلاً حيث، وكما سنرى بعد سطور، لم تعش لتشهد أكثر من أول معرض تاريخي عالمي لها بعد سنوات قليلة من رسم إرنست تلك اللوحة... كحركة رسمية على الأقل. أي بعد ذلك اليوم الذي عبّر فيه إرنست بكل حماسة عن البدايات الرسولية لذلك التيار الذي وُلد من رحم واقع ملموس على رغم كل غرائبيته، والذي كان بعيداً جداً عن اليوم الآخر الذي حل بعد إنجاز تلك اللوحة بأكثر من عقد ونصف العقد، أي اليوم الذي يرى كثر أن السوريالية لفظت فيه أنفاسها تحديداً مع المعرض الباريسي الذي أقيم عام 1938 ليكون أول تجل عالمي صاخب للسوريالية وانتقالها من «حركة سرية مغلقة» إلى «حركة كونية تنفتح على العالم».
> لقد كان ذلك المعرض «الختامي» خاتمة بالتأكيد لواحدة من آخر حقبات الجنون الفني، قبل أن يدخل الساحة جنون الحرب وجنون الإنسان نفسه، حقبة ساد فيها الفن السوريالي ليضحي مدرسة قائمة بذاتها، وليتخذ في الوقت نفسه سمات التيار العالمي، بعد أن كان معظم التيارات الفنية الأخرى، ينحصر في بلد معين أو منطقة معينة. ففي الثامن عشر من كانون الثاني (يناير) من ذلك العام، وفي اليوم التالي لافتتاحه «رسمياً»، تدفق الجمهور إلى غاليري جورج فايلدنشتاين في باريس، للاندهاش المطلق أمام المعرض العالمي الأول للسوريالية، وكان عالمياً عن حق وحقيق، إذ شارك فيه يومها أكثر من ستين فناناً أتوا من 15 بلداً بناء على دعوة أندريه بريتون، الذي أحس في تلك اللحظة بالذات بأن جهوده السوريالية قد أثمرت أخيراً، وبأن نزعته الأممية- العالمية، لم تكن مجرد هراء وعبث.
> قبل ذلك كان ثمة حضور للسوريالية في الأدب والفن، وكانت معارض عدة أقيمت في أمستردام وبرلين وباريس وغيرها، غير أن أياً من تلك المعارض لم يتمكن من أن يحقق تلك العالمية «وذلك التوحد بين فناني أمم عدة» بحسب تعبير صحافة ذلك الزمن. ومن هنا جاء معرض باريس في 1938 ليتبدى عالمياً وشاملاً بالمعنى الحقيقي للكلمة، لكنه جاء في الوقت نفسه وكأنه حفل تأبين لأحلام السوريالية نفسها، ولم يكن ذلك، فقط لأن مصير السوريالية من بعده حكمه اندلاع الحرب العالمية الثانية في العام التالي، تلك الحرب التي نقلت «الجنون السوريالي» من عالم الإبداع إلى عالم الواقع، بل أيضاً لأن ذلك المعرض نفسه أوصل السوريالية إلى ذروة تناقضها مع نفسها.
> ففي البداية، حين دعا أندريه بريتون إلى سوريالية الفن والإبداع وتحلق من حوله عدد كبير من الفنانين والشعراء، وغازل التيارات السياسية التروتسكية، ونادى بثورة فنية تتواكب مع ثورة التغيير السياسي الدائمة التي كان تروتسكي يدعو إليها، كان العماد الأول للتيار السوريالي هو الإبداع التلقائي المنفلت من كل قيود ومن كل عقلانية واعية ومدروسة تتواكب مع ضرورة قيام الناس بثورتهم السياسية بانفلات عفوي بعيد عن التخطيط الحزبي المؤدلج والمخطط سلفاً.
> كان ذلك الجانب اللاعقلاني في الثورة السوريالية، والجانب التلقائي في ممارستها لعملية الإبداع، بما أثار اهتمام العديد من الفنانين والأدباء وجعلهم يتحلقون من حول بريتون ويراسلونه من بعيد (حتى في مصر قامت يومها حركة سوريالية لافتة وعميقة الجذور لم يكن من الصدفة أن تتحلق هنا أيضاً من حول التيار السياسي التروتسكي، وكان من أبرز أقطابها جورج حنين وحسن التلمساني وشقيقاه وفؤاد كامل وصلاح طاهر...الخ)، بيد أن ما شاهده الجمهور في المعرض السوريالي العالمي الأول في باريس، في ذلك اليوم البارد من شهر كانون الثاني (يناير) 1938، أتى مغايراً لذلك كله. فالمعرض الذي أشرف على تنظيمه أندريه بريتون ومارسل دوشان، وكان سلفادور دالي وماكس إرنست وأندريه ماسون من أبرز نجومه، بدا للناس مفتعلاً ومصطنعاً، وكأنه صالة مسرحية نظم ما فيها من ديكور في شكل يهمه أن يثير الإعجاب و... التصفيق. كان من الواضح للجميع أن المعرض، يتوزع بين ذهنيتين، متشابهتين ومتناحرتين في الوقت نفسه ذهنية أندريه بريتون التسلطية التي تخفي أعلى درجات العقلانية خلف تنظيرات العفوية الواهية، وذهنية سلفادور دالي الاستعراضية التي تنبعث من المهارة ومن الرغبة المدروسة في إثارة الإعجاب أمام الغرابة المفتعلة، أكثر مما تنبعث، في رأي البعض، من تطلعات فنية وابداعية حقيقية.
> كان كل ما في المعرض، بما في ذلك ديكوره المسرحي، يبدو مفتعلاً ومدروساً بعناية تجعله متناقضاً مع «العفوية والتلقائية» السورياليتين، حيث يعبر المتفرج أولاً بلوحة «التاكسي الممطر» لدالي وتستقبله شقراؤه المغمسة بماء المطر والمغطاة بالحلزونات، ليصل إلى «الشارع السوريالي» المليء بالدمى العارية أو المرتدية أغرب الثياب بحسب رغبات مان راي، الرسام والمصور السوريالي المعروف، وصولاً إلى صالة فسيحة عرضت فيها مئات الأعمال والحوائج «السوريالية». كل ما في المعرض بدا يومها مفتعلاً ومنظماً في شكل جماعي مدروس، بحيث تساءل الكثيرون: ولكن ماذا بقي من عفوية السوريالية وتلقائيتها؟، وأين أضحت كل تنظيرات بريتون وصحبه؟ أمام هذا السؤال بدا واضحاً أن السوريالية التي كان يُفترض أنها تحتفل بانتشارها العالمي، إنما راحت تؤبن نفسها في ذلك المعرض وتلفظ أنفاسها الأخيرة. وهذا ما كان بالفعل.
٢٥ نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠١٧






ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق