انقلاب المفاهيم: من جمهوريّة أفلاطون إلى جمهوريّة البوليس

. . ليست هناك تعليقات:


قد يبدو العنوان غريبا وغامضا للبعض، خاصّة في جزئه الأوّل. لذلك وجب التوضيح أنّه، ومنذ ظهور فكرة الجمهوريّة التي وضعها أفلاطون وبسط تفاصيلها على لسان سقراط وتلاميذه، برز تفاوت الطبقات وانفراد كلّ مجموعة بشريّة بمهام معيّنة وامتيازات تبعدها الواحدة عن الأخرى. 

لن ندخل في جدال فلسفيّ (ليس هذا مجاله) بل سنحاول شرح انقلاب المفاهيم من خلال اسقاط نموذج الجمهوريّة الأفلاطونيّة على الجمهوريّة التونسيّة أين ينتج الفارق الطبقي مجموعة من الإشكاليات الحرجة التي تتطلّب تفكيرا عميقاً في أسباب نشأته واستتباعاته على الحياة اليوميّة للمواطن.

 والمقصود هنا ليس التفاوت الطبقي بمفهومه الماركسيّ بل هي قراءة في اقتحام الجهاز البوليسي المشهد من خلال استفراده بطبقة خاصّة به أين يكون رجل الأمن فوق القانون وغير خاضع لأيّ رقابة أو محاسبة.

في القرن الرابع قبل الميلاد، أي منذ أكثر من 25 قرن، كانت جمهوريّة أفلاطون المثاليّة متكوّنة من ثلاث طبقات أساسيّة الفلاسفة، الجنود/الحراس وأخيرا العوام. في هذه التركيبة التي تخيّلها مؤلّف “الفيدون” العديد من النقائص وهي تعكس نظرة تحقيريّة للأفراد. في تونس، ولئن اختفت طبقة الفلاسفة (والمثقفين عموماً) فانّ لجمهوريّة أفلاطون تقاطعات عديدة ونقاط التقاء أهمّها صمود طبقة الحراس.

إنّ المتمعّن فيما وراء ترسانة القوانين، يستنتج بسهولة أنّ التقسيم الثلاثي للسلطة كما اقترحه مونتيسكيو في كتابة روح القوانين (1748) ليس سوى شكليات وأنّ السلطة في تونس لا “تحّد من السلطة” بل تدعمها وتعزّزها. فالسلطة ممثّلة في البوليس خير مثال على هذه الوضعيّة من خلال تغوّلها الذي يطرح نقاط استفهام حول كيفيّة الحد منها وتقييدها بالقوانين. فبالرجوع الى فكرة الفصل بين السلط، نجد أنّ السلطة في تونس لا تحرّك ساكنا أمام الاعتداءات المتكرّرة التي لم تكتف بغزو الشارع بل تحوّلت لاستعراض عضلات كما حصل مؤخّرا أمام محكمة بن عروس. لقد كانت هذه الحادثة مؤشّرا يتوجّب التوقف عنده لإعادة النظر في مكانة هذا الجهاز داخل الدّولة لأنّه يشهد انزياحا خطيرا منذ عقود مما أدّى الى ابتعاده عن مهامّه الحقيقيّة.

في ظلّ هذا التداخل في المهامّ وضعف السلط، بقي المواطن في أسفل السّلم الطبقي (الذي أشرنا إليه في البداية) يعاني من استتباعات ضبابيّة المشهد. والحقيقة أنّه إذا ما جازفنا بإعادة تعريف مهامّ البوليس وتحديدها في اطار الدولة الحديثة، سنجد ثلاثة نقاط أساسيّة حلّلها الكاتب الفرنسي بيار أنطوان مالفي المختصّ في المسائل الأمنيّة، وهي: حماية المواطن، الحفاظ على سيادة الدولة وهيبتها، التصدي للأعمال الاجراميّة. 

 وهذا الهيكل الثلاثي في ظلّ أوضاع هشّة كما تعيشها تونس قد يفسح مجالا أمام قراءات متعدّدة لكلّ مهمّة ستؤدي حتما الى انزياحات بجوهر المهمّة الموكولة الى هذا الجهاز. فبعد أكثر من 50 سنة تحت الديكتاتوريّة، احتلّ رجل الأمن المخيال الشعبي بصورة الفرد النافذ الذي يحاول إضفاء شرعيّة على مكانته من خلال احتكاكه بالآخر. وهو ما يؤدي الى مجموعة من التجاوزات سواء كان ذلك على المستوى الفردي (رجال الأمن في تعاملاتهم اليوميّة في مختلف الوضعيات مع المواطنين) أو على مستوى الجماعي (مسألة النقابات الأمنيّة التي تطوّرت تدريجيا لتكون دولة داخل الدولة).

من الطبيعي أن يكون هذا المشهد محفّزا للمواطن على إعادة الثورة من جديد بما أنّه يستشعر خطرا محدقا بمكسب وحيد تقريبا وهو الحريّة. اذ تبدو هذه الأخيرة مهدّدة بما أنّ مجموعة من الحوادث تمثّل مؤشرات على عودة الممارسات البوليسيّة في أكثر من مناسبة. وهو ما ينتج صراعا بين المواطن والبوليس. عادة ما يُحسم لصالح هذا الأخير الذي يرتكز على شرعيّة زائفة في كلّ مرّة يستمدّها أساسا من غياب القرار السياسي الصائب على عكس ما يحصل في العديد من البلدان الأخرى.

اذ تعمل العديد من البلدان الأوروبيّة (وخاصّة فرنسا) على مسألة ادماج البوليس في الأحياء الشعبيّة التي تشهد توترا ونسب اجرام مرتفعة وذلك عبر تمكينهم من آليات تخوّل لهم فهم عقليات أبناء المنطقة المعنيّة لتجاوز المعوّقات التي تكون سببا في تفاقم الأوضاع. في تونس، لا يبدو هذا الحلّ ناجعا او قابلا للتطبيق اذ أنّ رجال الأمن يقع استقطابهم وتمرّ فترة التدريب في وقت وجيز ولا يلقّنون خلالها أي شيء يمكن أن يساعدهم في تعاملاتهم على الميدان. 

فيكون رجل الأمن مُقَلِّدا لمن سبقه وموظّفا لما استبطنه في لاوعيه عن هذه المهنة (سلطة، نفوذ، علويّة، صراع دائم مع الآخر…) وبالتالي يكون في وضعيّة مريحة دون أيّ رقابة في علاقته بالمواطن. هذا النموذج المؤسطر للبوليس تقابله قوّة مضادّة تعوّض غياب السلطة وهي معارضة المواطن الذي يرفض هذه العلويّة اللاشرعيّة. هنا، يمكن أن نستنتج أنّ موروث الاستبداد السياسيّ في تونس يلقي بظلاله على هذه العلاقة الثنائيّة المعقّدة ويجعلنا نعيش نفس الأزمات والمشاكل اليوميّة الناتجة عن الممارسات البوليسيّة.

اهتمّ ميشال فوكو في “المراقبة والمعاقبة” (1975) على نشأة البوليس وتتبّع ظروف نشأته وظهوره منذ القرن الثامن عشر. وقد شرح أنّ هذا الجهاز يستمدّ شرعيّته من خلال ارتباطه بالسلطة والعدالة مثلا ليست سوى مسجّل/ مساعد له لإتمام مهامّه. وإذا أسقطنا هذا التحليل على الواقع التونسيّ، سنلاحظ انّ جهاز البوليس مازال متمتّعا بكامل عنفوانه لا بل أنّه صمد بعد رياح ثورة طالبت بالتغيير مما يجعلنا نستفسر عن آليات اشتغاله في علاقة بالسلطة السياسيّة الموجودة. 

فكأنّه مرتبط ارتباطا عضويا بأيّ سلطة سياسيّة تأتي لأنها تفهم أنّه ضروريّ لبسط النفوذ وتجسيد ذلك المفهوم الذي يبقى طوباويا بدون البوليس ونقصد هنا العنف الشرعي الذي تحتكره الدولة (حادثة الرش في سليانة نموذجا: فقد وقع تبرير ما حصل بأنّه يدخل في حقّ الدولة استعمال العنف الشرعي في حالة العصيان المدني).

هكذا تتشكّل ملامح جمهوريّة البوليس التي تضرب بالعقد الاجتماعي عرض الحائط وتطلق العنان لعصا رجال الأمن في كلّ مناسبة لبسط نفوذها واحكام قبضتها على كلّ المجالات. وقد أدّت هذه الوضعيّة المترديّة وتعدّد فضاءات/مجالات الصراع بين البوليس والمواطن، تمثّل أيضا سببا في التحام أطياف متعدّدة التي توسّلت الحركات النضاليّة السلميّة ايمانا منها أنّ الشارع وحده كفيل بالتنديد بممارسات البوليس في انتظار تغيير المنظومة أو إصلاحها ليتحوّل أمننا الى أمن جمهوريّ.
كن مدون

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ابحث في موضوعات الوكالة

برنامج ضروري لضبط الموقع

صفحة المقالات لابرز الكتاب

اخر اخبار الدانة الاعلامية

إضافة سلايدر الاخبار بالصور الجانبية

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة
تعرف على 12 نوع من الاعشاب توفر لك حياة صحية جميلة سعيدة

روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية

روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية
روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية

احصائية انتشار كورونا حول العالم لحظة بلحظة

احصائية انتشار كورونا حول العالم لحظة بلحظة
بالتفصيل لكل دول العالم - احصائيات انتشار كورونا لحظة بلحظة

مدينة اللد الفلسطينيةى - تاريخ وحاضر مشرف

الاكثر قراءة

تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

-----تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

الاخبار الرئيسية المتحركة

حكيم الاعلام الجديد

https://www.flickr.com/photos/125909665@N04/ 
حكيم الاعلام الجديد

اعلن معنا



تابعنا على الفيسبوك

------------- - - يسعدنا اعجابكم بصفحتنا يشرفنا متابعتكم لنا

جريدة الارادة


أتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الارشيف

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام
الانستغرام

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة
مؤسستنا الرائدة في عالم الخدمات الاعلامية والعلاقات العامة ةالتمويل ودراسات الجدوى ةتقييم المشاريع

خدمات نيو سيرفيس

خدمات رائدة تقدمها مؤسسة نيو سيرفيس سنتر ---
مؤسسة نيوسيرفيس سنتر ترحب بكم 

خدماتنا ** خدماتنا ** خدماتنا 

اولا : تمويل المشاريع الكبرى في جميع الدول العربية والعالم 

ثانيا : تسويق وترويج واشهار شركاتكم ومؤسساتكم واعمالكم 

ثالثا : تقديم خدمة العلاقات العامة والاعلام للمؤسسات والافراد

رابعا : تقديم خدمة دراسات الجدوى من خلال التعاون مع مؤسسات صديقة

خامسا : تنظيم الحملات الاعلانية 

سادسا: توفير الخبرات من الموظفين في مختلف المجالات 

نرحب بكم اجمل ترحيب 
الاتصال واتس اب / ماسنجر / فايبر : هاتف 94003878 - 965
 
او الاتصال على البريد الالكتروني 
danaegenvy9090@gmail.com
 
اضغط هنا لمزيد من المعلومات 

اعلن معنا

اعلان سيارات

اعلن معنا

اعلن معنا
معنا تصل لجمهورك
?max-results=7"> سلايدر الصور والاخبار الرئيسي
');
" });

سلايدر الصور الرئيسي

المقالات الشائعة