تحتّل الفكرة، كمفهوم، مكانة هامّة في الفلسفة الدولوزيّة. فهي ما ينبني عليه الفعل الإبداعي ومقوم أساسي منه تنطلق كلّ محاولة أدبيّة أو فنيّة. إنّها بمثابة نوع من أنواع الاحتفال أو حدث نادر الوقوع. في السينما، إذا ما أردنا أن نتحدّث عن وجود فكرة ما كمحرّك لتجسيد سيناريو فإنّنا سنتطرّق حتما إلى وجهة النظر، إلى طريقة ورؤية المخرج/ة للأمور التي سيفرضها بطريقة أو بأخرى على المشاهد من خلال تسليط الضوء على قضيّة معيّنة في فضاء محدّد.
وهذا ما فعلته السينمائيّة اللبنانيّة نادين لبكي في فيلمها الأخير “كفرناحوم” المتحصّل على جائزة لجنة التّحكيم في مهرجان كان. فهي، وإن عرّفت بالفكرة منذ المشاهد الأولى (الفضاءات التي ستكون ديكورا للأحداث) إلاّ أنّها سعت إلى عرض الهامش لا عبر صورة موسّعة شاملة بل من خلال شخصيات منفردة لكلّ منها مصيرها ومسارها الخاص.
لا يمكن أن نمرّ مرور الكرام على مشاهد البؤس التي تتراكم بنسق تصاعديّ ومعاناة تتبلور أكثر من خلال ملامح الممثلين التي تراوح المخرجة بينها وبين الفضاء الحاضن لها. سينما نادين “الواقعيّة”، كما تُصنّف، هي أدب دوستويفسكي. فمؤلّف “الإخوة كارامازوف” يسلّط الضوء على عدّة قضايا من خلال تطوّر وتغيّر الظروف المحيطة بالمجموعة (العائلة تحديدا) مع الأخذ بعين الإعتبار تشعّب العلاقات وتضارب الرّؤى.
لا يمكن أن نمرّ مرور الكرام على مشاهد البؤس التي تتراكم بنسق تصاعديّ ومعاناة تتبلور أكثر من خلال ملامح الممثلين التي تراوح المخرجة بينها وبين الفضاء الحاضن لها. سينما نادين “الواقعيّة”، كما تُصنّف، هي أدب دوستويفسكي. فمؤلّف “الإخوة كارامازوف” يسلّط الضوء على عدّة قضايا من خلال تطوّر وتغيّر الظروف المحيطة بالمجموعة (العائلة تحديدا) مع الأخذ بعين الإعتبار تشعّب العلاقات وتضارب الرّؤى.
أما مع فيلم “كفرناحوم”، نحن في الجهة المعاكسة، تنتفي المجموعة وتضمحلّ أمام الشخص. إنّها سينما الفردانيّة بامتياز. شخصيات/ذوات مشتّتة وإن تقاطعت طرقاتها (زين والأم الأثيوبيّة) إلا أنّها منعزلة تجرفها سياقات مختلفة تماماً .وإذا ما دفعنا بالتحليل في تبيان طبيعة سينما لبكي من خلال هذا الفيلم، فإننا لن نجد أفضل من الكاتب الفرنسي لوي فرديناند سيلين في كتابة “رحلة في أقاصي الليل” فهو الكاتب الوحيد الذي تجاوز مرحلة الكتابة عن الواقع إلى كتابة الواقع مباشرة. هنا تحاول نادين أن لا تحاكي الواقع بل تصوّره في وضعه الطبيعي. فبطل الفيلم، رغم أنّه مجرّد طفل، إلاّ أنّه متحكّم في نسق الفيلم وهو كائن ممزّق تسلّط المخرجة الضوء على وضعيّته لتكون انعكاسا للفضاء المحيط بصفة عامّة. الصغير زين، بهذا المعنى، هو بطل/ شخصيّة سيلينيّة بامتياز لا تبوح بكلّ أسرارها.

فالتدرّج في عرض الحكاية هي الاستراتيجيّة التي تتبّعها المخرجة لبناء الحبكة وإقحام المشاهد في البناء الدرامي للفيلم. فتنطلق الأحداث بطريقة عكسيّة من النهاية (قاعة الجلسة) ثمّ نشاهد مواقف سابقة تشرح ما يجري وكانت بمثابة الحدث القادح. أي أنّ الفيلم ينبني على التلاعب بعنصر الزمن ليكشف تدريجيا عن غموض يحوم حول شخصيّة زين (البطل) وعائلته.

فالتدرّج في عرض الحكاية هي الاستراتيجيّة التي تتبّعها المخرجة لبناء الحبكة وإقحام المشاهد في البناء الدرامي للفيلم. فتنطلق الأحداث بطريقة عكسيّة من النهاية (قاعة الجلسة) ثمّ نشاهد مواقف سابقة تشرح ما يجري وكانت بمثابة الحدث القادح. أي أنّ الفيلم ينبني على التلاعب بعنصر الزمن ليكشف تدريجيا عن غموض يحوم حول شخصيّة زين (البطل) وعائلته.
وهي مشاهد تمهيديّة يمكن أن نعتبرها مجرّد جسر للعبور إلى ضفّة الهامش التي ترغب لبكي في أن تصدمنا بتفاصيله دون أيّ مساحيق. في المشاهد التي تأخذ الفضاء في كليّته كموضوع، نلاحظ عناصر هذا الهامش كديكور تماماً كما يشرح الكاتب الفرنسي يان مواكس في روايته “ولادة”، ففي كوريا الشماليّة يختلط الهامش بالمركز من خلال التكثيف من الديكور واللافتات الزائفة. كأنّ لبكي تأخذنا إلى ما وراء الصور الرسميّة لترينا الخلفيّة أين يفقد الانسان كلّ معنى لإنسانيّته ويتحوّل إلى مجرّد رقم في سياسات وحسابات من يسيّر ويشرف. وربّما كانت مشاهد العنف حاضرة بقوّة خاصّة تلك التي تكون موجّهة ضدّ الأطفال لنفهم أنّ الواقع لا تغيّره الشعارات.

القصّة بسيطة والسيناريو يتميّز بنسق بطيء. لا يوجد الكثير من الحركة في هذا الفيلم. حتى إنّ المشاهد لا يعرف متى يتغيّر الإيقاع وما الذي يمكن أن يكون حدثا يحوّل النسق. وهو ما يحسب للبكي التي تشد المتلقي وتقحمه في الأحداث لتجعله جزءا من الفيلم ولو كان ذلك بفعل الانتظار.

القصّة بسيطة والسيناريو يتميّز بنسق بطيء. لا يوجد الكثير من الحركة في هذا الفيلم. حتى إنّ المشاهد لا يعرف متى يتغيّر الإيقاع وما الذي يمكن أن يكون حدثا يحوّل النسق. وهو ما يحسب للبكي التي تشد المتلقي وتقحمه في الأحداث لتجعله جزءا من الفيلم ولو كان ذلك بفعل الانتظار.
هكذا تدفع لبكي بالمشاعر إلى أقصاها وتطرح القضايا دون أيّ نيّة للتعرّض إلى حلول لا تلقي بالاً للانفراج، وهو ما يمكن أن يؤوّل على أنّ الخلاص يكون فرديا بالأساسا في مثل هذه المواقف .
كفرناحوم، فيلم يغوص في الهامش بكلّ تفاصيله ويستدرجنا لمجال المشاعر التي تثيرها واقعيّة الفيلم وقسوة المشاهد.
لكنّ هذه الواقعيّة تراكم مجموعة من الأزمات التي يمرّ بها الفرد في بيئة فقيرة دون أن يتعرّض الفيلم إلى حلول. ليبقى صدى جملة البطل زين “أشتكي أهلي لأنهم أنجبوني” تتردّد في الأذهان وقد تلخّص توجّه الفيلم الذي يسلّط الضوء على بيئة معدمة وتحاول الإقناع بمثالب الولادة في الهامش أين يولد الفرد متجرّدا من أي إنسانيّة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق