كتب : فاروق يوسف - كاتب عراقي
الفنان الفلسطيني نبيل عناني فنان تشكيلي مثابر ومعطاء، يكرّس حياته لفن النحت والرسم، ويصر على أن الفن بصورة عامة يجب أن يستقي قوته من بيئته، وألاّ يكون معزولاً عن قضايا مجتمعه وشعبه وأمته.

موهبة الفنان الفلسطيني تمتد إلى النحت الذي يمارسه إلى جانب الرسم، ولقد أتيحت له الفرصة لإقامة عدد من الأنصاب والجداريات النحتية في الخليل والبيرة ورام الله.

فلسطين نبيل عناني ستبقى نضرة
أن تكون فلسطينيا. ذلك وحده اختبار وجودي ثقيل الوطأة. لقد كُتب على الفلسطيني أن يكون حارسا لا ينام لهويته. مقيما في جمالها. حيث يقع جزء من مفردات ذاكرته. معجمه الذي هو أشبه بكتاب مقدس. كانت جبهات الفلسطيني تقع حيث تطأ قدماه الأرض. لذلك فإن كل ما يفعله يمكن اعتباره نوعا من القتال. بالنسبة للرسامين كان ذلك الكدح اختبارا مزدوجا. فما بين القضية الإنسانية ذات الطابع السياسي وبين الفن باعتباره قضية غالبا ما تحدث فجوات يصعب على الموجوعين ردمها.
معنى أن تكون رساما فلسطينيا

ذلك ما نجح فيه نبيل عناني حين لجأ إلى رسم حقول الزيتون بأسلوبه الشخصي بعد أن اصطدم بجدار اللغة الفنية الميتة التي تعبر عن القضية بطريقة جاهزة يغلب عليها طابع المباشرة.
يومها عثر على فلسطينه التي لن تخذله جماليا.
تلك هي لقيته التي استخرجها من أحلامه ليعود بها بعد طواف بين ممالك وعصور، قُدر له أن يلتقط منها أدوات فكرية وفنية تعينه على فهم فلسطينه بطريقته الخاصة.
وإذ ينتمي عناني إلى جيل الحداثة الفنية الثاني في الفن الفلسطيني المعاصر فإن ذلك أهله لكي يلقي نظرة نقدية منصفة ومعتدلة على إنجازات الجيل الأول الذي تزعمه إسماعيل شموط.
ساعدته تلك النظرة على أن يفك ارتباطه بما هو سياسي على مستوى الممارسة الفنية. فحين حرر رسومه من الأحداث المباشرة فإنه تحرر من زمن، يمكن أن يطوي كل شيء تضمنه حين يختفي. يومها صار الزمن المطلق هو ملعبه. وهنا تلعب فكرة الزمن دورا رئيسا في الهوية الفلسطينية التي تقاوم عمليات دفعها إلى الماضي.
رسوم عناني تقترح حاضرا سرمديا وهو زمن لجمال لا يُفنى. حقول الزيتون التي رسمها هي درس في الرسم الخالص. قبلها كانت رسومه أشبه بالحفريات في الذاكرة؛ ذاكرة المكان وذاكرة الإنسان معا. ذلك ما جعله يقف في مقدمة الرسامين الذين رسموا الموروث الشعبي بكل مفرداته بأسلوب يهب الوثيقة طابعا جماليا.



يوميات مهددة بالزوال
غير أن عناني الفنان كان في حقيقته في مكان آخر؛ هناك حيث كان ينهمك في نسج هويته الفنية التي تتماهى مع هويته الوطنية من غير أن تُمحى تحت طائلة خطاب سياسي، لا أحد في إمكانه أن يضمن بقاءه. من خلال رسومه وهب عناني معنى جديدا لمفهوم أن يكون المرء رساما فلسطينيا.
ولد نبيل عناني عام 1943 في بلدة حلول بالخليل. تخرج في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1969. حصل عام 1998 على درجة الماجستير من قسم الآثار الإسلامية بجامعة القدس. قبلها بسنة نال جائزة الدولة للفن التشكيلي الفلسطيني. منذ عام 1988 وهو عضو في جماعة التجريب والإبداع بالقدس.
أقام أول معرض شخصي له عام 1972 في قاعة جمعية الشبان المسيحيين بالقدس. بعده أقام أكثر من عشرة معارض توزعت بين مدن فلسطين. كم عُرف الفنان باهتمامه بالحرف اليدوية حيث عمل عام 1985 ضمن فريق لتطوير تلك الحرف بجامعة بيرزيت.

رسوم عناني المتأخرة تسعى إلى أن تختزل علاقته بالواقع من خلال إشارات يغلب عليها طابع الترف الجمالي
امتدت موهبة عناني إلى النحت الذي صار يمارسه إلى جانب الرسم. ولقد أتيحت له الفرصة لإقامة عدد من الأنصاب والجداريات النحتية في الخليل والبيرة ورام الله.
يعمل الفنان مدرسا في قسم الفنون بجامعة القدس.
يقول عناني “لقد تأثرت في بداية حياتي الفنية بالفن المصري الحديث، إلا أنه بعد تخرجي بدأت أشعر بغربة الأسلوب، وأني في حاجة ماسة إلى التعمق واستيعاب البيئة الفلسطينية والإنسان الفلسطيني. وبالفعل استطعت أن أشق طريقي عن طريق الانخراط في البيئة والقرية الفلسطينية وبلورة أسلوب مميز من خلال توظيف بعض الرموز الفلسطينية التي تظهر في التطريز”.
ذلك وصف بليغ لأسلوبه الفني يوم كان يشعر بضرورة أن يعيش فنه حالة تماس مباشر مع الحياة اليومية الفلسطينية المهددة بالاقتلاع. أسلوب يعبر عن الشعور بالواجب الذي يفرضه ظرف تاريخي عصيب. كانت فكرة أن يكون الفنان ابن مجتمعه وحارس قضيته هي الغالبة. لذلك تميزت رسوم عناني في بداياته بالمباشرة والتبسيط.
وهو ما كان غالبا على رسوم معظم أبناء جيله وبالأخص ممن كانوا يقيمون داخل الأرض المحتلة. كان الفن محاولة للبقاء والصمود والمقاومة. في طفولته صنع دروبا لمدينة متخيلة كان يقود فيها عربته التي هي من أسلاك وهي منحوتته الأولى. حين كبر أدرك أن تلك المتاهة كانت نبوءته. صار عليه وهو الفنان أن يخترع دروبا خيالية تصل به إلى وطنه الذي لا يزال يقيم على أرضه المحتلة. كانت تلك الميزة تعزز قوته في الدفاع عن وجوده وتعذبه في الوقت نفسه كونها البوصلة التي تقوده إلى الخارج؛ خارج ذاته المعذبة بجمال لن يقوى على انتظاره حتى ينهي واجبه. فهو يرسم بوحي طفولته التي غادرها من غير أن تغادره وهو يرسم أيضا كما لو أن كل شيء من حوله صار قابلا للزوال.
هنا يكمن سر الأيقونية التي صارت صفة للرسم الفلسطيني. وهي الصفة التي لم تفارق رسوم عناني، حتى بعد أن غادر المباشرة إلى غير رجعة. وكما أرى فإن الحنين إلى شيء ما مفقود هو الذي يدفعه، باعتباره رساما فلسطينيا، إلى النظر إلى كائناته وأشيائه بطريقة أيقونية.
ذلك الشيء المفقود
لم يكن عناني سعيدا بأيقونية رسومه. غير أنها كانت الوسيلة الوحيدة الممكنة التي وجدها مناسبة لصيحته الجريحة التي حين اختلى بها في ما بعد وجدها قريبة من صيحة النرويجي ادفارد مونخ فاختار أن يكون تعبيريا.
أما حين استفاق من حلمه الطويل فعاد إلى الطبيعة فقد اكتشف موهبة أن يكون ابن الأرض التي تسمى فلسطين من غير أن يقلق رسومه بالصراخ. ففي رسومه التي خصصها لـ”حقول الزيتون” كان قريبا من البريطاني ديفيد هوكني حين عاد إلى الطبيعة.
“الإنسان والأرض” كان عنوان المعرض الذي أقامه في منزله. في ذلك المعرض لم يعد الفنان شقيا برمزية مفرداته. كان نضاله الحقيقي يتحقق من خلال كدح جمالي، طرفا معادلته الإنسان والأرض. وهما محورا نظريته الجمالية التي صار ينظر إليها باعتبارها قضيته.
لا نهاية للوصف في رسوم عناني بالرغم من أن الفنان سعى في رسومه المتأخرة إلى أن يختزل علاقته بالواقع من خلال إشارات يغلب عليها طابع الترف الجمالي، غير أن الطابع الحكائي هو ما لا يمكنه الفرار منه. ذلك لأن الحكاية الفلسطينية ممكنة مع ظهور أصغر المفردات التي يمكن أن تختزل قارة من كلام.
فإذا كان عناني قد تخلى عن الشعارات القديمة التي كانت تأسر الفن في القضية السياسية المباشرة، فإنه إنسانيا لا يزال يقف أمام اللحظة التي تشكل فيها فلسطين محور الجمال الذي يحاول الآخرون العبث بذاكرته.
عناني لا يحلم رسومه ليتذكر بل أن رسومه هي التي تفاجئه بذاكرته التي صارت مفرداتها تتسلل إلى رسومه بخفة ودعة كما لو أنها تسعى إلى إعادته إلى ذلك الشيء المفقود.
“لقد وجدته” لن يقولها عناني. ذلك الشيء المفقود هو أشبه بالضوء الذي يستدعيه في الأفق. غير أن رسومه تصنع أملا غامضا يذكر بصيحة مونخ التي نقلت الواقع إلى الخيال.
في المشاهد الطبيعية التي يرسمها عناني تحضر فلسطين بنضارة، تعجز الشعارات عن الوصول إلى ربيعها.
امتدت موهبة عناني إلى النحت الذي صار يمارسه إلى جانب الرسم. ولقد أتيحت له الفرصة لإقامة عدد من الأنصاب والجداريات النحتية في الخليل والبيرة ورام الله.
يعمل الفنان مدرسا في قسم الفنون بجامعة القدس.
يقول عناني “لقد تأثرت في بداية حياتي الفنية بالفن المصري الحديث، إلا أنه بعد تخرجي بدأت أشعر بغربة الأسلوب، وأني في حاجة ماسة إلى التعمق واستيعاب البيئة الفلسطينية والإنسان الفلسطيني. وبالفعل استطعت أن أشق طريقي عن طريق الانخراط في البيئة والقرية الفلسطينية وبلورة أسلوب مميز من خلال توظيف بعض الرموز الفلسطينية التي تظهر في التطريز”.
ذلك وصف بليغ لأسلوبه الفني يوم كان يشعر بضرورة أن يعيش فنه حالة تماس مباشر مع الحياة اليومية الفلسطينية المهددة بالاقتلاع. أسلوب يعبر عن الشعور بالواجب الذي يفرضه ظرف تاريخي عصيب. كانت فكرة أن يكون الفنان ابن مجتمعه وحارس قضيته هي الغالبة. لذلك تميزت رسوم عناني في بداياته بالمباشرة والتبسيط.
وهو ما كان غالبا على رسوم معظم أبناء جيله وبالأخص ممن كانوا يقيمون داخل الأرض المحتلة. كان الفن محاولة للبقاء والصمود والمقاومة. في طفولته صنع دروبا لمدينة متخيلة كان يقود فيها عربته التي هي من أسلاك وهي منحوتته الأولى. حين كبر أدرك أن تلك المتاهة كانت نبوءته. صار عليه وهو الفنان أن يخترع دروبا خيالية تصل به إلى وطنه الذي لا يزال يقيم على أرضه المحتلة. كانت تلك الميزة تعزز قوته في الدفاع عن وجوده وتعذبه في الوقت نفسه كونها البوصلة التي تقوده إلى الخارج؛ خارج ذاته المعذبة بجمال لن يقوى على انتظاره حتى ينهي واجبه. فهو يرسم بوحي طفولته التي غادرها من غير أن تغادره وهو يرسم أيضا كما لو أن كل شيء من حوله صار قابلا للزوال.
هنا يكمن سر الأيقونية التي صارت صفة للرسم الفلسطيني. وهي الصفة التي لم تفارق رسوم عناني، حتى بعد أن غادر المباشرة إلى غير رجعة. وكما أرى فإن الحنين إلى شيء ما مفقود هو الذي يدفعه، باعتباره رساما فلسطينيا، إلى النظر إلى كائناته وأشيائه بطريقة أيقونية.
ذلك الشيء المفقود
لم يكن عناني سعيدا بأيقونية رسومه. غير أنها كانت الوسيلة الوحيدة الممكنة التي وجدها مناسبة لصيحته الجريحة التي حين اختلى بها في ما بعد وجدها قريبة من صيحة النرويجي ادفارد مونخ فاختار أن يكون تعبيريا.
أما حين استفاق من حلمه الطويل فعاد إلى الطبيعة فقد اكتشف موهبة أن يكون ابن الأرض التي تسمى فلسطين من غير أن يقلق رسومه بالصراخ. ففي رسومه التي خصصها لـ”حقول الزيتون” كان قريبا من البريطاني ديفيد هوكني حين عاد إلى الطبيعة.
“الإنسان والأرض” كان عنوان المعرض الذي أقامه في منزله. في ذلك المعرض لم يعد الفنان شقيا برمزية مفرداته. كان نضاله الحقيقي يتحقق من خلال كدح جمالي، طرفا معادلته الإنسان والأرض. وهما محورا نظريته الجمالية التي صار ينظر إليها باعتبارها قضيته.
لا نهاية للوصف في رسوم عناني بالرغم من أن الفنان سعى في رسومه المتأخرة إلى أن يختزل علاقته بالواقع من خلال إشارات يغلب عليها طابع الترف الجمالي، غير أن الطابع الحكائي هو ما لا يمكنه الفرار منه. ذلك لأن الحكاية الفلسطينية ممكنة مع ظهور أصغر المفردات التي يمكن أن تختزل قارة من كلام.
فإذا كان عناني قد تخلى عن الشعارات القديمة التي كانت تأسر الفن في القضية السياسية المباشرة، فإنه إنسانيا لا يزال يقف أمام اللحظة التي تشكل فيها فلسطين محور الجمال الذي يحاول الآخرون العبث بذاكرته.
عناني لا يحلم رسومه ليتذكر بل أن رسومه هي التي تفاجئه بذاكرته التي صارت مفرداتها تتسلل إلى رسومه بخفة ودعة كما لو أنها تسعى إلى إعادته إلى ذلك الشيء المفقود.
“لقد وجدته” لن يقولها عناني. ذلك الشيء المفقود هو أشبه بالضوء الذي يستدعيه في الأفق. غير أن رسومه تصنع أملا غامضا يذكر بصيحة مونخ التي نقلت الواقع إلى الخيال.
في المشاهد الطبيعية التي يرسمها عناني تحضر فلسطين بنضارة، تعجز الشعارات عن الوصول إلى ربيعها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق