المرأة قماشة إبداعية
المرأة قماشة إبداعية، حصاد دائم للتشكيليين والمبدعين عمومًا عبر العصور، وفي هذا البراح الذي لا سقف له، يخوض الفنان المصري محمد الطراوي رهانه الخاص على “حواء”، في معرضه المنعقد في قاعة “الباب/ سليم” بمتحف الفن المصري الحديث في دار الأوبرا بالقاهرة، والمستمر حتى 27 من نوفمبر الجاري.
آثر الفنان الطراوي، الحاصل على الدكتوراه الفخرية من الأكاديمية الفنية بطشقند وصاحب المعارض الفردية والمشاركات بمصر ودول عديدة، ألا تحتمل الأمور تخفية أو مواربة، فجاء عنوان معرضه الأخير “هنّ”، ليعلن بوضوح للمتجول بصريًّا بين 32 عملًا تصويريًّا شكّلها الفنان بالألوان المائية وبخامات الأكليريك، أن الكرة في ملعب الأنثى وحدها، وكل الخطوط في هذا المعرض ترسم خارطة الـ”هي”، تلك التي يمثّل تمردها وانطلاقها خارج الأطر فكاكًا للفنان ذاته من قيوده، وتحررًا للوحاته من براويزها.
علامات وإشارات
على الرغم مما تطرحه اللوحات من تجريد، وقدرة على توسعة دلالات ورموز وإحالات الـ”هي” في معرض الطراوي، فإن الفنان الذي يعترف بهذه العلامات والإشارات المجردة لمعرضه، يعود في تقديمه ذاته ليفسّر ما أطلقه على علاته، قائلًا: “المرأة عوالم في ذاتي تدركها مشاعري، هي، ذات المقام الرفيع لديّ، فهي الأم ورفيقة الدرب والابنة والحفيدة والزميلة، فضلًا عن نماذج كثيرة قد لا نعرفها بشكل شخصي، لكنها تؤثر فينا من خلال الذاكرة البصرية التي سجلتها لحظات خاصة في حياتنا”.
وينحو رئيس قطاع الفنون التشكيلية، الدكتور خالد سرور، الذي افتتح معرض الطراوي المقام برعاية حلمي النمنم وزير الثقافة المصري، في توصيفه تجربة “هن” إلى قدر من الإسقاط والتأويل، ويرى أن عالم الفنان “متفرد في تفاصيله شديدة الأصالة والانتماء إلى موروثه البيئي والثقافي الشعبي، بمفاهيم ورؤية مُغايرة تعنى بالمضمون والمغزى الروحي والوجداني والجوهر، عند تعاطيه المتميز مع المرأة وقضاياها، إذ يتناولها من جوانب شديدة الخصوصية، حيث معاني الحب والدفء والأرض والحلم”.
من هذا المنطلق، فإن “هنّ” قد يمثلن النساء الساعيات إلى قوتهن وقوت أحبائهن، كما قد يجسدن من جهة أخرى ذلك الخيط الدقيق بين الواقع والخيال، في عالم الفنان المفعم بالطاقة والأمل والإبداع، عبر مسطحات تبرز حساسيته في توظيف الشكل واللون والظل والرمز، للخروج ببناء تشكيلي فريد متناغم.
على أن مُطالع معرض الطراوي، يجد أن المرأة ليست الوجه الوحيد لـ”هي”، التي تعني الأنوثة بمفهومها الأرحب، فكل ما لا يؤنث لا يعوّل عليه، باستحضار روح ابن عربي، ومن هنا تتسلل الأنوثة إلى تشكيلات الطراوي من نبض الطبيعة الأم، ورحم الوجود، وما يعتمل في بطن الأرض من انفجارات، وفي قلب السماء من مشاعر.

"بنات بحري" بمعالجات لونية جديدة
وفي تصويره للمرأة، فإن الفنان لا يهدف إلى تجسيد بورتريهات أو نقل واقع ما بكاميرا أمينة، بقدر ما يستكشف مفاتيح عوالم “حواء” الداخلية، من خلال ذلك الحوار الحي النابض بين الأضواء والظلال والرموز، وفيه تتخذ ملامح المرأة عادة أبعادًا سحرية أو أسطورية، فهي تارة شبح، وتارة عروس النيل، وأحيانًا مجرد خيالات تهبط من السماء أو تسبح في فضاء، فالفنان معني بتحميل جغرافيا المرأة تاريخها كله، خصوصًا ذلك الأثر المرويّ في التراث المصري، والمتعلق بنساء عاديات وشعبيات.
ويبدو التحرر من القيود، على مستوى المضمون وآليات التعبير عنه، هو العنوان الأكثر وضوحًا ودلالة في معرض الطراوي، لذلك وجد الفنان ضالته في قماشة “هي”، بوصف الأنوثة بمعناها الأشمل معادلًا للانطلاق والتمرد والتفجر والتوالد والتشكل على غير منوال، وكان منطقيًّا أن تأتي تشكيلات الفنان انفلاتًا موازيًا من الأطر الجاهزة، في التعاطي مع ثيمة الأنوثة كمنبع معرفي للإلهام.
يتناص الفنان محمد الطراوي في معرضه مع كنوز التراث والحكايا والأساطير الشعبية المتعلقة بالمرأة، ويتقاطع مع خيالات الفنانين الذين اتخذوا من المرأة مادة إبداعية في الرسم وفنون أخرى، وبصفة خاصة التشكيلي المصري الرائد محمود سعيد (1897-1964)، صاحب اللوحة الأشهر في هذا الإطار “بنات بحري”.
بنات بحري
لا يفوت الطراوي أن يضع لافتة إلى جوار لوحته، التي يتماسّ فيها مع “بنات بحري”، مشيرًا فيها إلى أن هذا العمل “حوار واستلهام للوحة بنات بحري، للرائد الفنان محمود سعيد، أيقونة التصوير المصري الحديث”.
وتأتي لوحة الطراوي مزيجًا من الواقع والخيال، شأن بقية أعمال المعرض، فبنات بحري اللاتي يصورهن، ساحليات يقفن بجوار البحر بملابس شعبية، لكن روح الأسطورة والسحر تنقل ما هو حقيقي في مساحة الرؤية إلى ما هو افتراضي في مخيلة الرائي، وتتفجر وجوه أنثوية أخرى في المكان غير منتسبة إلى أجساد، بالتوازي مع انعدام الفواصل وذوبان الحدود بين البحر واليابسة والبيوت والقوارب والسماء، والنساء أنفسهن، اللاتي جاءت ألوان شعورهن وملابسهن غير مألوفة بالنسبة للشعر وللأزياء، لتخدم هذه الوحدة التصويرية التي ابتدعها الفنان.

مفاتيح لعوالم "حواء" الداخلية
يبعد اكتساء لوحات الطراوي بمسحة من الغموض، المرأة في أعماله عن تمثلاتها الجسدية الصريحة، بما يزيد من حضورها الروحاني وتفجراتها الانفعالية. وفي هذا الإطار، يذهب الناقد عزالدين نجيب، في قراءته بالدليل الخاص بمعرض الطراوي، إلى أن أعمال الفنان تتميز بتفجير الكتلة، وتحويلها إلى شظايا لونية وضوئية، فتبدو المرأة بعيدة عن الغواية الجنسية، في هيئة كيان غامض بغير تفاصيل، تشع ببريق الألوان الناصعة، على خلفية من ترددات متداخلة لصورة المرأة.

لم يكتف الطراوي بإعادة صياغة تعبيرية لـ”بنات بحري”، لكنه باختزال شديد أعاد روح “لوحة المدينة” من جديد، وترجمها بلغته الخاصة إلى سطوح وعناصر تجريدية خالصة، وجعل البطولة فيها لفانتازيا الأنوثة، مع بقايا رموز من خلفية المدينة.
وتبقى الإضافة أيضًا، وفق عزالدين نجيب “في تجسيد بحور الأزرق الصافي المشع بالنور والصفاء والحيوية، والمسكون بروح بحري، روح بحر الإسكندرية والنيل في الوقت نفسه، حيث عناق القلعة الرمز مع بنات حي الأنفوشي الشعبي”.
محمد الطراوي، فنان مراوغ بين “الهاء” و”النون” وفي معرضه “هنّ” تتخذ الأنوثة أبعادًا مغايرة، وتتحول النساء إلى أطياف، وتتشكل الحياة برمتها بين الأرواح المضيئة والأشباح المخيفة، وتتأرجح القلوب بين الأمل والألم، فيما تصرخ الألوان متمردة كأنما تترجم لغة البحر.

الكاتب : شريف الشافعي
كاتب من مصر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق