عادة ما ارتبط تاريخ ظهور الأديان برسالة سماوية يحملها أحد الأنبياء إلى البشر لإعلان التوحيد والعبودية، وتقويم أوضاع المعاملات والتعايش بين البشر، حيث راعت في كل الأحوال هموم ومشكلات وواقع المجتمعات التي نزلت بها، وأجابت على أسئلتها الوجودية الكبرى. ولعل هذا هو ما جعل أحد الباحثين يذهب إلى القول بأن القرآن الكريم حمل إجابات لأزمات البشر وواقعهم، بالنظر لتجاوبه مع واقع المجتمع الجاهلي في مرحلة ما قبل الإسلام، فحينما انتشرت الخمور والميسر ووأد البنات وعبادة الأوثان والرق والعبودية، جاء القرآن ليحرم ذلك كله.
مؤثرات شعبية
غير أن ثمة نمطا آخر من التدين يمكننا أن نعتبر البشر هم المسؤل الأول عن إبداعه وإنتاج نسقه المتكامل، وهو ما يعرف أكاديميا بـ (التدين الشعبي) حتى لو كانت المقولات الرئيسية لهذا أو ذاك من أنماط التدين الشعبي تقيم فكرتها على محاكاة الأديان السماوية، أو تحاول أن تتخذ من الرسالات السماوية مصدر ومبرر وجودها، فإذا كانت الديانات الرسمية تعتمد على الكتاب المُرسل، فإن الأديان الشعبية تراعي مجموعة من الخصائص التوفيقية والاسترضائية التي تبتعد فيها كثيرا أو قليلا عن النص المكتوب، بغرض تحقيق الإشباع الروحي أو الخروج عن الإطار المركزي للدين الرسمي، وقد تتفاعل بعض الثقافات الأصلية للشعوب مع الأديان المنزلة لتنتج مفاهيم دينية بمؤثرات شعبية.، فرسم الصليب في الديانة المسيحية ارتبط من حيث الشكل على الأقل بذلك الرسم الفرعوني القديم المعروف بـ(عين الحياة)، ولعل هذا التأثير المتبادل هو ما جعل باحثا مثل يوسف زيدان يكتب عن مفهوم (اللاهوت العربي) في محاولة لكشف تأثير الثقافة العربية على الديانات السماوية الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام).
الهروب إلى الدين الشعبى
في كتاب بعنوان (الدين الشعبي في مصر.. من التصوف إلى السحر) يقدم الدكتور شحاتة صيام أستاذ علم الاجتماع التصوف الإسلامي باعتباره يمثل ذلك النمط من التدين الشعبي الذي استطاع البقاء والامتداد في التاريخ الإسلامي بموازاة الدين الرسمي الذي لا يعبر فقط عن الرسالات الأصيلة، وإنما تتبناه المؤسسات الدينية الرسمية للدولة في مقابل التدين الشعبي الذي يعبر عن نمط من التدين يناسب الفئات الكادحة والمهمشة
وإذا كان التدين الشعبي يبدو في أحد وجوهه رد فعل ثقافيا واجتماعيا طبيعيا للشعوب ذات الثقافات والحضارات القديمة، فإن صيام يعتبر أن «الدين الشعبي» كما يسميه، يحمل دلالة مختلفة عن مفهوم «التدين الشعبي» إذ بينما تشير الثانية إلى حجم تأثير الثقافة الشعبية في ديانة ما، فإن الأول يشير إلى نوع من الدين البديل بما يمثل إنقلابا على الديانة الأساسية والاستعاضة عنها بمفاهيم منبثقة من التجارب الذاتية لجماعة ما، لذلك يعرف شحاته صيام الدين الشعبي باعتباره «أداة من أدوات العوام وغيرهم لحل مشكلاتهم بطريقة ذاتية،… إنه نوع من الهروب إلى الدين باعتباره ملاذا نتيجة لعدم تحقيق إشباع الاحتياجات الاجتماعية».
التصوف.. التدين البروليتارى
يمثل التصوف الإسلامي من وجهة نظر صيام النموذج الأبرز للتعبير عن هذا الدين الشعبي الذي قرر الإفلات من قبضة الدين الرسمي الذي تعبر عنه الدولة أو المجتمع السياسي بمؤسساته الدينية، ونوعا من الانسحاب من عذابات وحرمان المجتمع القائم. و على هذا الأساس يفسر صيام الصراع والمحن التي وقع فيه بعض مشاهير المتصوفة ممن اتهموا بالزندقة والإلحاد، ابتداء من القرن الثالث الهجري بعدما بات التصوف يمثل خطرا وتهديدا على الأنظمة القائمة، فالتصوف يمثل التدين البروليتاري بالتعبير الماركسي الشهير في مقابل تدين السلطة، هو نوع من التمرد بالاستغناء والعزوف والرفض السلبي بدلا من التحدي والمواجهة.
يبدأ الدكتور شحاتة صيام بتقديم تعريفي لمفهوم (التصوف) ويرجح فكرة عودة التسمية إلى الكلمة اليونانية (صوفيا) التي تعني الحكمة، ثم يسرد عددا من التعريفات، التي تربطها إما بالصلاة في الصف الأول، أو نسبة إلى جماعة جاهلية كانت تقيم حول البيت الحرام وكان عميدها قد «علّمته» أمه – أى وضعت له علامة- بصوفة في رأسه، أو أن المتصوف هو المنصرف عن الخلق إلى الحق، وهي تعريفات مختلفة حاول الباحثون من خلالها تقصي أصل التسمية، أما التعريفات التي ساقها المتصوفة ليعبروا بها عن أنفسهم كتعريف الحارث للصوفي بأنه (من صفا قلبه لله)، أو نسبتها إلى ملابس المتصوفة من الصوف فيضعها الدكتور شحاته صيام في نهاية سطوره حول أصل التسمية، كما لم ينس أن يفند في الهوامش كل ما يفيد معاني إيجابية للتعريفات كالزهد والتقشف.
وفي كتابه المهم يحاول صيام تقديم معالم هذا الدين الشعبي الصوفي المغاير لما هو متعارف عليه من شعائر إسلامية، من خلال تناول عدد من المفاهيم المتعلقة ببعض الطرق الصوفية كالحديث عن العهد أو القابضة، وهو شكل من أشكال الالتزام يلتزم بموجبه المريد أمام الشيخ بأن يقرأ مجموعة من الأوراد والأذكار بشكل يومي، وكذلك شيخ السجادة أو شيخ الطريقة، والمريد، والمرشد، والمسبحة والأضرحة وغيرها من المفاهيم والمراسم التي يداوم عليها أبناء الطرق الصوفية، وقد اعتمد في الوصول إلى تعريف لهذه المفاهيم من خلال استبيان قام به على عدد من المريدين الذين ينتمون إلى طرق صوفية مختلفة، وينتمون إلى شرائح مجتمعية مختلفة.
غير أن الاستقراء الذي قام به الدكتور شحاته صيام -كما هو واضح- مدفوع بالموقف السلبي الذي يأخذه منذ تقديمه لتعريفات غريبة لمفهوم التصوف الإسلامي، ثم تركيزه على بعض المظاهر والممارسات التي تنتمى إلى فئات اجتماعية محدودة المعرفة، ولا تعبر بالضرورة عن مفهوم التصوف الذي قد يمثله كبار الأشاعرة منذ أبى حامد الغزالي وحتى بعض رموز علماء الأزهر المعاصرين، وهو ما سيتضح في ذلك الربط المفتعل ما بين مفاهيم ك«الكرامة» وما بين الإدعاء بممارسة المتصوفة للسحر والشعوذة إلى حد اتخاذه عبارة (من التصوف إلى السحر عنوان فرعي لكتابه، غير أن الكاتب نجح في نهاية الأمر في تقديم والتعريف بلون من ألوان التدين الشعبي تفرضه ثقافة الجماهير المؤمنة، وتضيف إليه جزءا من اعتقاداتها الخرافية، وأساطيرها الموروثة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق