بعد 17 تشرين الأول، تعرضت المؤسسات الفنية في لبنان لضربة قاسية بسبب انهيار القطاع المصرفي. ينطبق هذا على الغاليريهات بشكل أساسي، لأنها مثل أي مؤسسة تجارية أخرى، تعتمد على الربح والخسارة، ولا يمكنها الإستمرار من دون بيئة إقتصادية مستقرة، بعكس المنظمات الفنية التي تتلقى الدعم من الخارج، ولا تتأثر بالسياقات الداخلية بشكل مباشر (لذلك، بدأت الأخيرة باستشعار الخطر مع تطور أزمة فيروس كورونا في أوروبا وأزمة النفط في الخليج التي يمكن أن تهدد بانخفاض نسب التمويل).
قيل إن وضع الفن الحديث والمعاصر مختلف، ولا تتدهور قيمته بقدر السلع الأخرى خلال الأزمات: "الانهيار المصرفي ربما يحفز الناس على شراء اللوحات والمنحوتات التي تبقى قيمتها فيها ويسهل نقلها إلى الخارج بعكس الودائع المصرفية المحجوزة"، وفق ما كتبت إحدى المجلات اللبنانية بعد فترة من الأزمة، لكن الواقع أثبت بسرعة عدم صحة هذه الإدعاءات، خصوصاً مع تراجع القدرة الشرائية للطبقات الوسطى، وعدم وجود ضمانات لعدم تراجع أسعار الفنانين المكرسين في حال ازداد عرض اعمالهم (بالإضافة لصعوبات البيع في الخارج بما أن سوق الفن اللبناني هو في لبنان بشكل اساسي).
"لا مفر من الخسائر اليوم ولا عودة للوراء" يقول صالح بركات، أحد اللاعبين الاساسيين في المجال الفني اللبناني، ثم يضيف: "الحياة ليست دائماً لصالح الغاليريهات، فبينما حققت في السابق أرباحاً كما حصل في العقد الأخير، اليوم تأتي مرحلة الخسائر والصمود. يظهر هنا الفارق بين المؤسسات التي دخلت المجال الفني من أجل الربح وهذه ستغادر بسرعة، وبين التي دخلت من أجل الشغف بالفن التي ستقاوم من أجل البقاء".
بدايات مثل النهايات
عندما افتتح صالح بركات "غاليري أجيال" العام 1990 في رأس بيروت، فرضت عليه شركة التأمين اختيار طابق تحت الأرض تجنباً للتدمير في حال حصول قصف، كما أجبرته على وضع ابواب حديدية من الخارج خوفا من السطو. لم تكن هناك ضمانات اكيدة لانتهاء الحرب، لكن مع ذلك قرر بركات المضيّ قدماً في مشروعه الذي استثمر في عودة موقع بيروت الثقافي الذي خسرته بسبب الحرب.
ركز بركات على الخروج من العقلية المحلية، إن كان عبر رفع قيمة الإستثمار بالفن وتعزيز سياقات العرض، أو من ناحية التوجه إلى السوق الخارجي والفن العابر للحدود الذي كان يتحضر لمرحلته الذهبية. تظهر الفعاليات التي نظمها بركات في بداية الألفية الثالثة، العقلية التي كان يفكر فيها (أتى بركات من اختصاص ادارة الأعمال لكن من عائلة لها رصيدها في الاهتمام بالفن)، فأول معرض ضخم نظمه كان خلال القمة الفرانكوفونية الثامنة التي استضافتها بيروت العام 2001، أما المعرض الثاني فأتى على هامش قمة البنك الدولي التي نظمت في دبي العام 2003.
بعد العام 2005، بدأ بركات بقطف مجهود السنوات الطويلة من العمل، حيث دشن العام 2007 وإلى جانب ساندرا داغر، اول جناح للفن اللبناني ضمن "بينالي البندقية"، قبل أن يساهم في رد الإعتبار للفنانين اللبنانيين المنتمين لجيل الستينات، مثل سلوى شقير، شفيق عبود، عارف الريس، هاغيت كالاند، وآخرين تمكن من عرض أعمالهم ضمن متاحف معروفة في أوروبا والولايات المتحدة (بالإضافة للمعارض التي نظمها لهؤلاء إن كان في الغاليري الخاص به او في قاعات العرض الاخرى في بيروت).
ساهم بركات أيضاً في بناء مجموعات فنية عديدة في لبنان والخارج، من بينها "مجموعة سارادار"، ومجموعة متحف الجامعة الأميركية، بالإضافة للمجموعات التي بدأت تظهر مع النهضة الفنية في بلدان الخليج والعالم العربي (مثل مجموعة متحف قطر، أبو غزالة في الأردن، وكِندا في السعودية)، وقد لعب في هذه الفترة دوراً أساسياً في تشجيع جامعي الفن في لبنان والعالم على اقتناء الفن اللبناني والعربي.
في العام 2017، قرر الذهاب أبعد في استثماره ضمن المجال الفني عبر تأسيس غاليري "غاليري صالح بركات" الذي أخذ مكان مسرح المدينة العريق في بيروت (في المكان نفسه كان موقع سينما كليمنصو التي كانت متخصصة في الأفلام الفنية واستضافت اول عروض افلام تاركوفسكي وفيليني وبيرغمان خلال الستينات والسبعينات)، ويدل اختيار هذا الموقع على طموح بركات في لعب دور محوري ضمن الثقافة المعاصرة للعاصمة.
فقاسة البيض
يضع بركات العام 2005 كنقطة تحول بالنسبة للسوق الفني في لبنان: "بعد 2005 أضيف الفن على لائحة الأشياء التي يمكن الإستثمار فيها بالنسبة لأصحاب رؤوس الأموال، وبدأت فئات جديدة تدخل إلى السوق. أدى هذا إلى تغييرات بنيوية في لبنان، فمن العام 1990 حتى العام 2005 كان سعر أهم عمل لفنان لبناني خمسة أو ستة آلاف دولار، لكن عند زيادة اعداد المستثمرين ارتفعت الأسعار فجأة وبشكل دراماتيكي. استفاد الفنانون من هذا التحول واستطاع البعض التنفس والشعور بالراحة نسبياً، لكن من جهة أخرى تغيرت معادلات القيمة التي صارت تتحدد عبر عوامل اخرى لا علاقة لها بأهمية العمل من الناحية النقدية".
لكن، رغم هذا التطور، لم تستطع بيروت لعب الدور المنتظر منها، وقد اختارت المؤسسات العالمية الاستقرار في الخليج الذي بدأ الإستثمار في الفن بشكل كبير.
يصف بركات الوسط الفني في لبنان قبل الأزمة بـ"فقاسة البيض": "بعد فشلنا في لعب الدور الريادي في عالم الفن العربي، اعتمد نجاحنا على الموارد البشرية، أي الطلاب الذين يتخرجون من الجامعات اللبنانية، الباحثين وأصحاب الخبرات الذين يؤرخون للفن ويكتبون عنه، بالإضافة للطاقات التي تساهم منذ عقد في النهضة الفنية التي يشهدها الخليج. لكن هذا الدور لا يمكن أن يستمر للأبد، خاصة أن الخليج أصبح لديه فنانوه ومواهبه وكوادره المهمة جداً، وقريبا لن يكون محتاجاً للبنانيين".
أزمات كورونية
اما في ما يخص الأزمات التي نواجهها اليوم بسبب الإقفال التام، يبدو بركات غير متفائل كثيراً بالتغيرات في سياقات العرض وتأثيرات الإنترنت في البيع والشراء: "يعزز بقاء الناس في البيت من قدرة الغاليري على التواصل مع جمهوره، ويجعلهم يشاهدون الأعمال الفنية اكثر، وهذا جيد، لكن لدي شكوكاً في قدرة المعارض الإفتراضية على بيع الأعمال الفنية في هذه الظروف. فأولويات الناس مختلفة اليوم، خاصة مع افلاس المشاريع التجارية والخدماتية أكثر وأكثر، وتعرض الناس لخسائر كبيرة".
طبعاً، لا يعني هذا توقف الغاليريهات عن العمل كلياً: "اليوم الأولوية هي للمحافظة على المهنة والمقاومة من أجل البقاء عبر التقشف وخفض النفقات. فبدلاً من طباعة 100 كاتالوغ يمكنك طباعة خمسين، وبدلاً من القيام بعشرة مشاريع سنوياً يمكنك القيام بخمسة. هناك تنازلات يجب القيام بها من أجل الإستمرار، خاصة إن كنت تعمل في هذا المجال عن شغف وليس من أجل الربح المادي".
من ناحية اخرى، يرى بركات ان الركود الحالي يمكن ان يعيد الإعتبار للقيمة التي فقدت على مدار السنوات الـ15 الماضية: "حين يبدأ الفنان بالإعتماد على مصادر أخرى للدخل، سيتوقف عن محاولة التأقلم مع الذوق العام، وسيصبح ببساطة أكثر انفتاحاً امام التجريب وإيجاد لغة تناسب شخصيته، لا شخصية من يريد شراء عمله".
أما بخصوص البيع والشراء حالياً، فيؤكد بركات أن العمليات التجارية محصورة اليوم في نطاق ضيق مثل حالة جامعي الفن الذين ينقصهم عمل فني ويعرفون ان الظروف مواتية اليوم للحصول عليه بسعر أدنى: "مثلاً أحد الأشخاص أراد شراء عمل فني بسعر معين مني، وأنا كنت أرفض ذلك مراراً، لكن اليوم وافقتُ، رغم إيماني بأن العمل يستحق سعراً أعلى"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق