ما إنْ اندلعت التظاهرات، حتى جمعت آلاف الشبّان في ساحة التحرير وسط بغداد، وحملت هموماً وقضايا لا تُعد. خرج إليها اليائس والباحث عن عمل، خرج إليها الغاضب على العائلة والعشيرة، وخرج كذلك من يبحث عن مساحة في هذه البلاد الشاسعة، ليصرخ. لكن فكرتين جمعتهما: "الحق" و"الوطن"، وهم لذلك تمسكوا بشعاري "نازل آخذ حقّي"، و"نريد وطناً".
زعزعت التظاهرات الواسعة التي شهدها العراق في الأول من تشرين الأوّل / أكتوبر عام 2019، والتي استمرت حتى الآن - وإن بتفاوت في الوقع والحجم - الكثيرَ من المفاهيم السياسية والاجتماعية، وتلك التي تخص طريقة فهم العراقيين لبلادهم وعلاقتهم بالسلطة والسياسة والمجتمع والعائلة...
أثناء التظاهرات وبعدها، تخلّق مجتمع وتقاليد جديدة، وبرز جيل مختلف يحمل نفساً أطول في مقارعة السلطات. هو جيل لم يعرف سوى النظام الذي أُرسي بعد احتلال بغداد في نيسان / أبريل عام 2003، وهو الجيل ذاته الذي عاش تفتّت الهويّة الوطنية الجامعة، وانهيار المنظومة القيمية، وعاصر مدن العراق في أكثر مراحلها بشاعة وعسكرة، وهو جيل لا يعرف من يمارس العنف في البلاد، ولا يُشارك في السياسة، لأن السياسة، على ما يُفسّرها، محتكَرة من قبل مجموعة تسكن في المنطقة الخضراء المُحصنة بالجدران الكونكريتية والأجهزة الإلكترونية المتطورة، وتتصرّف بمعزل عن متطلبات مجتمعها، ولذلك فهو يبغض الأحزاب.. جميعَ الأحزاب.
والجيل هذا، الذي ولد الأكبر سنّاً من بينهم في أواخر التسعينيات، بلا مستقبل. فالبلاد تغرق بوحل سياسات الإفقار والفساد والسلاح والتبعيّة كل يوم أكثر فأكثر، وحديث الإصلاح فيها ليس سوى قبض ريح، والأحزاب والقوى التي عُوّل عليها لبناء قارب نجاة، سرعان ما سبحت مع التيار، وتركت القارب مفككاً وسط الوحل العراقي.
على هذا الأساس، فالتظاهرات التي انطلقت في تشرين الأول / أكتوبر 2019 ويحاول العراقيون اليوم بث الحماسة لاستعادة زخمها، قد زرعت الأمل في الكثيرين، وأطنبت أعمدة يأس جديدة في نفوس آخرين. والانطلاق من الخاص - من العائلة - إلى العام، تبدو لي المحاولة الأجدر لفهم ما جرى خلال عام الأمل والخوف والتفكير. أخي الأصغر وُلد في بغداد عام 2001، وما بين جيلينا فوارق. وقد اعتمدتُ على عدد من الحوارات مع أشخاص من جيلينا أخي وأنا، من طبقات وفئات وأفكار مختلفة، لأفهم كيف بتنا نفكّر.
وفي عرف المجتمعات المستقرة، قد تبدو 13 عاماً هي فارق العمر بيني وبين أخي، أو بين جيلي وجيله، لا تشكّل فارقاً، وقد نُحسَب، ربما، من الجيل ذاته، وقد يكون لدينا الاهتمامات ذاتها، والهموم والتفكير نفسه. لكن العراق، الذي يبدو مختلفاً في الكثير، يُحدِث أيضاً فارقاً كبيراً بين جيلين لا يفصل بينهما أكثر من عقد ونيّف. تبدو المسافة الزمنية، والحال هذه، عقوداً وليست عقداً فحسب.
الاهتمام بالسياسة
على الرغم من أن السياسة في منزلنا - كبقيّة البيوتات العراقية - تأخذ حيّزاً كبيراً من حديثنا اليومي، وتسيطر برامج الحوارات، ونشرات الأخبار على مساحة واسعة من جدول مشاهدة التلفاز، فقلّما سمعت أخي الصغير يتحدث في السياسة أو يبدي رأيه فيها، وهو لا يلقي بالاً لما يحصل في العراق. من ناحيتنا – نحن الذين عايشنا النظام البعثي وحروب صدام حسين وأيام الحصار – فقد رددنا ذلك إلى كونه مراهقاً له عالم خاص، لا نعلم ما يدور فيه. ولكننا كنا على يقين بأنه سيدخل في يوم ما عالم الشغل والمؤسسات الرسمية والتفكير في مستقبله.. وعندها سيهتم بالسياسة، وسيُكوّن رأياً عنها، وسيصبح عراقياً ناصعاً، ناقماً على السلطة.
لكن الشاب بدّد تصوّرنا عنه، ففي أيلول / سبتمبر عام 2019 حشّد، مثل أقرانه، للتظاهرات التي ستنطلق بعد قليل في الأوّل من تشرين الأول / أكتوبر من العام ذاته. من بين خمسة أبناء لوالديّ، بقي هو وأختي في بغداد. وتسللنا نحن الثلاثة، بحجج مختلفة، الواحد بعد الآخر، إلى خارج البلاد.
كتبت له، متعالياً وآمراً، أن "ابقَ في المنزل، فلا شيء سيحصل لو شاركت في التظاهرات". تصرّفتُ كمجرّب، كأخ كبير وككاتب خبر الأحداث وكتب عنها، والأهم منذ ذلك: عاشها. ردّ: "أعرف، لن أُشارك". ولكن ذلك لم يدم طويلاً، إذ لا أنا، ولا هو كنا نعرف أن تظاهرات تشرين ستكون مغايرة لكل ما عرفه العراق من احتجاجات منذ سقوط نظام صدام حسين. فما إن اندلعت التظاهرات، حتى جمعت آلاف الشبّان في ساحة التحرير وسط بغداد، وحملت هموماً وقضايا لا تُعد. خرج إليها اليائس والباحث عن عمل، خرج إليها الغاضب على العائلة والعشيرة، وخرج كذلك من يبحث عن مساحة في هذه البلاد الشاسعة، ليصرخ. لكن فكرتين جمعتهما: "الحق" و"الوطن"، وهم لذلك تمسكوا بشعاري "نازل آخذ حقّي"، و"نريد وطناً"، واستعملوهما في الأغاني والغرافيتي واللوحات، في المنشورات والبوسترات على مواقع التواصل الاجتماعي.
تمثّل "الحق" في المطالبة بالخدمات الغائبة، بالسكن والطاقة الكهربائية والطرقات المعبّدة والتعليم، وبشكل أساسي: العمل. كل هذه الحقوق مستلبة في العراق، وإذا ما توفّر أيٌّ منها، فإنها توزع دون انصاف بين فئة سكّانية مقرّبة من الأحزاب، أو تحاول هذه الأخيرة استمالتها. أما الوطن فبدا أنّه صورة العراق المهشّمة التي لم يجمعها أحد بعد سقوط النظام السابق، والذي ساد طويلاً، لما يزيد عن ثلاثة عقود..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق