صلاح الدين الأيوبي بين الواقع والخيال
----------------
ويقول العماد الأصفهاني في ذلك: (وفيها من الخطوط المنسوبة ما اختطفته الأيدي واقتطعه التعدي، وكانت كالميراث مع أمناء الأيتام، يتصرف بها بشرَه الانتهاب والالتهام)(30)، وهكذا شتتوا هذه الكتب وأضاعوها فغدت هباء منثوراً، وأتلفوا هذه الكنوز العلمية التي لم يجتمع مثلها لا قبلها ولا بعدها في مكتبة قط، وهل فعل التتار والمغول في مكتبات بغداد أكثر مما فعله صلاح الدين هذا بخزانة كتب القاهرة ومكتباتها؟.
ورغم أن نور الدين كان ولي نعمته، وهو الذي رشحه للوزارة لدى العاضد بعد وفاة أسد الدين شيركوه، إلاّ أنه لم يسلم من تنكّر صلاح الدين له والتنمر عليه في حياته، والاحتماء منه بالصليبيين، ثم القضاء على مملكته وضمها إليه بعد وفاته، لكنّ الأشد انتقاماً من نور الدين ما فعله مع ابنه (الملك الصالح).
لقد كان ابن نور الدين هذا مقيماً في حلب، وكان على صغر سنه محاطاً برعاية الحلبيين باعتباره ملكهم المقبل بعد أبيه، فكان أول ما فعله صلاح الدين بعد استيلائه على الشام، أن قصد إلى حلب للقضاء عليه.
يقول ابن الأثير: (لما ملك صلاح الدين حماة، سار إلى حلب فحصرها ثالث جمادى الآخرة، فقاتله أهلها، وركب الملك الصالح - وهو صبي وعمره اثنتا عشرة سنة - وجمعَ أهل حلب وقال لهم: قد عرفتم إحسانَ أبي إليكم ومحبته لكم وسيرته فيكم، وأنا يتيمكم وقد جاء هذا الظالم الجاحد إحسان والدي إليه، يأخذ بلدي ولا يراقب الله تعالى ولا الخلق ... وبكى وأبكى الناس، فبذلوا له الأموال والأنفس، واتفقوا على القتال دونه والمنع عن بلده)(31)، ولكن صلاح الدين تمكّن منه واعتقله وعاد به إلى دمشق، ولزيادة التشفي بنور الدين وولده، تزوج زوجة نور الدين، ودخل بها وبات عندها ليلة واحدة، وخرج بعد يومين إلى مصر(32)، لقد شفت الليلة غيظه، وانتقم من نور الدين انتقام الأنذال(33).
ولا تسل بعد ذلك عن المجازر التي أوقعها صلاح الدين بأهل حلب، ولا عن الحرائق التي استهدفت منابر العلم ودور الكتب، ولا عن الإعدامات التي كانت تنتظر العلماء والحكماء، مما ملأ بطون كتب التاريخ، وكان على رأسهم جميعاً، الفيلسوف الإشراقي العظيم، شهاب الدين بن يحيى السهروردي(34) ، الذي قُتل عام 1191م خنقاً بوتر، وقيل بالسيف، وقيل سوى ذلك، وكان الفيلسوف السهروردي من أكبر علماء عصره(35)، ولا تسل كذلك عن الضرائب الباهظة والمقتطعات التي أثقلت كاهل جميع المسلمين من أهل حلب في تلك الحقبة السوداء.
وحسبك للوقوف على طريقة معاملته للشعب الذي كان يحكمه صلاح الدين، ما كتبه عنه الدكتور حسين مؤنس، وهو من أشد المتحمسين للدفاع عن صلاح الدين الأيوبي، قال: (كانت مشاريعه ومطالبه متعددة لا تنتهي، فكانت حاجته للمال لا تنتهي، وكان عماله من أقسى خلق الله على الناس، ما مرّ ببلده تاجر إلاّ قصم الجُباة ظهره، وما بدت لأي إنسان علامة من علامات اليسار، إلاّ أُنذِر بعذاب من رجال السلطان، وكان الفلاحون والضعفاء معه في جهد، ما أينعت في حقولهم ثمرة إلاّ تلقّفها الجباة، ولا سنبلة قمح إلاّ استقرت في خزائن السلطان، حتى أملق الناس في أيامه، وخلّفهم على أبواب محن ومجاعات حصدت الناس حصداً)(36).
ولا غرابة بعد هذا كله أن تعلم أن ولاته وعماله هم جميعاً من أمثال (قراقوش)، الذي خلّفه والياً على مصر، ليتفرغ هو لاحتلال الشام، والقضاء على ملك نور الدين زنكي، والتشفي منه.
إدمانه على الخمر وانصرافه إلى اللهو واللعب
رغم جنوح المؤرخين غالباً، إلى تجنب الخوض في الأمور الشخصية والأهواء النفسية، للحكام والسلاطين الذين يؤرخون لهم، إيثاراً للسلامة، وخوفاً من الوقوع تحت غضب هؤلاء السلاطين وخلفائهم، والانتقام منهم بالحرمان والملاحقة والقتل والتشريد، فإن بعض رشحات أقلام هؤلاء المؤرخين، أعطتنا بعض الضوء للولوج إلى بعض تلك الأهواء والممارسات.
ومن هذه الرشحات ما صرّح به كمال الدين بن العديم، في الجزء الثاني من كتابه (زبدة الحلب في تاريخ حلب)، حيث قال: فأرسل العاضد إلى صلاح الدين وأحضره عنده، وولاّه الوزارة بعد عمّه، وخلع عليه ولقّبه بالملك الناصر، فاستتبت أحواله وبذل المال وتاب عن شرب الخمر(37).
على أن القاضي ابن شدّاد، الذي كان من المؤرخين الذين أشادوا كثيراً بصلاح الدين، أضاف إضافة مهمة حين قال: وشكر نعمة الله فتاب عن الخمر وأعرض عن أسباب اللهو(38)، ويعقب السيد الأمين على ذلك بقوله: وإذا كان أنصار صلاح الدين قد اعترفوا بأنه كان سِكِّيراً خِميِّراً قبل توليه الوزارة، فالله وحده يعلم ما إذا كان قد تاب أم لا(39)، لاسيما إذا عرفنا أنه لم يكن يومذاك – كما هو اليوم – مصحات لمعالجة المدمنين وإعادتهم إلى الصواب، فالمدمن يومذاك لا علاج لإدمانه، ويبدو أن إدمان شرب الخمر، كان متأصلاً في الأسرة الأيوبية، فالأفضل بن صلاح الدين وخليفته في دمشق (أقبل على شرب المسكر واللهو واللعب)(40)، والله وحده يعلم كذلك، ما كان يجري من مخازٍ ومعاصٍ في مجالس اللهو واللعب التي كان صلاح الدين وابنه الأفضل عاكفين عليها.
ميله إلى النصرانية وأثر اليهودية عليه
فيما يتعلق بالجانب الأول وهو ميله إلى النصرانية، يقول الدكتور لويس بوزيه معلّقاً على ما قرأه في المصادر الفرنجية القديمة: (رأت هذه المصادر القديمة الفرنجية أن يكون صلاح الدين قد قُلِّدَ بمراسيم الفروسية المسيحية، وأن اسم صلاح الدين في صيغته الفرنسية Saladin لا يزال يطلق حتى اليوم على أعضاء بعض الأسر النبيلة الفرنسية، وكان لنا الحظ ونحن نحرر هذه المحاضرة، أن نعثر على إعلان وفاة في عدد من جريدة Le Figaro بتاريخ 22 تشرين الثاني 1993م، يذكر فيه اسم المتوفى كالآتي:
(Marie Bernard Saladin , Marquise, Montmorillon ، وحسب بعض الروايات المسيحية أن صلاح الدين كان يعجب بالطقوس الدينية المسيحية، وأن ما منعه من اعتناق الدين المسيحي ليس معتقدات هذا الدين بالذات - إذ أظهر إعجابه به - بل التصرفات السيئة لبعض الذين يمارسونها، وأنه صرّح أن الديانة المسيحية هـي خير الديانات، وأنه كان له ميل إلى الديانة المسيحية وإن لم يعتنقها في النهاية)، ويتابع الدكتور: (إن صلاح الدين حسب هذه الروايات، كان ينحدر من أسرة نبيلة فرنسية، من نبلاء شمالي فرنسا Sires De Ponthieu وذلك من خلال شجرة نسب أسطورية، نجد فيها أن جدّة السلطان الأسيرة الجميلة La Belle Captive هي حفيدة الأمير Ponthieu الذي أصبح نفسه بالتالي الجد الخامس لصلاح الدين، وعلى قول أحد هذه المصادر القديمة: كان صلاح الدين تركياً، ولكن يجري في عروقه من جهة أمه وجدته الدم الفرنسي النبيل).
ويختم الدكتور هذه المقاطع بقوله: (نستخلص من كل ما سبق، أن صلاح الدين قد أصبح في تصور هذه المصادر القديمة، أحد هؤلاء الفرنج المثاليين، يتحلى بفضائلهم السامية وخصالهم التقليدية من كرم وشجاعة)(41)0
ويقول الدكتور عبد الله بن عبد الرحمن الربيعي، عضو هيئة التدريس بقسم التاريخ والحضارة بجامعة الإمام محمد بن سعود: (إن هناك أنشودة قديمة ألفها (سيراكون) في القرن الثاني عشر الميلادي، تتكون من مائة وخمسين بيتاً،عثر على مخطوطتها عام 1875م المؤرخ (ستينجل) في مكتبة (أوكسفورد)، ويهمنا هنا أن هذه القصيدة تصف صلاح الدين بأنه شبه نصراني)(42).
ونحب أن نضيف هنا شيئاً عن مباركة صلاح الدين لمحاولة أخيه (العادل) الزواج من أخت الملك الصليبي الإنكليزي (ريشارد قلب الأسد)، وفي هذا الصدد يقول عماد الدين الأصفهاني مؤرخ صلاح الدين في كتابه (الفتح القسي في الفتح القدسي): (وصلت رسل ملك الإنكليز ريكاردوس أو ريتشارد قلب الأسد إلى (العادل) بالمصافحة على المصافاة، والمواتاة في الموافاة، وموالاة الاستمرار على الموالاة، والأخذ بالمهاداة والترك للمعاداة، والمظاهرة بالمصاهرة، وترددت الرسل أياما وقصدت التئاماً، وكادت تحدث انتظاماً، واستقرّ تزوج الملك العادل بأخت ملك الإنكليز، وأن يعوَّل عليهما من الجانبين في التدبير، على أن يُحَكَّمَ العادل في البلاد، ويجري فيها الأمر على السداد، وتكون الامرأة في القدس مقيمة مع زوجها، وشمسها من قبوله في أوجها، ويرضي العادل مقدَّمي الفرنج والداويَّة والأسبتار ببعض القرى، ولا يمكنهم مـن الحصون والذُّرا، ولا يقيم معها في القـدس إلاّ قسّيسون ورهبان، ولهم منا أمان وإحسان)0
ويضيف بعد ذلك موضحاً رضى صلاح الدين بتلك الخطة: (واستدعاني العادل والقاضي بهاء الدين بن شداد، وجماعة من الأمراء من أهل الرأي والسداد، ...وقال لنا: تمضون إلى السلطان وتخبرونه عن هذا الشان، وتسألونه أن يحكِّمني في تلك البلاد، وأنا أبذل فيها ما في وسع الاجتهاد، ... فلما جئنا إلى السلطان، عرف الصوابَ وما أخّر الجواب، وشهدنا عليه بالرضى)(43).
لكن ملك الإنكليز اعتذر فيما بعد (بامتناع أخته، وأنه في معالجتها وتعرُّفِ رضاها في وقته)(44).
ورغم أنه من الصعب أن يصدق المرء شيئاً من هذه الروايات، فإنه من الصعب كذلك الركون إلى نفيها دون دليل قاطع، اللهم سوى استصحاب الحال السابق الشائع بين الناس.
وكذلك فإنه من العسير جدا، تفسير تسامح صلاح الدين مع الصليبيين، وتخاذله عن مواصلة الجهاد ضدهم، بل والتحالف معهم، بكونه نصرانياً أو شبه نصراني، بينما يسهل تفسير تبجيل الفرنجة لصلاح الدين بأنه يعود في أقل تقدير إلى مهادنته للصليبيين، وتنازله لهم عن كل فلسطين عدا القدس، وبذلك أحال هزيمتهم إلى نصر، كما قام بنفسه بتمزيق البلاد الإسلامية، بلاد أعداء الصليبيين وأضعفها، وحال دون قيام الدولة العربية الكبرى، معضودة بالعالم الإسلامي، مما مهّد لعودة القدس، وكثير من مدن فلسطين ولبنان وسوريا إليهم أيضاً، وبقوا مسيطرين على تلك البلاد فترة طويلة بعد ذلك 0
أما الجانب الثاني، وهو أثر اليهودية على نفسية وتصرفات صلاح الدين، فهو الآخر ذو شؤون وشجون، فلقد كان لموسى بن ميمون(45) نفوذ غير محدود، على صلاح الدين وحاشيته وأمرائه، ولقد (اختير طبيباً لنور الدين علي، أكبر أبناء صلاح الدين، والقاضي الفاضل البيساني وزير صلاح الدين(46)، الذي لم يكن له من صفات الفضل شيء على الإطلاق، والذي أصبح بنفاقه وتملقه الحاكم الفعلي لمصر بعد مغادرة صلاح الدين لها عام 1174م.
كان لشهرة ابن ميمون الطبية، الدور الأبرز في لفت أنظار البلاط الأيوبي إليه، والتي (أتاحت له أن يجمع بين رعاية السلطان صلاح الدين، ورعاية نخبة المجتمع القاهري)(47)، ولقد استطاع ابن ميمون في ظل هذه الرعاية أن يحظى بمكانة رفيعة جداً عند صلاح الدين وحاشيته، لدرجة أنه تزوج من شقيقة (ابن المالي)، أحد مستشاري السلطان، وزوّج شقيقته لابن المالي، ولدرجة أن صلاح الدين رفض طلب أحد القضاة عام 1187م، إنزال عقوبة القتل به باعتباره مرتداً عن الإسلام، ركوناً إلى حجة وزيره الذي كان صديقاً حميماً لابن ميمون، وقوله أن الرجل الذي أُرغم على اعتناق الإسلام، لا يمكن أن يعتبر مرتداً بحق(48).
والذي يلفت النظر ويشد الانتباه حقاً، أن صلاح الدين الذي أصر على إعدام الفيلسوف (شيخ الإشراق) والإمام الشافعي المذهب، شهاب الدين بن يحيى السهروردي، متهماً إياه بالخروج عن الدين، غض الطرْف تماماً عن موسى بن ميمون، الذي نشر في الشهر ذاته مقالة في بعث الموتى، وعبّر فيها عن تشككه في عقيدة الخلود الجسمي، كما أصمّ أذنيه أيضاً عن تسفيه عبد اللطيف البغدادي لابن ميمون بعد صدور كتابه (دليل الحائرين)، واتهامه له بأنه (يهدم أركان جميع الأديان، بالوسائل نفسها التي يخيل إلى الناس أنه يدعمها بها)(49).
موسى بن ميمون هذا:
(استخدم نفوذه في بلاط صلاح الدين لحماية يهود مصر)(50).
(ولما فتح صلاح الدين فلسطين، أقنعه ابن ميمون بأن يسمح لليهود بالإقامة فيها من جديد، وابتناء كُنُس ومدارس)(51).
3-كان الحكم الشيعي في اليمن، يخير اليهود بين القتل أو الإسلام، فلما علموا بالنفوذ الذي يتمتع به موسى بن ميمون عند صلاح الدين، لجأوا إليه عام 1172م، فاستجاب لمطلبهم، وكتب لهم ما سمي (بالرسالة اليمنية)، وطلب من الحاخام (نتانئيل الفيومي) إرسال نسخة عن هذه الرسالة إلى كل الجماعات في اليمن.
ورغم أن الموسوعة اليهودية، لم تكشف النقاب عن كل محتويات الرسالة، فلقد كانت هذه الرسالة بمثابة رسالة الأمل بالنسبة إلى يهود اليمن، لدرجة أنهم أدخلوا في القوديش صلاة (لأجل نفس معلمنا موسى بن ميمون).
وما أسرع ما تحقق هذا الأمل على يدي ابن ميمون، عندما اجتاح الأيوبيون اليمن عام 1173م، أي بعد وصول رسالة ابن ميمون هذه بأشهر معدودة، حيث رفع السيف عن رقاب اليهود في اليمن، ووضع في رقاب المسلمين، وتم تخفيف الضرائب عن كاهل اليهود، وأُثقل بها كاهل المسلمين(52).
كانت هذه بعض أهم النقاط سوءاً في سيرة صلاح الدين الأيوبي، تعرضنا لها بشيء من الإيجاز، وأعرضنا عن البعض الآخر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق