وجوب تعليم الفلسفة والمنطق في المدرسة والجامعة (1/ 3)

. . ليست هناك تعليقات:


بقلم : حسني عايش 


كانت جملة رجال الدين المسيحي والإسلامي في العصور الوسطى يعتقدون أن الفلسفة والمنطق عدوان للدين، وأن تعلمهما يجعل الفرد يشك في صحته، أو يكفر به ويرتد عنه. وقد شبه رجال الدين المسلمون في حينه تعلم المنطق بتعلم الزندقة، فقالوا: "من تمنطق فقد تزندق". غير أنه لما كان غير ممكن منع التفلسف والتمنطق بحكم الدهشة وحب الاستطلاع والمعرفة عند الإنسان، فقد اضطر رجال الدين إلى تعلّم الفلسفة والمنطق وتعليمهما، للدفاع عن الدين والتصدي للمجدفين والمهرطقين والمارقين.
ولما بلغت الحضارة العربية الإسلامية أوجها في القرن الرابع الهجري؛ نتيجة انهيار السلطة المركزية وتفشي الانقسام السياسي، وتنافس الدويلات المسلمة المستقلة على رعاية الفلسفة والآداب والعلوم والفنون، رأيت الفلسفة والمنطق يزدهران، والمناظرات بين الفلاسفة تنتشر في كل مكان، ما اضطرهم إلى وضع قواعد للمناظرة: "اجتمع متكلمان (فيلسوفان إسلاميان) فقال أحدهما للآخر: هل لك في المناظرة؟ فقال: على شرائط: أن لا تغضب، ولا تعجب، ولا تشغب، ولا تحكم، ولا تقبل على غيري وأنا أكلمك، ولا تجعل الدعوى دليلاً، ولا تجوز لنفسك تأويل آية على مذهبك إلا جوزت لي تأويلها على مذهبي، وعلى أن تؤثر التصادق، وتنقاد للتعارف، وعلى أن كلاً منا يبني مناظرته على أن الحق ضالته، والرشد غايته".
ولأن انتشار الفلسفة والمنطق زاد على حده في نظر الإمام أبي حامد الغزالي (المتوفى عام 505هـ)، فقد تحول إلى ضدهما، وألف كتابه المشهور "تهافت الفلاسفة" الذي وقف رجال الدين آنذاك بين مؤيد له ومعارض.
ولما وقع كتاب الغزالي بين يدي فيلسوف الأندلس الأعظم أبو الوليد بن رشد، المولود بعد وفاة الغزالي بخمس عشرة سنة، استفزه ما جاء فيه، فنهض للرد عليه؛ فقرة فقرة، وفكرة فكرة، بكتاب سماه "تهافت التهافت". كان هدف ابن رشد كهدف الغزالي؛ الدفاع عن الإسلام، ولكن بالفلسفة والمنطق والبرهان. كما ألف ابن رشد كتاباً آخر سماه "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال"، للدفاع عن الدين بالفلسفة والمنطق.
نرى من ذلك أن كلاً من المفكرين إسلامي، لكن منهج كل منهما في الإيمان مختلف؛ إذ بينما يتم الإيمان عند الغزالي بالاعتقاد والتصوف والإشراق، يتم عند ابن رشد بالبرهان.
ونظراً لشهرة ابن رشد في الأندلس وأوروبا، وتقريب الأمير له، فقد حسدته البطانة وتآمرت مع رجال الدين السذج عليه، وحرضوا الأمير عليه، فحوكم في جامع قرطبة الكبير (عام 591هـ) بتهمة الكفر والزندقة. ولكنه دافع عن فكره ببسالة، إلا أن الحكم صدر بحرق جميع كتبه ما خلا ما له علاقة بالطب لحاجة البلاط إليه، وبالفلك والحساب لحاجة المسلمين إليها في المواقيت. ونُفي خارج قرطبة إلى قرية أليسانة اليهودية، فأشاع خصومه وأعداؤه أنه يهودي الأصل، كالعادة المتبعة إلى اليوم أو الموروثة عن الأسلاف عن اتهام بعض الزعماء العرب بذلك.
ولما ضج بعض الناس احتجاجاً على المعاملة المذلة لابن رشد، أصدر الأمير بياناً متغطرساً يشرح فيه أسباب اضطهاد ابن رشد، وأنه للدفاع عن الدين الحنيف؛ الحجة القديمة الجديدة الدائمة كلما احتاجوا إلى اضطهاد مفكر أو فيلسوف.
لم تقتصر النقمة على ابن رشد، بل شملت كل المنشغلين بالفلسفة والمنطق الذين شردوا في الأفاق. لكن محنة ابن رشد لم تدم طويلاً، فقد عفا عنه الأمير لحاجته إليه لتعلّم الفلسفة والمنطق. لكن هذا الود لم يدم طويلاً، فقد نُفي ثانيةً ولكن إلى مراكش حيث مات بعيداً عن وطنه (عام 595هـ).
يذكرني حرق كتب ابن رشد في القرن الخامس الهجري بحرق التلاميذ والمعلمين والجمهور للكتب الإسلامية المدرسية في القرن الحادي والعشرين. فما أشبه الليلة بالبارحة؟!

وجوب تعليم الفلسفة والمنطق في المدرسة والجامعة (2/ 3)

قصدت بالمقالة السابقة التي نشرتها "الغد" في الأسبوع الماضي، القول أو التمهيد بأن التراث الإسلامي والكلامي كبير، وأن فلاسفة وفقهاء مسلمين كثرا ألفوا بلغة فلسفية؛ أي إنهم استخدموا المفاهيم والمصطلحات والعبارات الفلسفية الإغريقية والفلسفية الفقهية في مؤلفاتهم، وأنه لا يمكن لمسلم مثقف أن يفهمها وهو يجهل هذه اللغة، مما يوجب تعليم الفلسفة والمنطق في المدرسة والجامعة، وأن نعلمهما المحافظة عليه وإلا ضاع. 
مجرد نص من كتاب "تهافت الفلاسفة" للإمام الغزالي:
"اختلف الفلاسفة في قدم العالم، فالذي استقر عليه رأي جماهيرهم المتقدمين والمتأخرين القول بقدمه وأنه لم يزل موجوداً مع الله تعالى ومعلولاً له ومساوقاً له غير متأخر عنه بالزمان مساوقة المعلول للعلة ومساوقة النور للشمس، وأن تقدم الباري عليه كتقدم العلة على المعلول وهو تقدم بالذات والرتبة لا بالزمان".
"... بم تنكرون على من يقول: إن العالم حادث بإرادة قديمة، اقتضت وجوده في الوقت الذي وجد فيه، وأن يستمر العدم إلى الغاية التي استمر إليها، وأن يبتدئ الوجود من حيث ابتدأ، وأن الوجود قبله لم يكن مراداً فلم يحدث لذلك وأنه في وقته الذي حدث فيه مراد بالإرادة القديمة فحدث لذلك، فما المانع لهذا الاعتقاد وما المحيل له؟!".
"فقالوا: إن الله لا يعلم إلا نفسه، فهو العاقل، وهو العقل وهو المعقول، والكل واحد...".
ومن الأمثلة من كتاب "تهافت التهافت" لابن رشد:
"قلت: هذا القول هو قول في أعلى مراتب الجدل، وليس هو واصلاً موصل البراهين؟ لأن مقدماته هي عامة –أي ليست محمولاتها صفات ذاتية لموضوعاتها- والعامة قريبة من المشتركة ومقدمات البراهين هي من الأمور الجوهرية المناسبة".
"قلت: هذا قول سفسطائي، وذلك أنه لم يمكنه أن يقول بجواز تراخي فعل المفعول، عن فعل الفاعل له وعزمه على الفعل، إذا كان الفاعل فاعلاً مختاراً، قال بجواز تراخيه عن إرادة الفاعل، وتراخي المفعول عن إرادة الفاعل جائز...". 
ومن أطروحته الخاصة بفصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، نقتبس ما يلي لابن رشد: "في حكم دراسة الفلسفة، فإن الغرض من هذا القول أن نفحص، على جهة النظر الشرعي، هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع؟ أم محظور؟ أم مأمور به إما على جهة الندب، وإما على جهة الوجوب؟ فنقول: إن كان فعل الفلسفة ليس شيئاً أكثر من النظر في الموجودات، واعتبارها، من جهة دلالتها على الصانع، أعني من جهة ما هي مصنوعات، فإنّ الموجودات إنما تدلّ على الصانع بمعرفة صنعتها، وأنّه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتمّ، كانت المعرفة بالصانع أتمّ".
"وإذا تقرّر أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات، واعتبارها، وكان الاعتبار ليس شيئاً أكثر من: استنباط المجهول من المعلوم، واستخراجه منه، وهذا هو القياس، أو بالقياس، فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي". وهكذا.
كان يعتقد الذين سارعوا إلى إلغاء تعليم الفلسفة والمنطق من المدرسة والجامعة، أنهم يحافظون على الدين، فأنتجوا متطرفين وإرهابيين بدلاً من ذلك، لا يفهمون الدين ولا يفكرون، فاستدرجهم دعاة التطرف والإرهاب واستثاروهم دينياً، وأشعلوهم جسدياً.

وجوب تعليم الفلسفة والمنطق في المدرسة والجامعة (3/3)


يستطيع من تابع المقالتين السابقتين فهم العيب المشين في قرار إلغاء تعليم الفلسفة والمنطق من المدرسة، وما تبعه من تداعيات. فعنوان الفصل الثاني من قانون التربية والتعليم هو: "فلسفة" التربية وأهدافها؛ أي إن الذين ألغوا تعليم الفلسفة والمنطق من المدرسة نسوا إلغاء عنوان هذا الفصل أيضاً، وهو فلسفة التربية وأهدافها. وقد جاء تحت هذا العنوان: "تنبثق فلسفة التربية في المملكة من الدستور الأردني والتراث العربي الإسلامي ومبادئ الثورة العربية الكبرى والتجربة الوطنية الأردنية. وتتمثل هذه الفلسفة بالأسس التالية: ‌
أ. الأسس الفكرية  ب. الأسس الوطنية والإنسانية ج. الأسس الاجتماعية".
ولا أعرف كيف تنبثق فلسفة التربية في المملكة من التراث العربي الإسلامي، وهم يلغون هذا التراث رسمياً! لأننا ما لم نعلم ونتعلم مبادئ الفلسفة والمنطق العامة، لن نستطيع فهم التراث العربي الإسلامي الفلسفي والعلمي والفقهي. وأتحدى أن يستطيع وزير للتربية والتعليم لم يدرس هذه المبادئ أن يفهم فقرة من كتاب "تهافت الفلاسفة"، أو كتاب "تهافت التهافت" أو كتاب لابن سينا، أو الفارابي، أو ابن طفيل.
وعليه، فلا غرابة إذا كرر الخلف بعد عشرة قرون ما فعله السلف، عندما أحرقت الكتب المدرسية جراء تعديلات ومناقلات بسيطة فيها. كما لا أعجب من شطب تعليم الفلسفة والمنطق وتعليمهما في الجامعات الأردنية، لأن الغاءهما من المدرسة يبطل الحاجة إليهما في الجامعة.
أما العيب الثاني في الإلغاء، فقد تجلى في المادة الرابعة من القانون بعنوان "الأهداف العامة"، والتي يجب أن تكون هي النتاجات العامة للتربية والتعليم. فحسبما جاء في مقدمة هذه الأهداف، هي تنبثق من فلسفة التربية، وتتمثل في تكوين المواطن المؤمن بربه، المنتمي لوطنه وأمته، المتجلي بالفضائل والكمالات الإنسانية، النامي في مختلف جوانب الشخصية الجسمية والعقلية والروحية والوجدانية والاجتماعية، بحيث يصبح في نهاية مراحل التعليم قادراً على اتقان ثماني عشرة مهارة أو قيمة، من مثل التفكير الناقد الموضوعي؛ واتباع الأسلوب العلمي في المشاهدة والبحث وحل المشكلات.
تقيّد الملاحظات والانطباعات أن المعلمين والمعلمات عموماً لا يكادون يعرفون شيئاً عن فلسفة التربية والتعليم وأهدافها العامة؛ فهم لا يطلعون على القانون ولا يتمسكون بما جاء فيه، ولا يسألون عنه، مع أنه يجب أن يكون مرجعهم الأول.
إن المنهج السلفي الخفي هو المسيطر على التعليم في بلاد المسلمين؛ العرب وغير العرب. وهو الحاضنة الرئيسة للتطرف والإرهاب، لدرجة أن هاجس الطائفية والمذهبية صار يبرز في الروضة والصفوف الابتدائية الأولى، حيث قد تُدهش التلميذات الصغيرات من كون معلمتهم مسيحية مثلاً. هذا ما حدث مع الأستاذة أمل عندما عرفت الطفلات أنها مسيحية.
وعليه، فليس تعليم الفلسفة والمنطق وتعلمهما مطلوبين لفهم التراث العربي الإسلامي فقط، وإنما لتكوين عقلية مواطنية سليمة. وربما يجب بالإضافة إلى ذلك التعليم عن بقية الأديان، وبخاصة الأديان الرئيسة الثلاثة في هذه المنطقة، وأن الجامع المشترك بينها أكبر من القاسم المنفصل، وأن العربي يمكن أن يكون مسلماً أو مسيحياً.
وفي الختام، أتحدى جميع رجال الدين المسلمين والإسلاميين والإسلامويين قراءة الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل)، فسوف يفاجئهم الجامع المشترك الكبير بينهما وبين دين الإسلام، وسوف يصبحون أكثر تواضعاً وأقل تحاملاً عليهما.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ابحث في موضوعات الوكالة

برنامج ضروري لضبط الموقع

صفحة المقالات لابرز الكتاب

شبكة الدانة نيوز الرئيسية

اخر اخبار الدانة الاعلامية

إضافة سلايدر الاخبار بالصور الجانبية

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة
تعرف على 12 نوع من الاعشاب توفر لك حياة صحية جميلة سعيدة

روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية

روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية
روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية

احصائية انتشار كورونا حول العالم لحظة بلحظة

احصائية انتشار كورونا حول العالم لحظة بلحظة
بالتفصيل لكل دول العالم - احصائيات انتشار كورونا لحظة بلحظة

مدينة اللد الفلسطينيةى - تاريخ وحاضر مشرف

الاكثر قراءة

تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

-----تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

الاخبار الرئيسية المتحركة

حكيم الاعلام الجديد

https://www.flickr.com/photos/125909665@N04/ 
حكيم الاعلام الجديد

اعلن معنا



تابعنا على الفيسبوك

------------- - - يسعدنا اعجابكم بصفحتنا يشرفنا متابعتكم لنا

جريدة الارادة


أتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الارشيف

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام
الانستغرام

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة
مؤسستنا الرائدة في عالم الخدمات الاعلامية والعلاقات العامة ةالتمويل ودراسات الجدوى ةتقييم المشاريع

خدمات نيو سيرفيس

خدمات رائدة تقدمها مؤسسة نيو سيرفيس سنتر ---
مؤسسة نيوسيرفيس سنتر ترحب بكم 

خدماتنا ** خدماتنا ** خدماتنا 

اولا : تمويل المشاريع الكبرى في جميع الدول العربية والعالم 

ثانيا : تسويق وترويج واشهار شركاتكم ومؤسساتكم واعمالكم 

ثالثا : تقديم خدمة العلاقات العامة والاعلام للمؤسسات والافراد

رابعا : تقديم خدمة دراسات الجدوى من خلال التعاون مع مؤسسات صديقة

خامسا : تنظيم الحملات الاعلانية 

سادسا: توفير الخبرات من الموظفين في مختلف المجالات 

نرحب بكم اجمل ترحيب 
الاتصال واتس اب / ماسنجر / فايبر : هاتف 94003878 - 965
 
او الاتصال على البريد الالكتروني 
danaegenvy9090@gmail.com
 
اضغط هنا لمزيد من المعلومات 

اعلن معنا

اعلان سيارات

اعلن معنا

اعلن معنا
معنا تصل لجمهورك
?max-results=7"> سلايدر الصور والاخبار الرئيسي
');
" });

سلايدر الصور الرئيسي

المقالات الشائعة