على الصحافي اليوم التعامل مع الأحداث كرموز لفك نبوءاتها بشكل صحيح لكي يعرّف القراء على المستقبل.
ألم يكن ماركيز يرتدي بدلة العمل عندما يشرع بالكتابة!
الجهد الذهني المبذول في صناعة القصص الصحافية المعاصرة يتطلب من يفكر بطريقة استثنائية
يسألني زميلي رئيس التحرير: متى نحيل أنفسنا على التقاعد يا كرم؟ أعتقد أن هذا الرجل يفكر أكثر مما يتحمل الدماغ الطبيعي للإنسان، لذلك تتراكم على ذهنه الأفكار التي يصنعها، فيعمل على ألا ينساها، وهذا يتطلب نوما أقل وتفكيرا أكثر.
هذا مثال بأن حياة الصحافي اليوم ليست مثالية. قد يصل به الحال إلى الاقتراب من ازدراء عمله، لكن في النهاية هذا عمله الذي يحقق به طموحه والتعبير عن نفسه، دعك من المسؤولية الأخلاقية المترتبة عليه.
التفكير المستمر يجعل عمل الصحافي اليوم مجردا من الصورة الفلكلورية الساذجة عن الصحافة، هناك إصرار حقيقي من أجل صناعة الأفكار الجديدة وليس تكرارها، أزمة الصحافة اليوم بجيش من الصحافيين التقليديين الذين يكررون ما هو سائد، سواء في ما يكتبون أو ما يعرضون على الشاشة.
لكي نصنع فكرة جديدة، علينا أن نجهد أنفسنا في التفكير وهذا سبب كاف لكي تتغير طبيعة حياة الصحافي، ويشعر بالإنهاك الذهني، فالمجهود الفكري أكثر ضررا في أغلب الأحيان من المجهود العضلي.
الصحافي اليوم معادل ذهني لعامل بناء مفتول العضلات “ألم يكن ماركيز يرتدي بدلة العمل كأي ميكانيكي عندما يشرع بالكتابة!”. الصحافي اليوم يفكر طوال الوقت، ينام أقل، يتابع الأحداث أينما حل، يستثمر المكان الذي هو فيه، يفضّل معرفة الجديد على التمتع بطعامه، لا يبالي بآلام جسده عندما يشعر بالإنهاك، ويهتم أكثر بالأخبار العاجلة. لا يأخذ إجازة بالمفهوم الحسّي، لأنه حتى في أيام إجازته يبقى مشغولا بالأحداث كي لا يفوته حدث ما.
وبعد كل ذلك عليه أن يحلل الأخبار ولا يعيد نسخها، لأن صراع المحتوى اليوم يتطلب ما هو أكثر من الخبر نفسه.
أليس كل ذلك يمنحنا الحق بالقول إن الصورة المثالية عن الصحافي المسترخي الذي يحتسي قهوته متسليا صارت في أروقة الأرشيف، “علينا أن نعمل من أجل بقائها هناك” وإن وجدت اليوم فهذا لا يضع صاحبها في أي حال من الأحوال ضمن التعريف الجديد للصحافي.
أثارني تساؤل فيه نوع من التذمر عن العجز الذي يكتنف الصحافيين في شهر رمضان بسبب تخصيص غالبية البرامج للترفيه، فيما يعجز الصحافي عن الإتيان بفكرة جدّية مناسبة لشد انتباه الجمهور المشغول بمتابعة البرامج والمسلسلات.
هذا تعبير عن التوقف عن التفكير، الصحافي اليوم لا يدع الحدث يصنعه، بل يقوم بصناعة حدثه الخاص سواء من الحدث نفسه أو من تداعياته، ولعمري تلك مهمة أصعب من أن ينجح فيها حشد من الصحافيين في الزمن الإعلامي السائد.
هذا يعني أن الجهد الذهني المبذول في صناعة القصص الصحافية المعاصرة يتطلب من يفكر بطريقة استثنائية. على الصحافي اليوم التعامل مع الأحداث كرموز لفك نبوءاتها بشكل صحيح لكي يعرّف القراء على المستقبل.
صناعة الأفكار تحيلنا إلى أبعد من تفاحة نيوتن على سبيل المثال، الصحافي اليوم هو نسخة ذهنية من نيوتن إذا تطلب الأمر!! فحين جلس يوما شارد الذهن تحت شجرة التفاح، كما تقول الحكاية، وينبغي الحفاظ عليها بنوع من الخشوع، لأنها أصبحت أسطورية، بالرغم من الموقف المتشكك للفيزيائي الفرنسي لوب فيرليت الشارح المتميز لأعمال نيوتن، فإن ما نقلته الحكاية وقع على الأرجح، لكن فيرليت سيؤكد على العكس من ذلك بأن نيوتن أسس من بداية مساره العلمي بهذه الأسطورة التي سيدعمها في شيخوخته، فتوصل إلى طريقة التفاضل وتمكن من وضع نظرية الألوان وبعدها إلى طريقة التفاضل العكسية، وفي السنة نفسها بدأ التفكير في امتداد الجاذبية إلى مدار القمر.
هذا ما فعله لودوفيك هنتر– تيلني، المحرر في صحيفة فايننشيال تايمز، عندما حاور البروفيسور الإيطالي كارلو روفيلي، بطريقة تجعل المسائل الفيزيائية بمتناول القراء وكأنها نص أدبي مفعم بالحيوية. لقد صنع فكرة صحافية باهرة من حوار فيزيائي.
اللغة في هذا الحوار الصحافي كانت واسطة للفهم وليست للمزيد من التعقيد عندما تفسّر الجاذبية الكمية، كنظرية تحاول حل ما يصفه روفيلي بواحدة من المسائل الكبرى المفتوحة في الفيزياء.
لقد قدم المحاور لودوفيك هنتر، درسا صحافيا في غاية الأهمية، عن معنى أن نتعامل مع عالم الفيزياء بالطريقة المتميزة في الصحافة المتقدمة، التي لا تجعل القارئ العادي يقلب الصفحة لمجرد أنه وجد كلمة فيزياء في تبويبها وليس كلمة رياضة أو موسيقى مثلا.
فعندما يقدم فكرة عن كتاب روفيلي “سبعة دروس مختصرة في الفيزياء”، يمنح قارئ الصحيفة مساحة من الثقة والاسترخاء، لأنه يقرأ شيئا جديدا عن الفوتونات والبروتونات والثقوب السوداء الساخنة والزمن غير المتصل.
يقارن روفيلي في كتابه حول الفيزياء، معادلة لأينشتاين حول انحناء المكان مع “الجمال النادر لرباعية بيتهوفن، وَتَرية متأخرة”، وهو يضع النظرية العامة في النسبية في مستوى مسرحية الملك لير لشكسبير، أو الجمال الراقي في سقف كنيسة سيستينا في الفاتيكان.
الجهد الذهني الذي بذله الصحافي لودوفيك هنتر، وحده من يعوّل عليه اليوم في الصحافة ذات المحتوى المتميز، ثمة تعريف جديد مرتبط بمهمة الصحافي عليه أن يقترن بالمزيد من التفكير، وليس المزيد من التكرار الذي ملّ منه القراء.
بالأمس عبرت إميلي مايتليس مقدمة البرامج السياسية في هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، عن إنهاكها وبطريقة لا تخلو من الشكوى، وقالت في حوار مع صحيفة الغارديان البريطانية، إنها تشعر بشكل دائم بالحاجة إلى كأس من الفودكا ووقت أكثر إلى النوم.
مايتليس التي تقدم اليوم على “بي بي سي 2″ أشهر برنامج لتحليل الأخبار “نيوز نايت” بعد نشرة العاشرة مساء، لا تتذمر من عملها في تلك الشكوى بقدر ما تحرّض نفسها على المزيد من التفكير، وهي تعترف أنها تنهض يوميا منذ الرابعة فجرا إذا تطلب الأمر، ولا تفرّط بمتابعة أخبار منتصف الليل. وهذا طقس حساس بالنسبة إليها مرتبط بالعقل والجسم معا، وهو جزء من التعريف الذي أقترحه لمفهوم الصحافي، على الأقل من أجل إبقاء الصورة التقليدية في الرفوف العتيقة، ولاحقا قد نشعر إزاءها بحنين باهت في عصر البصائر الآلية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق