المخرج الراحل يوسف شاهين والممثلة يسرا في صورة تعود للعام 2003
من المحرر: توفي الدكتور رياض عصمت بعد إصابته بفيروس كورونا في 14 مايو 2020. وبعد وفاته تبين لعائلته أن الدكتور سبق أن كتب عددا من المقالات التي لم تنشر بعد، لذلك قرر موقع الحرة نشر هذه المقالات تباعا.
كتب : د. رياض عصت
لا شك أن السينما العربية تعرضت مع نهاية القرن العشرين إلى متاعب وصعوبات، ما زالت بعض أثارها الجانبية قائمة حتى اليوم. تفردت السينما المصرية بالريادة تاريخيا في العالم العربي، إذ بدأت عروض السينما في مصر بتاريخ يناير 1896 بشكل قريب جدا من بواكير أول عرض سينمائي للأخوين لوميير في باريس بتاريخ ديسمبر 1895. وبدأ إنتاج الأفلام الروائية في الإسكندرية عام 1917، وسرعان ما أدت غزارة الإنتاج إلى أن يطلق بجدارة لقب "هوليوود العرب" على مصر.
هكذا، وبالرغم من محاولات جادة وجريئة في الستينيات من بلدان عربية مختلفة، ظل الإنتاج السينمائي المتفرق بعيدا عن مفهوم الصناعة، وأولها في العراق وسوريا، ثم في لبنان وفلسطين والجزائر وتونس والمغرب، بينما اقتصر إنتاج بلدان أخرى على فيلم واحد أو أفلام تحصى على أصابع اليد الواحدة.
بالرغم من أن أفلاما جزائرية وسورية ولبنانية وتونسية ومغربية وفلسطينية حظيت بجوائز في مهرجانات عربية وعالمية عديدة، إلا أن السينما في تلك البلدان لم تصبح "صناعة" بالمفهوم الذي قامت عليه السينما في مصر.
يختلف الأمر، بالطبع، مع إنتاج الدراما التلفزيونية التي أصبحت فيه سوريا منافسة قوية لمصر، مما أدى إلى استقطاب بعض أبرز مواهب السوريين ليعملوا في مصر إلى جانب أشقائهم الفنانين المصريين، وأبرزهم جمال سليمان وتيم حسن وكنده علوش وقصي خولي وباسل خياط في مجال التمثيل، وحاتم علي ورشا شربتجي في مجال الإخراج.
مشكلة السينما العربية خارج مصر هي محلية تسويقها التي لا تجعلها تجني أرباحا ولا شهرة كافيتين لتأسيس صناعة سينمائية مزدهرة
في زمن مضى، كانت السينما المصرية تنتج 67 فيلما سينمائيا في العام الواحد، وكان الإنتاج متنوعا بحيث يشمل مختلف الأنماط المعروفة في السينما الأميركية والأوربية، وخصوصا الفيلم الدرامي والميلودرامي والغنائي الاستعراضي. في القرن الحادي والعشرين، تراجع حجم الإنتاج السينمائي في مصر إلى حد كبير، ولم يعد يتجاوز أحيانا 40 فيلما فقط.
من ناحية أخرى، فقدت الغالبية العظمى من الأفلام، الطابعين الرومانسي والواقعي اللذين اشتهرت بهما السينما المصرية وضمنا لها جماهيريتها الواسعة في الماضي. بالتالي، انحصر الإنتاج الجديد بشكل عام إما ضمن أفلام الكوميديا الفاقعة، أو أفلام الإغواء الجنسي، أو أفلام العنف والجريمة، وهذه الأنماط الثلاثة أثبتت قدرتها على الربح التجاري مهما هبط مستواها، لأن "الموجة الطليعية الجديدة" في السينما المصرية انحسرت بعد أن راجت موضتها في ثمانينيات القرن العشرين كاتجاه معاكس لما هو تجاري وسطحي ورديء، وذلك عبر أفلام متنوعة الاتجاهات والأساليب، منها أفلام عاطف الطيب الواقعية مثل "سواق الأتوبيس"، وفيلم شادي عبد السلام التجريبي "المومياء"، كما توقف دور القطاع العام في ميدان الإنتاج منذ مطلع السبعينيات.
في عصر الريادة في الستينيات، كان صلاح أبو سيف وكمال الشيخ وهنري بركات ويوسف شاهين وتوفيق صالح يسبحون عكس التيار السائد، ثم صمد شاهين وحيدا بعد رحيل بعضهم واعتزال الآخرين. استطاع يوسف شاهين أن ينجز طرازين من الأفلام بنجاح: نمط الأفلام الطليعية مثل "الاختيار" و"العصفور" و"حدوتة مصرية" و"اسكندرية ليه" و"اليوم السادس" و"المهاجر"، ونمط الأفلام الجماهيرية مثل "الناصر صلاح الدين"، "بياع الخواتم"، "الأرض"، "المصير" و"الآخر". كما استطاع خوض بعض تجارب الإنتاج المشترك مع أوروبا، وبالأخص فرنسا، كما في "وداعا بونابرت" و"المهاجر".
أما السينما المصرية الجماهيرية، فنجحت تجاريا فيها أفلام كوميدية مثل "إسماعيلية رايح جاي"، "صعيدي في الجامعة الأميركية" و"همام في أمستردام" من بطولة محمد هنيدي، وأفلام حركة ومغامرة مثل من بطولة أحمد السقا مثل "تيتو" و"مافيا"، الأمر الذي زعزع تقدم الجيل الموهوب والمخضرم على درب التجريب والتجديد، مثل سعيد مرزوق وحسين كمال وعلي بدرخان ومحمد خان وخيري بشارة ورأفت الميهي وداوود عبد السيد ورضوان الكاشف ويسري نصر الله وسعيد حامد وأسامة فوزي وأسماء البكري وخالد يوسف وسواهم، في أفلام نذكر نماذج عنها: "زوجتي والكلب"، "زوجة راجل مهم"، "شحاتين ونبلاء"، "احكي يا شهرزاد" على سبيل المثال، لا الحصر.
حتى عادل إمام، الذي بلغ الذروة بأفلام قاربت الكوميديا السياسية بالتعاون مع كاتبي السيناريو وحيد حامد ولينين الرملي، مع المخرجين شريف عرفة ونادر جلال، بدأ يضطر لمسايرة الذوق العام بتقديمه أفلاما محورها الجنس مثل "التجربة الدانماركية" وسواه.
كما تراجع أيضا بريق نجوم يتمتعون بموهبة جادة في التمثيل مثل أحمد زكي، محمود حميدة، محمود عبد العزيز ونور الشريف، وحضور ممثلات موهوبات مثل يسرا وميرفت أمين وليلى علوي وحنان الترك. هذا واقع مؤسف لسينما رائدة كان استقبالها وما زال حارا من المحيط إلى الخليج.
تشكل قرصنة الفيديو إحدى أخطر مشاكل السينما المصرية، رغم محاولات التصدي لحلها والتغلب عليها بمختلف الوسائل. أدت هذه الظاهرة السلبية إلى انحسار قطاع واسع من الجمهور عن ارتياد صالات العرض، مما أدى إلى تراجع المنتجين عن خوض مغامرات غير مضمونة النتائج، ليفتح ذلك الباب على مصراعيه أمام "تجار الشنطة" أو ما يسمى "منتجي المقاولات".
أدى هذا أيضا إلى تحول بعض المخرجين الذين بدأوا جادين، مثل علي عبد الخالق وإيناس الدغيدي، إلى مجاراة الرائج والاستسلام للتيار، فأضاعوا طموح في البدايات.
فقدت الغالبية العظمى من الأفلام، الطابعين الرومانسي والواقعي اللذين اشتهرت بهما السينما المصرية وضمنا لها جماهيريتها الواسعة في الماضي
وبما أن "الخصخصة" صارت الشعار السائد في أواخر القرن الماضي، انساقت السينما لإلغاء دور القطاع العام في الإنتاج السينمائي. بالمقابل، حاولت وزارة الثقافة المصرية بعض الدعم بتخصيص جوائز في "مهرجان الإسكندرية السينمائي" وجوائز الفيلم المصري وشاركت مصر بكثافة في مهرجاني "دمشق" و"قرطاج" وباقي المهرجانات الدولية وأسابيع الأفلام، خاصة في "معهد العالم العربي" في باريس.
رغم أن الصورة تبدو بمجملها قاتمة، لكن ثمة بصيص أمل، إذ أن بعض المخرجين الأكفاء عملوا من أجل سينما جماهيرية وفنية معا، مثل سمير سيف ونادر جلال وشريف عرفة ورامي إمام وغيرهم. لكن لا بد أن يجد القائمون على أمور الإنتاج حلولا ناجعة لأمراض السينما بهذا الاتجاه، تماما كما فعلت السينما الهندية والسينما الصينية، وحققتا نجاحات عظيمة وصلت إلى العالمية.
نتساءل: لماذا تقلص الغناء والرقص في السينما رغم أنهما الأكثر جلبا للربح الوفير، كما في زمن محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وليلى مراد وأسمهان ومحمد فوزي وشادية وصباح؟
في العقود الماضية نجد قليلا جدا من الأفلام مثل "آيس كريم في جليم" للفنان عمرو دياب، أو "عمرو وسلمى" للفنان تامر حسني. أين الأفلام الكوميدية والتراجيدية الإنسانية الراقية مثل أفلام نجيب الريحاني وأنور وجدي وأمينة رزق ويوسف وهبي وفاتن حمامة وعمر الشريف وعماد حمدي وكمال الشناوي؟ أين الأفلام الميلودرامية التي بدأها حسن الإمام وجلبت دخولا هائلة من شباك التذاكر، ووصلت إلى الذروة مع سعاد حسني وحسين فهمي؟ أين الأفلام البوليسية لنجوم من طراز فريد شوقي ومحمود المليجي، وهي الأكثر جذبا للناس بإثارتها وتشويقها؟
تشكل قرصنة الفيديو إحدى أخطر مشاكل السينما المصرية، رغم محاولات التصدي لحلها والتغلب عليها بمختلف الوسائل
أخيرا، لماذا انحصرت الواقعية الجديدة بأفلام غامضة ومؤسلبة، مثل "الطوق والأسورة" لخيري بشارة و"عرق البلح" لرضوان الكاشف، في حين كانت الواقعية تعني الجماهيرية حتى عصر حسين كمال وداوود عبد السيد؟
هذه أسئلة بحاجة إلى إجابات عملية تحل معظم الخيوط المعقدة لأزمة السينما المصرية، لأنه بارتفاع مستوى الفيلم التجاري تقنيا، لا بد أن يرتفع أيضا مستوى التجريب في السينما الطليعية.
لا شك أن السينما في بعض الأقطار العربية الأخرى غير مصر خطت خطوات حثيثة في زمن مضى، فالفيلم العربي الوحيد الذي نال السعفة الذهبية لمهرجان "كان" ذائع الصيت كان "سنوات الجمر" للجزائري محمد الأخضر حامينا، وبعض الأفلام التونسية كفيلم "صمت القصور" لمفيدة التلاتلي وبعض أفلام نوري بو زيد، حظيت جميعا بسمعة دولية طيبة، وصلت إلى ذروتها بفوز الفيلم الجزائري "الخارجون عن القانون" من إخراج رشيد أبو شارب بأوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام 2010.
الوضع مشابه في أقطار عربية أخرى، كالعراق ولبنان، سواء في البدايات الواقعية أم في المحاولات التجريبية. لكن المشكلة الأساسية التي واجهت تلك "السينمات" العربية هي عجزها عن إيجاد أسواق قومية، وربما عالمية، كما فعلت السينما الهندية والصينية والإيرانية، بل حتى البولندية في شرق أوروبا. مشكلة السينما العربية خارج مصر هي محلية تسويقها التي لا تجعلها تجني أرباحا ولا شهرة كافيتين لتأسيس صناعة سينمائية مزدهرة.
الكاتب : رياض عصمت
19 يوليو 2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق