ثقافة العنف وعدالة الحرب

. . ليست هناك تعليقات:



د. محمد عبد الستار البدري

لن يختلف أي قارئ لروائع الأدبيات العالمية عن ملاحظة تواتر سلوك العنف ومفاهيمه وأشكاله المختلفة، باعتباره أحد أهم معطيات أي عمل أدبي، إضافة إلى جوانب أخرى، منها المال والعاطفة والسياسة، التي تعبر من محركات السلوك البشري بصفة عامة. ألم تزخر روائع شكسبير بكل أنواع العنف وأشكاله المختلفة؟! فمظاهر العنف التي نقترفها أو تُقترف ضدنا تذكرنا بمقولات لماكبث مثل «إن خنجري الحثيث لا يرى الطعنة»، ومع ذلك نجد التيار الغالب من الأدباء والفلاسفة والساسة يستهجنون هذه الثقافة الإنسانية، ألم يقل مارتن لوثر كينج: «إن العنف هو أقصى درجات الضعف، وإن الرد عليه بعنف إنما يضاعف العنف»، بينما قال غاندي الحكيم: «العين بالعين سيجعل العالم ضريراً»، فيما أكد آخر: «إن العنف هو الملاذ الأخير للضعفاء»؟! ومع ذلك فالعنف يظل سلوكاً بشرياً يلازمنا ولا يزال ينتشر في سلوكياتنا المختلفة.

كل هذا يدفعنا للتأكيد على الاعتقاد بوجود ما يمكن أن نسميه «ثقافة العنف»، فهي ظاهرة إنسانية وردت مع بدء الخليقة وفقاً للكتب السماوية المقدسة، وأكدتها العلوم الإنسانية، فالعلماء النفسيون صنفوا العنف بدءاً من «العنف النفسي» الذي يمارس بلا استخدام لوسائل قسرية، صعوداً إلى العنف السلوكي من الفرد إلى الجماعة إلى الدولة، والذي نطلق عليه «الحرب». فوفقاً لمفهوم «مستوى التحليل» في العلوم الاجتماعية، خاصة علم السياسة، فإن العنف متدرج الطابع، وفقاً لمستوى من يقترفه، كما أنه مصنف لأنواع من العنف سواء باستخدام الضرب إلى استخدام السلاح بأنواعه إلى القتل، فإذا ما استبعدنا الأسباب المرتبطة بالعلة النفسية لمقترفه، فإن فلسفة استخدام العنف تكاد تكون متطابقة على كل المستويات، فالفرد أو الدولة يستخدمان العنف لأسباب عدة، سواء في إدارة العلاقات الفردية أو الجماعية، بغرض إذعان الخصم لإرادتنا في أمور ما كان ليفعلها لولا ذلك، وفقاً للتعبير المستخدم في العلوم الاجتماعية.

ومع ذلك، فالشعار العام هو أن العنف مرفوض بكل أشكاله، ولكن يبدو أنه كلما صعد مستوى مُقترفه، كلما قلّ الرفض العام له، فالعنف على المستوى الفردي مرفوض، بل مُجرم، إلا في حالة الدفاع عن النفس، وفقاً للتشريعات الداخلية في كل الدول، ويكون استخدام الدولة له مقصوراً على ضوابط محددة، ولكن هذا يبدو أنه يتغير بنسب متفاوتة، خاصة عندما تلجأ الدولة لاستخدامه أو للاستعداد للحرب، وهنا فإن المعايير الثقافية والأخلاقية والسياسية والقانونية تكون لها الأولوية، خاصة إذا ما بدأت الدولة الاستعداد للعنف أو اللجوء إليه، حماية لشعوبها ومصالحها، وعند هذا الحد تتحول من «ثقافة عنف» إلى عدالة الحرب، ولا سيما مع عدم وجود سلطة مركزية عالمية لحماية الدولة، لأننا نعيش في عالم يسيطر عليه مفهوم «المساعدة الذاتية».

هذا يُدخلنا إلى مخزون ثقافي وسياسي واسع لمفهوم «الحرب العادلة»، الذي تطرق له «أغسطين» في القرن الخامس وطوّره «توما الأكويني» في رائعته الفكرية الدينية «Summa Theologicae» في القرن الثالث عشر، والذي بمقتضاه حاول أن يضع ضوابط لثقافة عدالة الحرب وشروطها وأشكالها، مروراً بالسلوكيات المطلوبة لإدارتها. ولا خلاف أنه تأثر كثيراً بفكر كثير من الفلاسفة الإسلاميين، لأن حقيقة الأمر أن لنا في هذا الأمر جذوراً أكثر مما للغرب ذاته، فالتقدير أن أساس القانون الدولي الإنساني بمشتقاته المعروفة باتفاقيات جنيف الأربع وغيرها إنما ترجع جذورها الحقيقية في التاريخ الإسلامي، من خلال وصايا الرسول - عليه الصلاة والسلام - لسلوكيات الحرب وما تبعها من تطوير.

لقد تطورت ثقافة الحرب العادلة إلى أن باتت عرفاً دولياً، فالدولة المقبلة على حرب عادلة تحتاج إلى معايير محددة، منها وجود هدف عادل وليس في التقدير أهم من عدالة الحق في الحياة والأمن أمام التهديدات الخطيرة، كذلك أن تكون الملاذ الأخير للدولة، فضلاً عن امتلاك النوايا الصحيحة والعادلة والإعلان عنها، وأن تكون الوسائل العسكرية متناسبة مع الهدف حتى لا يتم إلحاق أضرار غير ضرورية بالخصم، وقد تبع ذلك عدد من القواعد الخاصة بالسلوك العادل لاستخدام القوة، ولكن لا توجد أطر أخلاقية حاسمة جامعة تنهي الاختلافات بالنسبة للتطبيقات والتفسيرات لهذه المعايير.


يتذكر المرء ما تقدم، ومعها سخرية «فولتير» من كل ما سبق بجملته الشهيرة: «إن القتل مُحرم، وكل القتلة تجب معاقبتهم إلا إذا قتلوا أعداداً كبيرة أثناء عزف الأنفار لهم» (يقصد الحرب)، وتبعه ماكس ستاينر بمقولته: «تسمي الدولة عنفها قانوناً، ولكن عنف الفرد جريمة». لكن أمام خطورة التحديات الفجة والكوارث المتوقعة التي تواجهنا فإن المرء لا تسعه إلا السخرية من انطباق هذه المقولات علينا، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار أن السخرية الكبرى ستكون من نصيبنا بعد حقب ممتدة، ونحن نورث أبناءنا أمانة وتركة ثقافية وسياسية واقتصادية مهلهلة برتوش أعدائنا، متسترين بشعار الأخلاق الحميدة، لأننا لم نتحرك لحمايتها أمام المخاطر والتهديدات والكوارث التي تستهلكنا وتغيّر من هويتنا.
رحم الله الفيلسوف الروماني العظيم، بابليوس ريناتوس، الذي قال: «إن أردت السلام فاستعد للحرب»!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ابحث في موضوعات الوكالة

برنامج ضروري لضبط الموقع

صفحة المقالات لابرز الكتاب

شبكة الدانة نيوز الرئيسية

اخر اخبار الدانة الاعلامية

إضافة سلايدر الاخبار بالصور الجانبية

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة
تعرف على 12 نوع من الاعشاب توفر لك حياة صحية جميلة سعيدة

روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية

روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية
روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية

احصائية انتشار كورونا حول العالم لحظة بلحظة

احصائية انتشار كورونا حول العالم لحظة بلحظة
بالتفصيل لكل دول العالم - احصائيات انتشار كورونا لحظة بلحظة

مدينة اللد الفلسطينيةى - تاريخ وحاضر مشرف

الاكثر قراءة

تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

-----تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

الاخبار الرئيسية المتحركة

حكيم الاعلام الجديد

https://www.flickr.com/photos/125909665@N04/ 
حكيم الاعلام الجديد

اعلن معنا



تابعنا على الفيسبوك

------------- - - يسعدنا اعجابكم بصفحتنا يشرفنا متابعتكم لنا

جريدة الارادة


أتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الارشيف

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام
الانستغرام

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة
مؤسستنا الرائدة في عالم الخدمات الاعلامية والعلاقات العامة ةالتمويل ودراسات الجدوى ةتقييم المشاريع

خدمات نيو سيرفيس

خدمات رائدة تقدمها مؤسسة نيو سيرفيس سنتر ---
مؤسسة نيوسيرفيس سنتر ترحب بكم 

خدماتنا ** خدماتنا ** خدماتنا 

اولا : تمويل المشاريع الكبرى في جميع الدول العربية والعالم 

ثانيا : تسويق وترويج واشهار شركاتكم ومؤسساتكم واعمالكم 

ثالثا : تقديم خدمة العلاقات العامة والاعلام للمؤسسات والافراد

رابعا : تقديم خدمة دراسات الجدوى من خلال التعاون مع مؤسسات صديقة

خامسا : تنظيم الحملات الاعلانية 

سادسا: توفير الخبرات من الموظفين في مختلف المجالات 

نرحب بكم اجمل ترحيب 
الاتصال واتس اب / ماسنجر / فايبر : هاتف 94003878 - 965
 
او الاتصال على البريد الالكتروني 
danaegenvy9090@gmail.com
 
اضغط هنا لمزيد من المعلومات 

اعلن معنا

اعلان سيارات

اعلن معنا

اعلن معنا
معنا تصل لجمهورك
?max-results=7"> سلايدر الصور والاخبار الرئيسي
');
" });

سلايدر الصور الرئيسي

المقالات الشائعة