الواقعي والأسطوري في الثقافة الشعبية مقاربة أنثروبولوجية ثقافية من جنوب المغرب
أ.د. محمد جودات
أستاذ بجامعة محمد الخامس – المغرب
الواقعي والأسطوري في الثقافة الشعبية
وهما مفاعلان أساسيان يتم التعامل معهما غالبا دون محاولة تفكيك اشتغالهما ضمن ميكانيزمات معقدة؛ تهدف من خلالهما بنية الحكي الشعبي تورية وتمرير كثير من القيم التي تبنيها؛ باعتبار الإبداع الشعبي لا يتصف فقط بالإبداعية كما يعتقد كثير من الباحثين؛ بقدر ما يتصف بالكشف عن عوالم أنثروبولوجية ثقافية؛ تهدف إلى ببناء القيم والتنشئة الاجتماعية؛ وتأثيث الذاكرة الجماعية مع كل ما يحافظ على بقائها واستمرارها؛ من هنا اهتمام المستعمر بدراسة الموروث الشعبي دون الكتابات الرسمية والعالمة، لأنها مخزون الذاكرة التي تتمرأى من خلالها القيم وطرق التفكير، ولأنها الكفيلة أساسا أن تكون المدخل الموضوعي لفهم الشعوب المدروسة(1).
من هذا المنطلق تسعى هذه الدراسة إلى رصد مكوننين أساسيين في الأدب الشعبي من خلال نصوص عملية مأخوذة من سياق ثقافي حكائي قوي؛ ومستمر في التحول ضمن بنية مجتمعية هي هنا جنوب المغرب؛ لمحاولة تتبع ميكانيزماتها في بناء القيم والذاكرة الجماعية.
بهذا المحمول المفاهيمي تحاول هذه الورقة مقاربة وجهين أساسين من وجوه هذه الإبداعية، وتُحدد المجال النصي الذي تقترحه في:
امتصاص الأسطوري التخييلي:
وذلك بتحليل نص أسطوري مغربي «حمو أونمير»؛ نموذجا للأسطوري الذي ترويه عدة قبائل مغربية محكيا أو مغنى.
امتصاص اليومي والواقعي:
وذلك عبر مقاربة نماذج من الشعر الشعبي المغربي المغنى؛ الذي كان سببا في اندلاع الثورة ضد المستعمر؛ باعتبارها نماذج نصية للواقعي في الأدب الشعبي.
وهي نصوص تبرز آليتين نصيتين جديرتين بالمتابعة والتحليل لفهم ميكانيزمات الإبداع الشعبي.
امتصاص الأسطوري التخييلي:
إن الثقافة الشعبية عموما مليئة بالأساطير والحكايات الشعبية السائرة(2)والمتداولة على أشكال مختلفة أو متحدة في بعض الأحيان. وهذه ظاهرة جديرة بالمتابعة والتحليل مادامت الأصناف الحكائية نفسها مثارا للعديد من الدراسات والبحوث في العالم كله. ثم إن البحث في هذه النصوص هو بالتأكيد بحث في الهوية والبنية المجتمعية التي تتوحد وتشترك فيها مجموعة كبيرة من التخصصات المعرفية من لسانيات (سوسيولسانية وبسيكولسانية) واجتماعية وأنثروبولوجية، لكن الجانب الأهم الذي لا يستطيع الباحث الإفلات منه هو مجال الأنثروبولوجيا.
لذلك وقبل العبور إلى التعالقات النصيةالتي تصاحب الموروث الشعبي الشفهي: حكاية شعبية وأسطورية وغيرها؛ لابد من الإشارة إلى إشكالية تعريف المفاهيم،لأن تحديدها أمر لا مفر منه بدءا بحد وماهية المفهوم نفسه ومرورا بمجال الاشتغال عليه.
1 - مأزق التعريف/معبر لا محيد عنه :
أ - الأنثروبولوجيا عملا إشكاليا :
ترتبط الأنثربولوجيا غالبا بالشعوب البدائية، فكلود ليفي ستراوس يرى أن “الأنثروبولوجيا ولدت ضمن صيرورة تاريخية تم خلالها استبعاد القسم الأكبر من البشر بواسطة قسم آخر» ويعتبر «أن الأنثروبولوجيا هي ابنة عصر العنف، وهي إذا ما كانت قادرة على التعاطي موضوعيا مع بعض الظواهر الإنسانية فهي مدينة بهذه الميزة المعرفية إلى حالة من الواقع ادعى فيه قسم من البشرية حق معالجة (الآخر) كموضوع، كشيء”(3).
فهذا التحديد طرح إشكالا لماهية هذا العلم باعتباره معرفة انتقائية تستبعد قسما من البشر وتركز الاهتمام على «آخر»، وهو علم أنتجته ضرورة معينة، وكأنه بهذه الصفة يفقد خصيصة «إبيستيمولوجية» من خصائص المعرفة العلمية، ثم هي مشكوك في قدرتها (بدليل عبارة «إذ لو كانت قادرة… موضوعيا») فذلك راجع إلى شروط إمكان ماضية في زمن مضى، ثم هي تجرد الموضوع المدروس من بشريته وتعتبره آخرا وشيئا والنص يستطيع أن ينطق (إذا توفرت شروط معرفية عميقة بالعمل الستراوسي) ويكشف ما هو أبعد من هذه القراءة الأفقية.
وهناك رأي آخر أكثر شيوعا وهو مضمن جزئيا في هذه الترسيمة العامة لليفي ستراوس، وهي كون الأنثروبولوجيا تشتغل على المجتمعات البدائية و«بينما يتعامل عالم الاجتماع مع المجتمعات المعقدة الحديثة (الثانوية) يحصر عالم الأنتروبولوجيا اهتمامه بالمجتمعات غير المعقدة (الأولية)»(4). فهذا الطرح يجعل علم الاجتماع في مقابل علم الأنثربولوجيا من حيث مجال الاشتغال، وهو طرح شائع. وتجدر الإشارة إلى أن بعض الدراسات الأمبريالية والاستعمارية قد استعملته بشكل مماثل في دراسة الشعوب المستهدفة، ومن منطلقات عنصرية في هذا السياق غير المعرفي أيضا؛ والهادف إلى نوايا استعمارية، و«لتسهيل عملية الاتصال بالزعماء وحكم العامة، وأنشئ معهد عال للغة العربية والبربرية في الرباط سنة 1914، وصدر قرار مقيمي سنة 1915 بتأليف لجنة خاصة للأبحاث البربرية هدفها جمع الأبحاث المتعلقة بالقبائل من جميع أطراف المغرب، واستخراج نتائج عملية من هذه الأبحاث تساعد فرنسا على تنظيم هذه القبائل وإدارتها بشكل يتفق مع المصلحة الفرنسية»(5)فإنشاء هذه المعاهد وأمثالها كان لغاية غير معرفية بل استعمارية تبحث في القبائل، وترجو من وراء ذلك «نتائج عملية» تفيد العملية الأساسية وهي السيطرة والاستعمار و«المصلحة الفرنسية»، الشيء الذي جعل الموقف من هذه المعارف يمشي في هذا الاتجاه. ومن وجهة نظر الاستعمار في علاقته بهؤلاء المشتغلين في ميادين البحث أو بالأحرى المكلفين بهذه المهام يقول اليوطي: “فالمخزن محظوظ، الزعماء التاريخيون والباشوات يلتفون حوله كما لو كان تاجا مرصعا بالجواهر الثمينة، وتعلمون جميعا مدى الحذر الذي بمقتضاه نتصل دائما بهؤلاء، حيث مازالت الأصول والرتب الوظيفية محفوظة ومحترمة وحيث الناس والأشياء باقية على أحوالها القديمة، وحيث الرؤساء التقليديون يحكمون ويطيع الآخرون”.(6)
لا يهمنا في عرض هذه الوثيقة علاقة السلطة الاستعمارية ونظرتها إلى المستعمر أو طرق الاختفاء والتنكر والسبل التي يستعملها المكلفون بمهام هذه الدراسات أو أهدافها، فكل ذلك بات واضحا في الدراسات التي تشتغل على مراحل الاستعمار بالمغرب أو غيره في العالم العربي، لكن ما يهم هنا هو هذه العلاقة التي للبحث الأنثروبولوجي أو نموذج منه مع السلطة الاستعمارية، وهو موقع الشاهد الذي جعل لهذا الفهم مشروعيته في التصنيف. على أن لتوجهات أخرى في تصنيف هذا العلم أهميتها ومبرراتها، من هذا المنطلق يذهب فوزي رضوان العربي (أستاذ الأنثروبولوجيا التطبيقية بجامعة الإسكندرية) إلى أنه “كان يعتقد فيما مضى أنها (الأنثروبولوجيا) تقتصر على دراسة المجتمع البدائي، ولكن ثبت الآن خطأ هذا الاعتقاد، فالأنثروبولوجيا تهتم بجميع المجتمعات، سواء البدائية منها أو الحديثة، بل إن بعض الأبحاث الأنثروبولوجيا تدرس الآن المحلات التجارية الكبرى”.(7)
ويذهب - في إطار كرونولوجيا تأصيل هذا العلم - إلى أن العلماء العرب الأوائل قد أسهموا هم أيضا في الدراسات الأنثروبولوجية أمثال البيروني في كتابه عن الهند، واعتبره الباحث من “أوائل الكتب الأنثروبولوجية العربية لأنه يعطينا صورة واضحة ومتكاملة عن الهند ونظمها الاجتماعية والعادات والتقاليد السائدة”.(8)
بطبيعة الحال فهذا التحديد هو تحديد إطلاقي وعمومي ويحتاج إلى ضبط إبيستيمولوجي يقيد مجال المعرفة في علم الأنثروبولوجيا، والباحث في هذه الإطلاقية يعتقد أنه يصف الأنثروبولوجيا بمواصفات إيجابية في الوقت الذي يخرجها فيه من المعنى الحقيقي للمعرفة العلمية، ويدخلها في المعارف قبل - العلمية التي لا تهتم «بمعرفة الحدود التي تقف عندها هذه المعرفة، لتترك المجال بعد تلك الحدود لمعرفة أسمى هي المعرفة الميتافيزيقية»(9) التي تبحث في كل شيء وتزعم العمومية، ثم إن القفز بهذا المفهوم الحديث وإسقاطه على الثقافة العربية القديمة ضرب أيضا من التعميم الذي تحدث عنه غاستون باشلار. لكن هذا التعريف له أهمية في إطار عدم التصنيف الضيق للأنثروبولوجيا في خانة الاشتغال على المجتمعات البدائية.
وحتى لا نقفز على مسألة التعريف التي وصفناها منذ البدء بالمأزق نورد ما تذهب إليه Annette Weiner وهي من الأنتروبولوجيين المعاصرين من تقديم «منظور جديد لفهم الدور الحيوي الذي تقوم به الأنتروبولوجيا في خدمة قضايا المجتمع، ودراستها لحظة التحول والتغيرات السريعة الحادة والفجائية التي تطرأ على النظام. وبهذا تسهم في تشخيص المشكلات بطريقة متعمقة، قد تمكن من تقديم الطرق للمعالجة.
وتدرس الأنثروبولوجيا الظواهر على المستوى الجزئي، من خلال تقديم شبكة من المعلومات المفصلة، تحللها عدة متغيرات تربطها بالمنظور الكلي المتعلق بالتحولات والتغيرات التي تطرأ على النسق المحلي ونسق المجتمع العام»(10).فهذا التعريف يوضح بصورة جلية دور هذا العلم في علاقته بالمجتمع، كما يحدد موضوع الاشتغال الذي هو المجتمع ذاته دون تمييز أو هدف غير معرفي، كما يركز على طبيعة العمل باعتباره يلامس لحظات التحول التي تشهدها المجتمعات البشرية باعتبارها لحظات تغير ملامح التنظيم المجتمعي، ثم هي معرفة تشترك في كثير من ملامحها مع علم الاجتماع من حيث «تشخيص المشكلات وتقديم الطرق للمعالجة»، فهذه الصفة تجعل الأنثروبولوجيا في حالة تعالق إلزامي مع علم الاجتماع، ذلك أن “دراسة الثقافة في البحوث الأنثروبولوجية تمثل إسهاما في حد ذاته، إذ لا يمكن فهم أية ظاهرة اجتماعية، دون فهم السياق الثقافي الذي ينظم القواعد السلوكية وربط ذلك السياق بالمتغيرات الكلية، لذا فإن الثقافة تعد محورا هاما في الدراسات الاجتماعية”.(11)
ب - الأنثروبولوجيا الثقافية:
يعتبر الأنثروبولوجيون الأمريكيون وعلى رأسهم مارغاريت ميد أن مجال اشتغال هذا العلم هو «دراسة الإنسان من الناحيتين العضوية والثقافية على حد سواء» و«يستخدمون مصطلح الأنثروبولوجيا الثقافية ليعني مجموع التخصصات التي تدرس النواحي الاجتماعية والثقافية لحياة الإنسان. يدخل في ذلك الدراسات التي تتعلق بحياة الإنسان القديم (أو حضارات ما قبل التاريخ)، والتي يشار إليها بعلم الأركيولوجيا»(12).
و«تتناول الأنثروبولوجيا الثقافية كذلك دراسة لغات الشعوب البدائية، واللهجات المحلية، والتأثيرات المتبادلة بين اللغة والثقافة بصفة عامة» (13) .
ولا يمكن فصل هذه المجالات عن حقلين دراسيين هما الإثنولوجيا والإثنوغرافيا، «وبالرغم من التداخل بين المصطلحين، إلا أن مصطلح الإثنوغرافيا يعني الدراسة الوصفية لأسلوب الحياة ومجموعة التقاليد؛ والعادات والقيم؛ والأدوات والفنون؛ والمأثورات الشعبية لدى جماعة معينة؛ أو مجتمع معين؛ خلال فترة زمنية محددة. أما الإثنولوجيا فتهتم بالدراسة التحليلية؛ والمقارنة للمادة الإثنوغرافية، بهدف الوصول إلى تصورات نظرية أو تعميمات بصدد مختلف النظم الاجتماعية الإنسانية، من حيث أصولها وتطورها وتنوعها. وبهذا تشكل الإثنوغرافيا قاعدة أساسية لعمل الباحث الإثنولوجي، فالإثنوغرافيا والإثنولوجيا مرتبطتان إذن وتكمل الواحدة الأخرى (14).
علـــــما أن «مــــــا يــــدرجــــه الأمـــــريكـــــيـون تــحــــــت عــــــبارة الأنثروبولوجيا الثقافية يصطلح الفرنسيون على الإشارة إليه بالإثنولوجيا؛ أو الإثنوغرافيا في بعض الأحيان؛ وهم يدرسونها تحت مظلة علم الاجتماع. أما الإنجليز؛ فقد اختاروا تسمية أخرى؛ وهي الأنثروبولوجيا الاجتماعية، ونظروا إليها باعتبارها علما قائما بذاته؛ لا يندرج تحته أي من الأركيولوجيا أو اللغويات مثلا» (15).
لن ندخل في التفصيلات الدراسية والاختلافات النمهجية المعضدة لهذا التصور أو المخالفة له؛ فهذا مجال دراسات عديدة، ولكن هذا التوجه يسمح بالإشارة إلى أن كثيرا من الدراسات التي تتخذ لها النص الشفوي مجالا للدراسة تدخل في صميم الدراسات الأنثروبولوجية الثقافية؛ باعتبارالإنسان ظاهرة ثقافية كما تشير إلى ذلك دراسات حديثة في هذا المجال(16)، معتمدة على تحديد مفهوم الثقافة ومسارات تحديد حقولها وعلاقات «اكتسابها» أو «مصالحة الإنسان» مع واقعها؛ بما تشكل من دلالات مركزية ومؤسِسة في الأنثروبولوجيا الثقافية من حيث تحديد مسار الاشتغال(17).
2 - نموذج من الشفوي الأسطوري بالمغرب:
الشفوي ملتصق بالحياة اليومية ومبدع داخل ذاكرة مشتركة مع المتلقي، يمتص من المحيط الذي ينتجه الوسط الشعبي، والذاكرة الشعبية ميالة إلى الاستراحة من الحقيقي والواقعي، وتخلق في آن واحد مهربا تخيليا فوق - واقعي «يتجسدن» في الأسطورة والحكاية والسير وكل الأشكال التي تتمتع بصفة الإبداعية التخييلية(18)، هكذا يحدد الراوي - مادام يوصف بصفة الشعبية- «امتصاصاته»(19) من المشترك الخرافي الذي تؤسسه ثقافة الروايات الشعبية بجميع أصنافها.
هكذا يتقدم «نسق» حكائي هو الحكاية الشعبية(20) نحو الناس بهدف بناء القيم؛ ولكن في قوالب لا تفصح عن أهدافها.
أ - النص الشعبي وتناصاته الأنساقية/ الأسطورة:
كان ضروريا إذن قبل العبور إلى عالم المحكي الأسطوري الإشارة إلى هذه المعرفة التي تحيط بها، والحقيقة أن عالم المحكي الأسطوري عموما غني ومتعدد ويمكن أن تكتب فيه دراسات متخصصة. وهو بما يمثل من حضور وفي الحياة اليومية(21)ونحن هنا نقتصر - حسب ما تسمح به المداخلة- على بعض النماذج النصية التي حضرت فيولكن كنصوص تحضر في الذاكرة الجماعية أولا(22). وتؤسس علاقاتها مع الموروث الثقافي بكل محمولاته عبر ميكانيزمات تناصية أنساقية كما سيتضح.
إن القصص والأساطير هي قبل كل شيء نتائج البيئة والعلاقات الاجتماعية التي نشأت فيها: إنها إبداع شعبي، عضوي غالبا، يعبر عن طرائق العمل والتفكير والشعور، ويقوم بتثبيت المنظومة الفكرية والاجتماعية والمحافظة عليها»(23)من هذا المنطلق اعتبرنا العلاقة مع المحكي الأسطوري تناصا انساقيا مع نص علوي، ولم ندخل هذا النموذج من العلاقات مع تصنيف التناص الإبداعي الذي تبنيه النصوص المكتوبة عموما مع النصوص المكتوبة الأخرى أو الشفوية فتحولها(24)في إنتاجية خاصة تخرج عن سلطة المتلقي كمنتج أول ومجتمعي.
ب - القصة الأسطورة «أحمد أو/ حمو ءونامير(25):
يندرج اختيارنا لهذه القصة الأسطورة ضمن تناصها كنسق أسطوري صاغت كثيرا من المحكيات الشعبية في أشكال متعددة تضم الغنائي والمحكي؛ وتتعدد مظاهر صياغتها من قبيلة إلى أخرى.
“تخبرنا أسطورة «حمو ءونامير» أن طفلا جميلا جدا، كان وحيد أمه وكان يتردد على الكتاب حيث يلاحظ الفقيه - كلما هم الأول برفع لوحته لاستذكار ما حفظه من القرآن أمام الفقيه- أن يدي «حمو ءونامير» موشومتان بالحناء، فيوبخه ويستفسره عمن يخضب يديه بالحناء. فيجيبه ءونامير أنه لا يدري وأنه كلما استيقظ من نومه يجدها كذلك، فنصحه الفقيه بأن يتظاهر بالنوم ليلا، وحينما يشعر بوجود أحد يمسك يده فعليه أن يقبض عليه. إنها «تانيرت»(26)هي التي تقوم بذلك. عليه أن يطالبها بالزواج به، وذلك ما حصل بالفعل بعد أن اشترطت عليه أن يبني لها بيتا من سبع حجرات يوصل كل باب منها إلى باب الحجرة الأخرى وتكون أبوابها مصنوعة من حديد وتغلق كما تفتح كلها بمفتاح واحد. كما اشترطت عليه أن لا يطلع عليها أهله قبل أن تلد. وهذا ما حاول احترامه بعد أن طلب من أمه أن تهيء له وقت كل وجبة وجبتين منذ أن تزوج بها، لكن حدث أن سافر من أجل اقتناص وصيد غزال يلبي به آخر شهوة، فسعت أمه بإيعاز من نساء القرية بواسطة الدجاج أو الخادمة(27)إلى الاطلاع على زوجة ابنها «حمو ءونامير”.
وفعلا حصلت على مبتغاها، نتج عنه شتم وسب «تانيرت» التي تأثرت تأثيرا كبيرا لذلك الشتم، والسباب…
ولما عاد «ءونامير» وجد الحجرات مملوءة ماء يتدرج علوه شيئا فشيئا بقدر ما يقترب من الحجرة السابعة حيث توجد «تانيرت».
ولما وصل عندها، بدأت تعاتبه على عدم التزامه بالشروط التي اشترطتها عليه، فطلبت منه أن يشق لها في السقف شقة صغيرة تستطيع من خلالها أن تتنفس، نظرا لضيق التنفس الذي تشعر به، وما كاد يفعل – بعد أن قبل أن يقوم بشق فتحة ضيقة جدا - حتى تحولت «تانيرت» إلى حمامة. وأثناء محاولته القبض عليها انفلتت من يده تاركة له فيها خاتما. وقرر «حمو ءونامير» أن يهيم على وجهه ويفارق أهله بحثا عن حل للالتحاق بها في السماء.
حين التحق «حمو ءونامير» بتانيرت في «السماء» اشترطت عليه أن يقوم بما يشاء في قصر زوجها الثاني، بعد أن احتكما هو وزوج «تانيرت» إلى قاض بصدد ابنه الذي ينسبه كل منهما إلى نفسه. وكانت النتيجة أنتم إثبات نسبه إلى «حمو ءونامير».
وهكذا أصبح «حمو ءونامير» أحد أفراد تلك العائلة «السماوية» يحصل على كل ما يفتقر إليه إلا إمكانية أو محاولة مخالفة المنع المتعلق بعدم الاطلاع على ما تحت حجر القصر.
وحدث أن عزم يوما على الاطلاع على ما تحت الحجر. ولم يكد يزيح الحجر حتى أبصر من خلال كوة أو ثقب أمه في الأرض تناديه وتستفسر عن غيابه خاصة وأن اليوم عيد الأضحى، لا من يذبح لها الأضحية(28) فبدأ يناديها لكنها لا تسمعه، وألقى إليها بخنجره، لكن هذا الأخير لم يصل. وبعد محاولات كثيرة ومتنوعة لتحقيق التواصل بينهما فشل على أثرها كلها، ألقى بنفسه، لكنه تفكك وتمزق بين السماء والأرض ولم تصل إلا قطرة واحدة من دمه ذبحت كبش الأضحية واستعادت بها أمه بصرها، لكن حمو ءونامير تفكك بين السماء والأرض فلم يبق لا مع زوجته وابنه ولم يلحق «ءونامير» بالأرض رغم أن كثيرا من الرواة يشيرون إلى آثار أو مناطق تدل على آثار سقوط «حمو ءونامير» بها(29).
- حمو ءونامير ودلالات التناص الأسطوري(30):
يقول «باتريس دولاتور دوبان» بأن “الشعب الذي لا أساطير له يموت من البرد”(31)، والبحث في شجرة نسب هذه الكلمة يحيل على مجالات عديدة ومتداخلة، قديمة وحديثة، فـ “كلمة أساطير قد جاءت من السطر وهو الخط والكتابة، وجمعه أسطار كما هو الحال في سبب وأسباب وجمع الجمع أساطير. ونعثر على أول استخدام للكلمة في القرآن الكريم، حيث جاء في سورة الفرقان الآية 5 قوله تعالى:} وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا {، وهنا إشارة إلى اتهام المشركين للنبي باستلهامه قصص الأولين المكتوبة”(32)“وكلمة Myth في الإنجليزية والفرنسية وغيرها، مشتقة من الأصل اليوناني Muthas وتعني قصة أو حكاية. وكان أفلاطون أول من استعمل تعيبره Muthologia للدلالة على فن رواية القصص، وبشكل خاص ذلك النوع الذي ندعوه اليوم بالأساطير، ومنه جاء تعبير Mythology المستخدم في اللغات الأوروبية الحديثة”.(33)
والحقيقة أن شجرة النسب هذه التي نسعى إلى دخول المصطلح من خلالها قد تكون أحيانا حاملة لترسيبات غير علمية حين تدخل في البحث عن الأصل وأول من استعمل، ذلك أن هناك فروقا شاسعة بين القصة والحكاية والأسطورة ولو من حيث مآل تدقيق المصطلح وتعقده فيما بعد دلالة الأصل والاشتقاق. كما أن الجزم في أول مستعمل للتعبير أمر بالغ الخطورة، لأنه يدخل العمل في أسطورة البحث عن الأصل ووهمه، وهل الأساطير كما ندعوها اليوم هي حقا ما كان يسمى «فن رواية القصص».(34)
تلك إذن متاهة تجنبها أحسن من الخوض فيها لسبب معرفي إبيستيولوجي هو المنهج ذاته. وهو نفسه الدافع إلى الدراسة من الداخل والانطلاق من النص.
إن هذا النص ينتمي إلى الأسطورة «كشكل من أشكال الأدب الرفيع»(35) لأنها تتمتع بصفات «تحكمها قواعد السرد القصصي من حبكة وعقدة وشخصيات وما إليها»(36).فالنص/أسطورة حمو ءونامير ليست مجردة من بنية النص القصصي والأسطوري التي تحكم وتؤسسله داخل سياق إبداعي. وهي أيضا “قصة تقليدية، بمعنى أنها تحافظ على ثبات نسبي، وتتناقلها الأجيال بنصها(37) هنا يمكن الرجوع إلى «جدول مختلف روايات حمو ءونامير» كما حددها الحسين أيت باحسين في دراسته السابق ذكرها ضمن «الثقافة الشعبية بين المحلي والوطني”(38)، فالقصة الأسطورة تتناقلها روايات عدة مناطق جنوب المغرب مثل أنتيفة وتزنيت دمنات ومزوضة وإمنتانوت وطاطا…(انظر ميتوغرافية حمو ءونامير ضمن الدراسة المشار إليها).
إن أسطورة حمو ءونامير ليس لها زمن. إنها تحكى مجردة من الزمن، وتدخل في زمنها الخاص، زمن الطفل وعلاقته بأمه وبالفقيه، وهذا الزمن نفسه ليس محدودا في قصة بل يتعداها إلى زمن عام يجسد مضمون القيم الذي يسيطر على الأساطير عادة. فـ«ليس للأسطورة زمن؛ أي أنها لا تقص عن حدث جرى في الماضي وانتهى، بل عن حدث ذي حضور دائم»(39) وسيظهر هذا من خلال تجريد القيم في النص كما سنوضح، من خلال ما نقترحه من قراءة حسب المنهج الذي نشتغل عليه، وبعيدا عن أي إسقاط مفاهيمي ينطلق من عقدة إلباس النص بلباس عقدة أوديب أو أي أسطورة يونانية أو غيرها(40)،الشيء الذي يترتب عليه الإسراع إلى إقرار خلاصات تجعل من «حمو ءونامير» هوية متأزمة بنفس الأزمة التي تؤرق «أوديب» فرويد رغم تباين ظروف كل واحد منهما»(41).أو تجعل من النص الأسطوري نسخة من نصوص عالمية أخرى، يكتفي فيها الباحثون بوضع اسم الأسطورة موضع آخر، واستخلاص نفس النتائج.
والحقيقة أن لكل نص – رغم بعض ثوابت الحكي والزمن – بصماته التي تتمرأى في علاقتها بمنتجها مجهول التحديد ومعروف الذاكرة في آن، لأنه «لا يعرف للأسطورة مؤلف معين، لأنها ليست نتاج خيال فردي، بل ظاهرة جمعية يخلقها الخيال المشترك للجماعة وعواطفها وتأملاتها»(42) كما يقول فراس السواح، وهو نفس التصور الذي ينطلق منه في مؤلفه (دين الإنسان) سابق الذكر، حيث يعبر عن هذه الظاهرة بنفس الطريقة لكنه يضيف طرح مسألة بالغة الأهمية في نفس الوقت، حيث يقول أنه “لا يعرف للأسطورة مؤلف معين لأنها ليست نتاج خيال فردي أو حكمة شخص بعينه، بل إنها ظاهرة جمعية تعبر عن تأملات الجماعة وحكمتها وخلاصة ثقافتها، ولا يمنع هذا الطابع الجمعي أن يقوم الأفراد بإعادة صياغة الحكايات الأسطورية وفق صنعة أدبية تتماشى وروح عصرهم”(43) فقصة حمو ءونامير خضعت لإعادة الإنتاج والصياغة حسب المناطق كما رأينا. وخضعت لعملية إعادة الصياغة التي يشير إليها الباحث حسب مقتضيات المقام الإبداعي، والنص الذي نحن بصدده (حمو ءونامير) يدخل في هذا السياق = صياغة الحكاية الأسطورية وفق صنعة أدبية هي ه حكائية أوشعرية يحبها المتلقي وتؤثر فيه بشكل ملفت للانتباه، قل نظيره في مجتمعات أخرى.
هذه الملاحظة تؤلف بين نماذج وأجناس أدبية قلما تجتمع في صياغة ما، فالعملية تضم تداخل الحكاية والأسطورة وصنعة أدبية أخرى في هذا النص الذي نحن بصدده .
إن حمو ءونامير أسطورة حكاية، وليست أسطورة بالمفهوم العام للأسطورة كما هو الحال في أسطورة الخلق والأساطير البابلية واليونانية وغيرها والتي تتمتع بصفة الحقيقة الإلهية في ذهن مبدعيها.
من أجل ذلك فإنه ليس من الضروري أن “يلعب الآلهة وأنصاف الآلهة الأدوار الرئيسية في الأسطورة”(44) الحكائية من هذا النوع الذي نشتغل عليه، وهو التميز الذي يخرج مثل هذه النماذج من التصنيف العام الذي يقدمه السواح وغيره من الباحثين الذين يشتغلون على النصوص الأسطورية، والحقيقة أن طبيعة تلك النصوص يكون فيها ظهور الإنسان على مسرح الأحداث مكملا وغير رئيسي، فاسحا المجال للآلهة وأنصاف الآلهة(45) وهذا تفسره اعتبارات ثقافية أخرى ، منها حضور البعد الثقافي الإسلامي الذي يعيد إنتاج المفاعلات المكونة للنص الأسطوري نفسه. وهذا البعد يجعل النص محتفظا بطابع «الجدية والشمولية» التي تطبع باقي النصوص الأسطورية عموما، على ألا يكون الموضوع بالضرورة هو «الخلق والتكوين» وغيره من المواضيع الأساسية في الأسطورة عموما. لأن الإبدال الثقافي الإسلامي يمركز قيما أخرى ويجعلها مفاعلات أساسية ومركزية في النصوص الأسطورية من هذا النوع الذي نشتغل عليه. (وتجدر الإشارة إلى أن هذا البعد مغيب عند الباحثين المغاربة الذين اشتغلوا على نص حمو ءونامير بحكم سلطة النموذج الغربي وإسقاطه)(46) فالتميز الذي يطبع الأسطورة عموما باعتبارها تحمل «موضوعات جدية وشمولية»(47)، هو نفس تميز الحكاية الأسطورية التي نقاربها، لكن القيمة التي تحرك النص ليست هي القيمة الأسطورية العامة التي تطبع الأساطير عادة، لأن البعد الإسلامي عند الذاكرة الجمعية يملكُ قدرةَ مَركَزة القيم حسب منظومته.
ج - قراءة في أسطورية النص:
تتقدم هذه القصة(48) الحكاية نحو متلقيها كنص أسطوري تخضب فيه يد الطفل حمو ءونامير بالحناء دون علمه، وبفعل قوة أخرى غير إنسانية “بمعنى غير بشرية وليس بمعنى لا إنسانية”، ويتم الزواج حسب طقوس هذه الأسطورة من جنية أو ملاك حسب اختلاف الروايات، وبمهر يختلف عن طقوس الزواج العادي/غزال. وتتحول الزوجة إلى حمامة، وهي دلالة أسطورية، ثم إن الفضاء لا يقتصر على الأرض بل يمتد إلى السماء.
- أسطورية النص :
![]()
- أسلمة الأسطورة:
تطل من داخل النص شبكة نصية ومفاهيمية تطبع النص وتؤطره ضمن فسيفساء (والإحالة على المصطلح التناصي ضمن ما أوردناه طبعا) إسلامية بامتياز: وتتكون هذه الشبكة من الكتاب - الفقيه – حفظ القرءان – بر الوالدين .. على أن هناك مرجعيات إسلامية إحالية تتمركز على الإحالة عوض الكلمة، ويمكن تأكيد ذلك من خلال هذه الترسيمة:
- أسلمة الأسطورة :
![]()
إن هذه الشبكة النصية والإحالات المفاهيمية التي يحملها النص، تفصح عن مرجعيتها الإسلامية دون عناء من متلقيها، وفك رموزها؛ أولا لأنها تنطلق من مسرح أحداث واقعي وإسلامي يضع مشهد الفقيه في الكتاب وتساؤله عن خصوصيات المفاعل الأساسي في الأسطورة (الحناء في يديه) ويقترح عليه حلا لمعرفة مصدر هذه الحناء.
ثم تتقدم الأم بسلطتها المزدوجة “الأم كمرجعية إسلامية تستلزم الطاعة – والأم كمرجعية تقليدية سنرجع إلى تحديدها”، ثم تظهر في مسرح الأحداث نسوة القرية في مقابل نسوة المدينة في سورة يوسف، وتلك دلالة جماعية تفيد سلطة الذاكرة الجماعية في مسرح الأحداث وقوة التأثير فيه، في مقابل الفردانية التي ترفضها دلالة الطاعة لرغبة الوالدين.
وفي نهاية الأسطورة يأتي البعد الديني الذي يحمل مفهوم الطاعة إلى أبعد مصدر ديني مع إبراهيم عليه السلام (والقصة معروفة في الذاكرة الإسلامية الشعبية تزكيها شعيرة الأضحية كل عام).
وحتى نهاية الحبكة الأسطورية جاءت محملة بدلالة حل قرءاني وإعجازي وغرائبي هو أن دم حمو ءونامير سيكون معجزة ترد إلى الوالدة بصرها، كما يرتد أب يوسف/يعقوب عليه السلام بصيرا بعد أن شم رائحة قميص ابنه يوسف.
ويمكن أن يعبر عن ذلك بالترسيمة التالية:
- الأسطورة وظلالها:
![]()
- خرق الأسطورة في حمو ءونامير:
إن التقطيع المكاني للنص كنص فوق واقعي يحيل منذ الوهلة الأولى وقبل أي تحليل قيمي أو نصي إلى أمكنة مختلفة ومتقابلة، ففضاء الأرض كان مسرح الأحداث ومنطلقها في آن واحد، وفضاء الأرض أيضا كان محل التحول بامتياز: تحول الزوجة إلى حمامة تطير في السماء، والتحاق الزوج حمو ءونامير بزوجته وعشيقته كان تحولا من الأرض إلى السماء، ومن السماء إلى الأرض أيضا رحيلا إلى الأم. وحتى تتضح هذه الصورة يمكن رصدها على هذا الشكل في علاقة المكان بالتحول والثبات في الترسيمة التالية:
- التقطيع المكاني للنص:
![]()
إن الأرض في هذه الحكاية الأسطورية كانت منطلق الأحداث ومسرحها، لذلك سميناها في هذه الترسيمة مكان الثبات، وهي أيضا كانت منطلق الأحداث ومصيرها. حيث ينطلق منها حمو ءونامير ليعود إليها قطرة دم/ويختزل فيها كرمز وكحل لعقدة الحبكة النهائية في النص. والسماء شكلت بالنسبة للمفاعل المركزي/حمو نقطة عبور: يعبر إليها نحو عشيقته، ثم يعبر منها إلى الأرض نحو أمه/كسلطة قيمية كبيرة تنتصر على كل سلطة سواها. والأرض هي أيضا مكان التحول: تحول الزوجة إلى حمامة، وتحول الابن حمو إلى عاشق وإلى خارج عن سلطة القائم، ثم إلى نقطة دم رجوعا إلى الثابت واعترافا بسلطة المركزية. ولعل في ذلك رمزية تؤكد عبر الحكائي أن ثوابت المجتمع ومعتقداته – و«حرص المجتمع على تبليغها لمختلف الأجيال عن طريق التواثر من جيل لآخر»(51) في قالب حكائي تؤطره سلطة الأسطوري وهي قواعد لا يعلا عليها.
هكذا تتقابل رغبة الذات/المفاعل الأول/حمو ءونامير مع رغبة الثبات وعالم القيم على الشكل الذي تختزله هذه الترسيمة:
- الأسطورة وتقابل الإحالات:
![]()
إن تبئير مفاعل الأرض في علاقته بالثابت والمتحول واختزالها بمعية تبئير قيم الثبات والاتصالية دلالة هادفة في هذا النص، بل أكثر من ذلك: إنها دلالة قصدية تؤطرها قيم السلطة المعرفية والمرجعية السائدة، تسخيرا لحكاية أسطورية تتبنى لها هدفا الإقناع بالثبات والمرجعية الجماعية التي تقابل كل مرجعية لا تتأسس خارج هذا السياق (ولمنطق الندامة ومحاولة الرجوع إلى الأرض/الأم أن تزكي هذا الطرح)، وتلك خاصية لا يتمتع بهذا النص لوحده، بل تعتبر من شروط إمكان مثل هذه النصوص كما أوضحنا من خلال التعريف بالكيف السابق، والذي سنعمل على توضيحه من مناطق معتمة أخرى، برؤى أنثروبولوجية سنورد بعض نصوصها فيما بعد.
- تقابل القيم:
بهذا المحمول المفاهيمي تحاول هذه الورقة مقاربة وجهين أساسين من وجوه هذه الإبداعية، وتُحدد المجال النصي الذي تقترحه في:
امتصاص الأسطوري التخييلي:
وذلك بتحليل نص أسطوري مغربي «حمو أونمير»؛ نموذجا للأسطوري الذي ترويه عدة قبائل مغربية محكيا أو مغنى.
امتصاص اليومي والواقعي:
وذلك عبر مقاربة نماذج من الشعر الشعبي المغربي المغنى؛ الذي كان سببا في اندلاع الثورة ضد المستعمر؛ باعتبارها نماذج نصية للواقعي في الأدب الشعبي.
وهي نصوص تبرز آليتين نصيتين جديرتين بالمتابعة والتحليل لفهم ميكانيزمات الإبداع الشعبي.
امتصاص الأسطوري التخييلي:
إن الثقافة الشعبية عموما مليئة بالأساطير والحكايات الشعبية السائرة(2)والمتداولة على أشكال مختلفة أو متحدة في بعض الأحيان. وهذه ظاهرة جديرة بالمتابعة والتحليل مادامت الأصناف الحكائية نفسها مثارا للعديد من الدراسات والبحوث في العالم كله. ثم إن البحث في هذه النصوص هو بالتأكيد بحث في الهوية والبنية المجتمعية التي تتوحد وتشترك فيها مجموعة كبيرة من التخصصات المعرفية من لسانيات (سوسيولسانية وبسيكولسانية) واجتماعية وأنثروبولوجية، لكن الجانب الأهم الذي لا يستطيع الباحث الإفلات منه هو مجال الأنثروبولوجيا.
لذلك وقبل العبور إلى التعالقات النصيةالتي تصاحب الموروث الشعبي الشفهي: حكاية شعبية وأسطورية وغيرها؛ لابد من الإشارة إلى إشكالية تعريف المفاهيم،لأن تحديدها أمر لا مفر منه بدءا بحد وماهية المفهوم نفسه ومرورا بمجال الاشتغال عليه.
1 - مأزق التعريف/معبر لا محيد عنه :
أ - الأنثروبولوجيا عملا إشكاليا :
ترتبط الأنثربولوجيا غالبا بالشعوب البدائية، فكلود ليفي ستراوس يرى أن “الأنثروبولوجيا ولدت ضمن صيرورة تاريخية تم خلالها استبعاد القسم الأكبر من البشر بواسطة قسم آخر» ويعتبر «أن الأنثروبولوجيا هي ابنة عصر العنف، وهي إذا ما كانت قادرة على التعاطي موضوعيا مع بعض الظواهر الإنسانية فهي مدينة بهذه الميزة المعرفية إلى حالة من الواقع ادعى فيه قسم من البشرية حق معالجة (الآخر) كموضوع، كشيء”(3).
فهذا التحديد طرح إشكالا لماهية هذا العلم باعتباره معرفة انتقائية تستبعد قسما من البشر وتركز الاهتمام على «آخر»، وهو علم أنتجته ضرورة معينة، وكأنه بهذه الصفة يفقد خصيصة «إبيستيمولوجية» من خصائص المعرفة العلمية، ثم هي مشكوك في قدرتها (بدليل عبارة «إذ لو كانت قادرة… موضوعيا») فذلك راجع إلى شروط إمكان ماضية في زمن مضى، ثم هي تجرد الموضوع المدروس من بشريته وتعتبره آخرا وشيئا والنص يستطيع أن ينطق (إذا توفرت شروط معرفية عميقة بالعمل الستراوسي) ويكشف ما هو أبعد من هذه القراءة الأفقية.
وهناك رأي آخر أكثر شيوعا وهو مضمن جزئيا في هذه الترسيمة العامة لليفي ستراوس، وهي كون الأنثروبولوجيا تشتغل على المجتمعات البدائية و«بينما يتعامل عالم الاجتماع مع المجتمعات المعقدة الحديثة (الثانوية) يحصر عالم الأنتروبولوجيا اهتمامه بالمجتمعات غير المعقدة (الأولية)»(4). فهذا الطرح يجعل علم الاجتماع في مقابل علم الأنثربولوجيا من حيث مجال الاشتغال، وهو طرح شائع. وتجدر الإشارة إلى أن بعض الدراسات الأمبريالية والاستعمارية قد استعملته بشكل مماثل في دراسة الشعوب المستهدفة، ومن منطلقات عنصرية في هذا السياق غير المعرفي أيضا؛ والهادف إلى نوايا استعمارية، و«لتسهيل عملية الاتصال بالزعماء وحكم العامة، وأنشئ معهد عال للغة العربية والبربرية في الرباط سنة 1914، وصدر قرار مقيمي سنة 1915 بتأليف لجنة خاصة للأبحاث البربرية هدفها جمع الأبحاث المتعلقة بالقبائل من جميع أطراف المغرب، واستخراج نتائج عملية من هذه الأبحاث تساعد فرنسا على تنظيم هذه القبائل وإدارتها بشكل يتفق مع المصلحة الفرنسية»(5)فإنشاء هذه المعاهد وأمثالها كان لغاية غير معرفية بل استعمارية تبحث في القبائل، وترجو من وراء ذلك «نتائج عملية» تفيد العملية الأساسية وهي السيطرة والاستعمار و«المصلحة الفرنسية»، الشيء الذي جعل الموقف من هذه المعارف يمشي في هذا الاتجاه. ومن وجهة نظر الاستعمار في علاقته بهؤلاء المشتغلين في ميادين البحث أو بالأحرى المكلفين بهذه المهام يقول اليوطي: “فالمخزن محظوظ، الزعماء التاريخيون والباشوات يلتفون حوله كما لو كان تاجا مرصعا بالجواهر الثمينة، وتعلمون جميعا مدى الحذر الذي بمقتضاه نتصل دائما بهؤلاء، حيث مازالت الأصول والرتب الوظيفية محفوظة ومحترمة وحيث الناس والأشياء باقية على أحوالها القديمة، وحيث الرؤساء التقليديون يحكمون ويطيع الآخرون”.(6)
لا يهمنا في عرض هذه الوثيقة علاقة السلطة الاستعمارية ونظرتها إلى المستعمر أو طرق الاختفاء والتنكر والسبل التي يستعملها المكلفون بمهام هذه الدراسات أو أهدافها، فكل ذلك بات واضحا في الدراسات التي تشتغل على مراحل الاستعمار بالمغرب أو غيره في العالم العربي، لكن ما يهم هنا هو هذه العلاقة التي للبحث الأنثروبولوجي أو نموذج منه مع السلطة الاستعمارية، وهو موقع الشاهد الذي جعل لهذا الفهم مشروعيته في التصنيف. على أن لتوجهات أخرى في تصنيف هذا العلم أهميتها ومبرراتها، من هذا المنطلق يذهب فوزي رضوان العربي (أستاذ الأنثروبولوجيا التطبيقية بجامعة الإسكندرية) إلى أنه “كان يعتقد فيما مضى أنها (الأنثروبولوجيا) تقتصر على دراسة المجتمع البدائي، ولكن ثبت الآن خطأ هذا الاعتقاد، فالأنثروبولوجيا تهتم بجميع المجتمعات، سواء البدائية منها أو الحديثة، بل إن بعض الأبحاث الأنثروبولوجيا تدرس الآن المحلات التجارية الكبرى”.(7)
ويذهب - في إطار كرونولوجيا تأصيل هذا العلم - إلى أن العلماء العرب الأوائل قد أسهموا هم أيضا في الدراسات الأنثروبولوجية أمثال البيروني في كتابه عن الهند، واعتبره الباحث من “أوائل الكتب الأنثروبولوجية العربية لأنه يعطينا صورة واضحة ومتكاملة عن الهند ونظمها الاجتماعية والعادات والتقاليد السائدة”.(8)
بطبيعة الحال فهذا التحديد هو تحديد إطلاقي وعمومي ويحتاج إلى ضبط إبيستيمولوجي يقيد مجال المعرفة في علم الأنثروبولوجيا، والباحث في هذه الإطلاقية يعتقد أنه يصف الأنثروبولوجيا بمواصفات إيجابية في الوقت الذي يخرجها فيه من المعنى الحقيقي للمعرفة العلمية، ويدخلها في المعارف قبل - العلمية التي لا تهتم «بمعرفة الحدود التي تقف عندها هذه المعرفة، لتترك المجال بعد تلك الحدود لمعرفة أسمى هي المعرفة الميتافيزيقية»(9) التي تبحث في كل شيء وتزعم العمومية، ثم إن القفز بهذا المفهوم الحديث وإسقاطه على الثقافة العربية القديمة ضرب أيضا من التعميم الذي تحدث عنه غاستون باشلار. لكن هذا التعريف له أهمية في إطار عدم التصنيف الضيق للأنثروبولوجيا في خانة الاشتغال على المجتمعات البدائية.
وحتى لا نقفز على مسألة التعريف التي وصفناها منذ البدء بالمأزق نورد ما تذهب إليه Annette Weiner وهي من الأنتروبولوجيين المعاصرين من تقديم «منظور جديد لفهم الدور الحيوي الذي تقوم به الأنتروبولوجيا في خدمة قضايا المجتمع، ودراستها لحظة التحول والتغيرات السريعة الحادة والفجائية التي تطرأ على النظام. وبهذا تسهم في تشخيص المشكلات بطريقة متعمقة، قد تمكن من تقديم الطرق للمعالجة.
وتدرس الأنثروبولوجيا الظواهر على المستوى الجزئي، من خلال تقديم شبكة من المعلومات المفصلة، تحللها عدة متغيرات تربطها بالمنظور الكلي المتعلق بالتحولات والتغيرات التي تطرأ على النسق المحلي ونسق المجتمع العام»(10).فهذا التعريف يوضح بصورة جلية دور هذا العلم في علاقته بالمجتمع، كما يحدد موضوع الاشتغال الذي هو المجتمع ذاته دون تمييز أو هدف غير معرفي، كما يركز على طبيعة العمل باعتباره يلامس لحظات التحول التي تشهدها المجتمعات البشرية باعتبارها لحظات تغير ملامح التنظيم المجتمعي، ثم هي معرفة تشترك في كثير من ملامحها مع علم الاجتماع من حيث «تشخيص المشكلات وتقديم الطرق للمعالجة»، فهذه الصفة تجعل الأنثروبولوجيا في حالة تعالق إلزامي مع علم الاجتماع، ذلك أن “دراسة الثقافة في البحوث الأنثروبولوجية تمثل إسهاما في حد ذاته، إذ لا يمكن فهم أية ظاهرة اجتماعية، دون فهم السياق الثقافي الذي ينظم القواعد السلوكية وربط ذلك السياق بالمتغيرات الكلية، لذا فإن الثقافة تعد محورا هاما في الدراسات الاجتماعية”.(11)
ب - الأنثروبولوجيا الثقافية:
يعتبر الأنثروبولوجيون الأمريكيون وعلى رأسهم مارغاريت ميد أن مجال اشتغال هذا العلم هو «دراسة الإنسان من الناحيتين العضوية والثقافية على حد سواء» و«يستخدمون مصطلح الأنثروبولوجيا الثقافية ليعني مجموع التخصصات التي تدرس النواحي الاجتماعية والثقافية لحياة الإنسان. يدخل في ذلك الدراسات التي تتعلق بحياة الإنسان القديم (أو حضارات ما قبل التاريخ)، والتي يشار إليها بعلم الأركيولوجيا»(12).
و«تتناول الأنثروبولوجيا الثقافية كذلك دراسة لغات الشعوب البدائية، واللهجات المحلية، والتأثيرات المتبادلة بين اللغة والثقافة بصفة عامة» (13) .
ولا يمكن فصل هذه المجالات عن حقلين دراسيين هما الإثنولوجيا والإثنوغرافيا، «وبالرغم من التداخل بين المصطلحين، إلا أن مصطلح الإثنوغرافيا يعني الدراسة الوصفية لأسلوب الحياة ومجموعة التقاليد؛ والعادات والقيم؛ والأدوات والفنون؛ والمأثورات الشعبية لدى جماعة معينة؛ أو مجتمع معين؛ خلال فترة زمنية محددة. أما الإثنولوجيا فتهتم بالدراسة التحليلية؛ والمقارنة للمادة الإثنوغرافية، بهدف الوصول إلى تصورات نظرية أو تعميمات بصدد مختلف النظم الاجتماعية الإنسانية، من حيث أصولها وتطورها وتنوعها. وبهذا تشكل الإثنوغرافيا قاعدة أساسية لعمل الباحث الإثنولوجي، فالإثنوغرافيا والإثنولوجيا مرتبطتان إذن وتكمل الواحدة الأخرى (14).
علـــــما أن «مــــــا يــــدرجــــه الأمـــــريكـــــيـون تــحــــــت عــــــبارة الأنثروبولوجيا الثقافية يصطلح الفرنسيون على الإشارة إليه بالإثنولوجيا؛ أو الإثنوغرافيا في بعض الأحيان؛ وهم يدرسونها تحت مظلة علم الاجتماع. أما الإنجليز؛ فقد اختاروا تسمية أخرى؛ وهي الأنثروبولوجيا الاجتماعية، ونظروا إليها باعتبارها علما قائما بذاته؛ لا يندرج تحته أي من الأركيولوجيا أو اللغويات مثلا» (15).
لن ندخل في التفصيلات الدراسية والاختلافات النمهجية المعضدة لهذا التصور أو المخالفة له؛ فهذا مجال دراسات عديدة، ولكن هذا التوجه يسمح بالإشارة إلى أن كثيرا من الدراسات التي تتخذ لها النص الشفوي مجالا للدراسة تدخل في صميم الدراسات الأنثروبولوجية الثقافية؛ باعتبارالإنسان ظاهرة ثقافية كما تشير إلى ذلك دراسات حديثة في هذا المجال(16)، معتمدة على تحديد مفهوم الثقافة ومسارات تحديد حقولها وعلاقات «اكتسابها» أو «مصالحة الإنسان» مع واقعها؛ بما تشكل من دلالات مركزية ومؤسِسة في الأنثروبولوجيا الثقافية من حيث تحديد مسار الاشتغال(17).
2 - نموذج من الشفوي الأسطوري بالمغرب:
الشفوي ملتصق بالحياة اليومية ومبدع داخل ذاكرة مشتركة مع المتلقي، يمتص من المحيط الذي ينتجه الوسط الشعبي، والذاكرة الشعبية ميالة إلى الاستراحة من الحقيقي والواقعي، وتخلق في آن واحد مهربا تخيليا فوق - واقعي «يتجسدن» في الأسطورة والحكاية والسير وكل الأشكال التي تتمتع بصفة الإبداعية التخييلية(18)، هكذا يحدد الراوي - مادام يوصف بصفة الشعبية- «امتصاصاته»(19) من المشترك الخرافي الذي تؤسسه ثقافة الروايات الشعبية بجميع أصنافها.
هكذا يتقدم «نسق» حكائي هو الحكاية الشعبية(20) نحو الناس بهدف بناء القيم؛ ولكن في قوالب لا تفصح عن أهدافها.
أ - النص الشعبي وتناصاته الأنساقية/ الأسطورة:
كان ضروريا إذن قبل العبور إلى عالم المحكي الأسطوري الإشارة إلى هذه المعرفة التي تحيط بها، والحقيقة أن عالم المحكي الأسطوري عموما غني ومتعدد ويمكن أن تكتب فيه دراسات متخصصة. وهو بما يمثل من حضور وفي الحياة اليومية(21)ونحن هنا نقتصر - حسب ما تسمح به المداخلة- على بعض النماذج النصية التي حضرت فيولكن كنصوص تحضر في الذاكرة الجماعية أولا(22). وتؤسس علاقاتها مع الموروث الثقافي بكل محمولاته عبر ميكانيزمات تناصية أنساقية كما سيتضح.
إن القصص والأساطير هي قبل كل شيء نتائج البيئة والعلاقات الاجتماعية التي نشأت فيها: إنها إبداع شعبي، عضوي غالبا، يعبر عن طرائق العمل والتفكير والشعور، ويقوم بتثبيت المنظومة الفكرية والاجتماعية والمحافظة عليها»(23)من هذا المنطلق اعتبرنا العلاقة مع المحكي الأسطوري تناصا انساقيا مع نص علوي، ولم ندخل هذا النموذج من العلاقات مع تصنيف التناص الإبداعي الذي تبنيه النصوص المكتوبة عموما مع النصوص المكتوبة الأخرى أو الشفوية فتحولها(24)في إنتاجية خاصة تخرج عن سلطة المتلقي كمنتج أول ومجتمعي.
ب - القصة الأسطورة «أحمد أو/ حمو ءونامير(25):
يندرج اختيارنا لهذه القصة الأسطورة ضمن تناصها كنسق أسطوري صاغت كثيرا من المحكيات الشعبية في أشكال متعددة تضم الغنائي والمحكي؛ وتتعدد مظاهر صياغتها من قبيلة إلى أخرى.
“تخبرنا أسطورة «حمو ءونامير» أن طفلا جميلا جدا، كان وحيد أمه وكان يتردد على الكتاب حيث يلاحظ الفقيه - كلما هم الأول برفع لوحته لاستذكار ما حفظه من القرآن أمام الفقيه- أن يدي «حمو ءونامير» موشومتان بالحناء، فيوبخه ويستفسره عمن يخضب يديه بالحناء. فيجيبه ءونامير أنه لا يدري وأنه كلما استيقظ من نومه يجدها كذلك، فنصحه الفقيه بأن يتظاهر بالنوم ليلا، وحينما يشعر بوجود أحد يمسك يده فعليه أن يقبض عليه. إنها «تانيرت»(26)هي التي تقوم بذلك. عليه أن يطالبها بالزواج به، وذلك ما حصل بالفعل بعد أن اشترطت عليه أن يبني لها بيتا من سبع حجرات يوصل كل باب منها إلى باب الحجرة الأخرى وتكون أبوابها مصنوعة من حديد وتغلق كما تفتح كلها بمفتاح واحد. كما اشترطت عليه أن لا يطلع عليها أهله قبل أن تلد. وهذا ما حاول احترامه بعد أن طلب من أمه أن تهيء له وقت كل وجبة وجبتين منذ أن تزوج بها، لكن حدث أن سافر من أجل اقتناص وصيد غزال يلبي به آخر شهوة، فسعت أمه بإيعاز من نساء القرية بواسطة الدجاج أو الخادمة(27)إلى الاطلاع على زوجة ابنها «حمو ءونامير”.
وفعلا حصلت على مبتغاها، نتج عنه شتم وسب «تانيرت» التي تأثرت تأثيرا كبيرا لذلك الشتم، والسباب…
ولما عاد «ءونامير» وجد الحجرات مملوءة ماء يتدرج علوه شيئا فشيئا بقدر ما يقترب من الحجرة السابعة حيث توجد «تانيرت».
ولما وصل عندها، بدأت تعاتبه على عدم التزامه بالشروط التي اشترطتها عليه، فطلبت منه أن يشق لها في السقف شقة صغيرة تستطيع من خلالها أن تتنفس، نظرا لضيق التنفس الذي تشعر به، وما كاد يفعل – بعد أن قبل أن يقوم بشق فتحة ضيقة جدا - حتى تحولت «تانيرت» إلى حمامة. وأثناء محاولته القبض عليها انفلتت من يده تاركة له فيها خاتما. وقرر «حمو ءونامير» أن يهيم على وجهه ويفارق أهله بحثا عن حل للالتحاق بها في السماء.
حين التحق «حمو ءونامير» بتانيرت في «السماء» اشترطت عليه أن يقوم بما يشاء في قصر زوجها الثاني، بعد أن احتكما هو وزوج «تانيرت» إلى قاض بصدد ابنه الذي ينسبه كل منهما إلى نفسه. وكانت النتيجة أنتم إثبات نسبه إلى «حمو ءونامير».
وهكذا أصبح «حمو ءونامير» أحد أفراد تلك العائلة «السماوية» يحصل على كل ما يفتقر إليه إلا إمكانية أو محاولة مخالفة المنع المتعلق بعدم الاطلاع على ما تحت حجر القصر.
وحدث أن عزم يوما على الاطلاع على ما تحت الحجر. ولم يكد يزيح الحجر حتى أبصر من خلال كوة أو ثقب أمه في الأرض تناديه وتستفسر عن غيابه خاصة وأن اليوم عيد الأضحى، لا من يذبح لها الأضحية(28) فبدأ يناديها لكنها لا تسمعه، وألقى إليها بخنجره، لكن هذا الأخير لم يصل. وبعد محاولات كثيرة ومتنوعة لتحقيق التواصل بينهما فشل على أثرها كلها، ألقى بنفسه، لكنه تفكك وتمزق بين السماء والأرض ولم تصل إلا قطرة واحدة من دمه ذبحت كبش الأضحية واستعادت بها أمه بصرها، لكن حمو ءونامير تفكك بين السماء والأرض فلم يبق لا مع زوجته وابنه ولم يلحق «ءونامير» بالأرض رغم أن كثيرا من الرواة يشيرون إلى آثار أو مناطق تدل على آثار سقوط «حمو ءونامير» بها(29).
- حمو ءونامير ودلالات التناص الأسطوري(30):
يقول «باتريس دولاتور دوبان» بأن “الشعب الذي لا أساطير له يموت من البرد”(31)، والبحث في شجرة نسب هذه الكلمة يحيل على مجالات عديدة ومتداخلة، قديمة وحديثة، فـ “كلمة أساطير قد جاءت من السطر وهو الخط والكتابة، وجمعه أسطار كما هو الحال في سبب وأسباب وجمع الجمع أساطير. ونعثر على أول استخدام للكلمة في القرآن الكريم، حيث جاء في سورة الفرقان الآية 5 قوله تعالى:} وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا {، وهنا إشارة إلى اتهام المشركين للنبي باستلهامه قصص الأولين المكتوبة”(32)“وكلمة Myth في الإنجليزية والفرنسية وغيرها، مشتقة من الأصل اليوناني Muthas وتعني قصة أو حكاية. وكان أفلاطون أول من استعمل تعيبره Muthologia للدلالة على فن رواية القصص، وبشكل خاص ذلك النوع الذي ندعوه اليوم بالأساطير، ومنه جاء تعبير Mythology المستخدم في اللغات الأوروبية الحديثة”.(33)
والحقيقة أن شجرة النسب هذه التي نسعى إلى دخول المصطلح من خلالها قد تكون أحيانا حاملة لترسيبات غير علمية حين تدخل في البحث عن الأصل وأول من استعمل، ذلك أن هناك فروقا شاسعة بين القصة والحكاية والأسطورة ولو من حيث مآل تدقيق المصطلح وتعقده فيما بعد دلالة الأصل والاشتقاق. كما أن الجزم في أول مستعمل للتعبير أمر بالغ الخطورة، لأنه يدخل العمل في أسطورة البحث عن الأصل ووهمه، وهل الأساطير كما ندعوها اليوم هي حقا ما كان يسمى «فن رواية القصص».(34)
تلك إذن متاهة تجنبها أحسن من الخوض فيها لسبب معرفي إبيستيولوجي هو المنهج ذاته. وهو نفسه الدافع إلى الدراسة من الداخل والانطلاق من النص.
إن هذا النص ينتمي إلى الأسطورة «كشكل من أشكال الأدب الرفيع»(35) لأنها تتمتع بصفات «تحكمها قواعد السرد القصصي من حبكة وعقدة وشخصيات وما إليها»(36).فالنص/أسطورة حمو ءونامير ليست مجردة من بنية النص القصصي والأسطوري التي تحكم وتؤسسله داخل سياق إبداعي. وهي أيضا “قصة تقليدية، بمعنى أنها تحافظ على ثبات نسبي، وتتناقلها الأجيال بنصها(37) هنا يمكن الرجوع إلى «جدول مختلف روايات حمو ءونامير» كما حددها الحسين أيت باحسين في دراسته السابق ذكرها ضمن «الثقافة الشعبية بين المحلي والوطني”(38)، فالقصة الأسطورة تتناقلها روايات عدة مناطق جنوب المغرب مثل أنتيفة وتزنيت دمنات ومزوضة وإمنتانوت وطاطا…(انظر ميتوغرافية حمو ءونامير ضمن الدراسة المشار إليها).
إن أسطورة حمو ءونامير ليس لها زمن. إنها تحكى مجردة من الزمن، وتدخل في زمنها الخاص، زمن الطفل وعلاقته بأمه وبالفقيه، وهذا الزمن نفسه ليس محدودا في قصة بل يتعداها إلى زمن عام يجسد مضمون القيم الذي يسيطر على الأساطير عادة. فـ«ليس للأسطورة زمن؛ أي أنها لا تقص عن حدث جرى في الماضي وانتهى، بل عن حدث ذي حضور دائم»(39) وسيظهر هذا من خلال تجريد القيم في النص كما سنوضح، من خلال ما نقترحه من قراءة حسب المنهج الذي نشتغل عليه، وبعيدا عن أي إسقاط مفاهيمي ينطلق من عقدة إلباس النص بلباس عقدة أوديب أو أي أسطورة يونانية أو غيرها(40)،الشيء الذي يترتب عليه الإسراع إلى إقرار خلاصات تجعل من «حمو ءونامير» هوية متأزمة بنفس الأزمة التي تؤرق «أوديب» فرويد رغم تباين ظروف كل واحد منهما»(41).أو تجعل من النص الأسطوري نسخة من نصوص عالمية أخرى، يكتفي فيها الباحثون بوضع اسم الأسطورة موضع آخر، واستخلاص نفس النتائج.
والحقيقة أن لكل نص – رغم بعض ثوابت الحكي والزمن – بصماته التي تتمرأى في علاقتها بمنتجها مجهول التحديد ومعروف الذاكرة في آن، لأنه «لا يعرف للأسطورة مؤلف معين، لأنها ليست نتاج خيال فردي، بل ظاهرة جمعية يخلقها الخيال المشترك للجماعة وعواطفها وتأملاتها»(42) كما يقول فراس السواح، وهو نفس التصور الذي ينطلق منه في مؤلفه (دين الإنسان) سابق الذكر، حيث يعبر عن هذه الظاهرة بنفس الطريقة لكنه يضيف طرح مسألة بالغة الأهمية في نفس الوقت، حيث يقول أنه “لا يعرف للأسطورة مؤلف معين لأنها ليست نتاج خيال فردي أو حكمة شخص بعينه، بل إنها ظاهرة جمعية تعبر عن تأملات الجماعة وحكمتها وخلاصة ثقافتها، ولا يمنع هذا الطابع الجمعي أن يقوم الأفراد بإعادة صياغة الحكايات الأسطورية وفق صنعة أدبية تتماشى وروح عصرهم”(43) فقصة حمو ءونامير خضعت لإعادة الإنتاج والصياغة حسب المناطق كما رأينا. وخضعت لعملية إعادة الصياغة التي يشير إليها الباحث حسب مقتضيات المقام الإبداعي، والنص الذي نحن بصدده (حمو ءونامير) يدخل في هذا السياق = صياغة الحكاية الأسطورية وفق صنعة أدبية هي ه حكائية أوشعرية يحبها المتلقي وتؤثر فيه بشكل ملفت للانتباه، قل نظيره في مجتمعات أخرى.
هذه الملاحظة تؤلف بين نماذج وأجناس أدبية قلما تجتمع في صياغة ما، فالعملية تضم تداخل الحكاية والأسطورة وصنعة أدبية أخرى في هذا النص الذي نحن بصدده .
إن حمو ءونامير أسطورة حكاية، وليست أسطورة بالمفهوم العام للأسطورة كما هو الحال في أسطورة الخلق والأساطير البابلية واليونانية وغيرها والتي تتمتع بصفة الحقيقة الإلهية في ذهن مبدعيها.
من أجل ذلك فإنه ليس من الضروري أن “يلعب الآلهة وأنصاف الآلهة الأدوار الرئيسية في الأسطورة”(44) الحكائية من هذا النوع الذي نشتغل عليه، وهو التميز الذي يخرج مثل هذه النماذج من التصنيف العام الذي يقدمه السواح وغيره من الباحثين الذين يشتغلون على النصوص الأسطورية، والحقيقة أن طبيعة تلك النصوص يكون فيها ظهور الإنسان على مسرح الأحداث مكملا وغير رئيسي، فاسحا المجال للآلهة وأنصاف الآلهة(45) وهذا تفسره اعتبارات ثقافية أخرى ، منها حضور البعد الثقافي الإسلامي الذي يعيد إنتاج المفاعلات المكونة للنص الأسطوري نفسه. وهذا البعد يجعل النص محتفظا بطابع «الجدية والشمولية» التي تطبع باقي النصوص الأسطورية عموما، على ألا يكون الموضوع بالضرورة هو «الخلق والتكوين» وغيره من المواضيع الأساسية في الأسطورة عموما. لأن الإبدال الثقافي الإسلامي يمركز قيما أخرى ويجعلها مفاعلات أساسية ومركزية في النصوص الأسطورية من هذا النوع الذي نشتغل عليه. (وتجدر الإشارة إلى أن هذا البعد مغيب عند الباحثين المغاربة الذين اشتغلوا على نص حمو ءونامير بحكم سلطة النموذج الغربي وإسقاطه)(46) فالتميز الذي يطبع الأسطورة عموما باعتبارها تحمل «موضوعات جدية وشمولية»(47)، هو نفس تميز الحكاية الأسطورية التي نقاربها، لكن القيمة التي تحرك النص ليست هي القيمة الأسطورية العامة التي تطبع الأساطير عادة، لأن البعد الإسلامي عند الذاكرة الجمعية يملكُ قدرةَ مَركَزة القيم حسب منظومته.
ج - قراءة في أسطورية النص:
تتقدم هذه القصة(48) الحكاية نحو متلقيها كنص أسطوري تخضب فيه يد الطفل حمو ءونامير بالحناء دون علمه، وبفعل قوة أخرى غير إنسانية “بمعنى غير بشرية وليس بمعنى لا إنسانية”، ويتم الزواج حسب طقوس هذه الأسطورة من جنية أو ملاك حسب اختلاف الروايات، وبمهر يختلف عن طقوس الزواج العادي/غزال. وتتحول الزوجة إلى حمامة، وهي دلالة أسطورية، ثم إن الفضاء لا يقتصر على الأرض بل يمتد إلى السماء.
- أسطورية النص :
- أسلمة الأسطورة:
تطل من داخل النص شبكة نصية ومفاهيمية تطبع النص وتؤطره ضمن فسيفساء (والإحالة على المصطلح التناصي ضمن ما أوردناه طبعا) إسلامية بامتياز: وتتكون هذه الشبكة من الكتاب - الفقيه – حفظ القرءان – بر الوالدين .. على أن هناك مرجعيات إسلامية إحالية تتمركز على الإحالة عوض الكلمة، ويمكن تأكيد ذلك من خلال هذه الترسيمة:
- أسلمة الأسطورة :
إن هذه الشبكة النصية والإحالات المفاهيمية التي يحملها النص، تفصح عن مرجعيتها الإسلامية دون عناء من متلقيها، وفك رموزها؛ أولا لأنها تنطلق من مسرح أحداث واقعي وإسلامي يضع مشهد الفقيه في الكتاب وتساؤله عن خصوصيات المفاعل الأساسي في الأسطورة (الحناء في يديه) ويقترح عليه حلا لمعرفة مصدر هذه الحناء.
ثم تتقدم الأم بسلطتها المزدوجة “الأم كمرجعية إسلامية تستلزم الطاعة – والأم كمرجعية تقليدية سنرجع إلى تحديدها”، ثم تظهر في مسرح الأحداث نسوة القرية في مقابل نسوة المدينة في سورة يوسف، وتلك دلالة جماعية تفيد سلطة الذاكرة الجماعية في مسرح الأحداث وقوة التأثير فيه، في مقابل الفردانية التي ترفضها دلالة الطاعة لرغبة الوالدين.
وفي نهاية الأسطورة يأتي البعد الديني الذي يحمل مفهوم الطاعة إلى أبعد مصدر ديني مع إبراهيم عليه السلام (والقصة معروفة في الذاكرة الإسلامية الشعبية تزكيها شعيرة الأضحية كل عام).
وحتى نهاية الحبكة الأسطورية جاءت محملة بدلالة حل قرءاني وإعجازي وغرائبي هو أن دم حمو ءونامير سيكون معجزة ترد إلى الوالدة بصرها، كما يرتد أب يوسف/يعقوب عليه السلام بصيرا بعد أن شم رائحة قميص ابنه يوسف.
ويمكن أن يعبر عن ذلك بالترسيمة التالية:
- الأسطورة وظلالها:
- خرق الأسطورة في حمو ءونامير:
إن التقطيع المكاني للنص كنص فوق واقعي يحيل منذ الوهلة الأولى وقبل أي تحليل قيمي أو نصي إلى أمكنة مختلفة ومتقابلة، ففضاء الأرض كان مسرح الأحداث ومنطلقها في آن واحد، وفضاء الأرض أيضا كان محل التحول بامتياز: تحول الزوجة إلى حمامة تطير في السماء، والتحاق الزوج حمو ءونامير بزوجته وعشيقته كان تحولا من الأرض إلى السماء، ومن السماء إلى الأرض أيضا رحيلا إلى الأم. وحتى تتضح هذه الصورة يمكن رصدها على هذا الشكل في علاقة المكان بالتحول والثبات في الترسيمة التالية:
- التقطيع المكاني للنص:
إن الأرض في هذه الحكاية الأسطورية كانت منطلق الأحداث ومسرحها، لذلك سميناها في هذه الترسيمة مكان الثبات، وهي أيضا كانت منطلق الأحداث ومصيرها. حيث ينطلق منها حمو ءونامير ليعود إليها قطرة دم/ويختزل فيها كرمز وكحل لعقدة الحبكة النهائية في النص. والسماء شكلت بالنسبة للمفاعل المركزي/حمو نقطة عبور: يعبر إليها نحو عشيقته، ثم يعبر منها إلى الأرض نحو أمه/كسلطة قيمية كبيرة تنتصر على كل سلطة سواها. والأرض هي أيضا مكان التحول: تحول الزوجة إلى حمامة، وتحول الابن حمو إلى عاشق وإلى خارج عن سلطة القائم، ثم إلى نقطة دم رجوعا إلى الثابت واعترافا بسلطة المركزية. ولعل في ذلك رمزية تؤكد عبر الحكائي أن ثوابت المجتمع ومعتقداته – و«حرص المجتمع على تبليغها لمختلف الأجيال عن طريق التواثر من جيل لآخر»(51) في قالب حكائي تؤطره سلطة الأسطوري وهي قواعد لا يعلا عليها.
هكذا تتقابل رغبة الذات/المفاعل الأول/حمو ءونامير مع رغبة الثبات وعالم القيم على الشكل الذي تختزله هذه الترسيمة:
- الأسطورة وتقابل الإحالات:
إن تبئير مفاعل الأرض في علاقته بالثابت والمتحول واختزالها بمعية تبئير قيم الثبات والاتصالية دلالة هادفة في هذا النص، بل أكثر من ذلك: إنها دلالة قصدية تؤطرها قيم السلطة المعرفية والمرجعية السائدة، تسخيرا لحكاية أسطورية تتبنى لها هدفا الإقناع بالثبات والمرجعية الجماعية التي تقابل كل مرجعية لا تتأسس خارج هذا السياق (ولمنطق الندامة ومحاولة الرجوع إلى الأرض/الأم أن تزكي هذا الطرح)، وتلك خاصية لا يتمتع بهذا النص لوحده، بل تعتبر من شروط إمكان مثل هذه النصوص كما أوضحنا من خلال التعريف بالكيف السابق، والذي سنعمل على توضيحه من مناطق معتمة أخرى، برؤى أنثروبولوجية سنورد بعض نصوصها فيما بعد.
- تقابل القيم:





ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق