رأس المال والرأسمالية

. . ليست هناك تعليقات:



اضغط هنا لتحميل كتاب راس المال - كارل ماركس

2) رأس المال والرأسمالية

1- رأس المال في المجتمع السابق للرأسمالية
بين المجتمع البدائي، الذي ما يزال يقوم على اقتصاد طبيعي، ولا تنتج فيه إلاّ قيم استخدام معدة ليستهلكها المنتجون أنفسهم، بين هذا المجتمع والمجتمع الرأسمالي تمتد فترة طويلة من تاريخ الإنسانية تشمل، في الحقيقة، كل الحضارات البشرية التي توقفت عند عتبة الرأسمالية. وتعرف الماركسية هذه الفترة بأنها مجتمع الإنتاج السلعي الصغير. فهو مجتمع يعرف إذن إنتاج السلع، سلع معدة لا ليستهلكها مباشرة منتجوها، بل معدة للتبادل في السوق، بيد أن هذا الإنتاج التجاري لم يتعمم بعد كما هو الحال في المجتمع الرأسمالي.
وفي مجتمع يقوم على الإنتاج السلعي الصغير، يجري نوعان من العمليات الإقتصادية. إن الفلاحين والحرفيين إذ يذهبون إلى السوق بمنتجات عملهم، إنما يريدون بيع هذه السلع، التي لا يستطيعون الإفادة مباشرة من قيمتها في الاستخدام، بقصد الحصول على المال، أي أدوات مبادلة للحصول على سلع أخرى، يفتقدون إلى قيمة استخدامها أو هي أهم بالنسبة لهم من قيمة استخدام السلع التي يمتلكونها.
إن الفلاح يرتاد السوق مع القمح، يبيع قمحه مقابل المال، ويشتري بهذا المال جوخا مثلا. إن الحرفي يرتاد السوق مع جوخه، فيبيع الجوخ مقابل المال، وبهذا المال يشتري القمح مثلا.
فالعملية هي إذن: بيع من أجل الشراء، سلعة- مال- سلعة. س- م- س، تتصف بواقعية أساسية: عن قيمة الحدين في هذه المعادلة، هي بحكم تعريفها متساوية تماما.
بيد أنه يظهر، في الإنتاج السلعي الصغير، إلى جانب الحرفي والفلاح الصغير، شخص آخر يقوم بعملية اقتصادية مختلفة.إنه يشتري ليبيع، بدلاً من أن يبيع ليشتري. إنه رجل يرتاد السوق دون أن يحمل بضاعة بيده، إنه مالك مال. إن المال (النقد) لا يمكن بيعه، ولكن يمكن استخدامه في الشراء، وهذا ما يقوم به هذا الشخص: إنه يقدم إلى الشراء لكي يبيع، لكي يعيد بيع السلعة: م- س- م’.
إن ثمة فرقا أساسيا بين العمليتين الأولى والثانية.إذ أن العملية الثانية لا معنى لها إذا كنا في نهاية العملية أمام قيمة متساوية تماما مع القيمة في بداية العملية. فما من امرئ يشتري بضاعة ليعيد بيعها تماما بنفس السعر الذي اشتراها به. إن عملية الشراء بقصد البيع، لا معنى لها إذا لم ينتج عن البيع زيادة في القيمة، فائض قيمة. ولهذا نقول هنا أن م’ أكبر من م بحكم التعريف، وأنه مركب من م + مـ، على اعتبار أن مـ هي فائض القيمة، أي مقدار تزايد قيمة م.
ونستطيع الآن أن نعرف رأس المال بأنه قيمة تتزايد بفائض قيمة سواء كان ذلك عبر تداول البضائع، كما في المثال الذي أوردناه أو عبر الإنتاج، كما هو الحال في النظام الرأسمالي. إن رأس المال هو إذن كل قيمة تتزايد بفائض قيمة. ورأس المال هذا لا يقتصر وجوده على المجتمع الرأسمالي، إنه موجود في المجتمع القائم على الإنتاج السلعي الصغير. وينبغي بالتالي أن نفرق بشكل واضح بين وجود رأس المال ووجود نمط الإنتاج الرأسمالي، في المجتمع الرأسمالي. إن رأس المال موجود في الأرجح منذ حوالي ثلاثة آلاف عام، بينما لا يتجاوز عمر نمط الإنتاج الرأسمالي المائتي عام.
ما هو شكل رأس المال في المجتمع السابق للرأسمالية؟ إنه، في جوهره، رأس مال مراب ورأسمال تجاري. والانتقال من المجتمع السابق للرأسمالية إلى المجتمع الرأسمالي هو تغلغل رأس المال في مجال الإنتاج. إن نمط الإنتاج الرأسمالي هو أول نمط إنتاج، وأول شكل في التنظيم الجماعي، لا يقتصر رأس المال فيها على دور الوسيط واستغلال أشكال إنتاج غير الرأسمالية التي تستمر مبنية على الإنتاج السلعي الصغير، بل يمتلك فيها رأس المال وسائل الإنتاج وينفذ إلى الإنتاج بمعناه الدقيق.
2- أصول نمط الإنتاج الرأسمالي
ما هي أصول نمط الإنتاج الرأسمالي؟ ما هي أصول المجتمع الرأسمالي كما تطور منذ مائتي عام؟
إنها أولا الانفصال بين المنتجين ووسائل الإنتاج. وهي من ثم تجمع وسائل الإنتاج هذه في صورة احتكار بين أيدي طبقة اجتماعية واحدة، هي الطبقة البرجوازية. وهي أخيرا ظهور طبقة اجتماعية أخرى، لم يعد لها من مورد لتعيش، بعد انفصالها عن وسائلها في الإنتاج، غير بيع قدرتها على العمل إلى الطبقة التي احتكرت وسائل الإنتاج.
لنعالج كلا من أصول نمط الإنتاج الرأسمالي هذه، وهي في الوقت ذاته الخصائص الأساسية للنظام الرأسمالي ذاته.
أولى هذه الخصائص: انفصال المنتج عن وسائله في الإنتاج. إنها الشرط الأساسي لوجود النظام الرأسمالي. وهي أقل الخصائص وضوحا في الأذهان. لنأخذ مثلا قد يبدو لنا ضربا من المفارقة، مجتمع مطلع القرون الوسطى، الذي يتصف بالقنانة.
إننا نعلم أن جمهرة المنتجين-الفلاحين كانت في هذا المجتمع أقنانا مرتبطين بالأرض. غير أنه عندما يقال إن القن مرتبط بالأرض إنما يتضمن ذلك أن الأرض مرتبطة بالقن، فنحن أمام طبقة اجتماعية تعتمد دوما على قاعدة لسد حاجاتها، لأن القن كان يتصرف بمساحة من الأرض تكفي ليتمكن عمل يعتمد على ذراعين، ولو بمسائل بدائية، من سد حاجات أسرة. ونحن لسنا أمام أناس محكوم عليهم أن يتضوروا (يموتوا) جوعا إن لم يبيعوا قوة عملهم. في مثل هذا المجتمع ليس ثمة إكراه اقتصادي على العامل لتأجير ذراعيه، ليعرض على الرأسمالي بيع قوة عمله.
وبعبارة أخرى: في مجتمع من هذا النوع لا يمكن للنظام الرأسمالي أن ينمو. وثمة تطبيق حديث لهذه الحقيقة العامة، وهو الأسلوب الذي اتبعه المستعمرون في إدخال الرأسمالية إلى إفريقيا في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
كيف كانت ظروف معيشة سكان سائر البلدان الإفريقية؟ كانوا يمارسون تربية الحيوانات وزراعة الأرض، زراعة بدائية أو غير بدائية تبعا للمنطقة، إلاّ أنها تتصف في جميع الأحوال بوفرة نسبية في الأراضي. لم يكن ثمة ندرة في الأراضي في إفريقيا، بالعكس كان هناك سكان يتصرفون، بالنسبة لمساحة الأرض، باحتياطي غير محدود عمليا. ولا شك في أن الحصول على هذه الأرض وبوسائل الزراعة البدائية جدا كان ضعيفا، ومستوى المعيشة متدنيا جدا، غير أنه لم يكن ثمة إكراه مادي يدفع هؤلاء السكان إلى الانتقال إلى العمل في مناجم أو مزارع أو معامل المعمر الأبيض. وبعبارة أخرى: لو لم يغير النظام العقاري في إفريقيا الاستوائية وإفريقيا السوداء لما كان ثمة إمكان لإدخال نمط الإنتاج الرأسمالي إليها. وكان لا بد، ليمكن إدخال نمط الإنتاج هذا، من فصل جمهرة السكان السود، بصورة جذرية وبوسائل إكراه غير اقتصادية، عن وسائل معيشتها العادية. أي أنه كان لا بد من تحويل جزء كبير من الأراضي بين عشية وضحاها إلى أرض مملوكة للدولة المستعمِرة أو إلى ملكية خاصة للشركات الرأسمالية. كان لا بد من زرْب السكان السود في أراضٍ، في محتجزات (كما سموها بوقاحة) لم تكن على سعة تكفي لتغذية سكانها. وكان لا بد أيضا من فرض ضريبة على الرأس، أي ضريبة تسدد بالنقد على كل فرد من السكان، مع ان الزراعة البدائية لم تكن تدر دخولا نقدية.
عن طريق هذه الضغوط بوسائل غير اقتصادية أمكن إلزام الإفريقي بأن يعمل كمأجور، ولو لشهرين أو ثلاثة أشهر في السنة، ليكسب مقابل هذا العمل ما يستطيع أن يسدد به الضريبة ويشتري ما يسدد به نقص الغذاء، الذي لم يعد باستطاعته الاستمرار في الحياة بدونه، بسبب عدم كفاية الأراضي التي بقيت تحت تصرفه.
وقد اتبعت هذه الطريق بنفس المقياس في بلاد كأفريقيا الجنوبية كما في روديسيا، كما في الكونجو البلجيكي سابقا، حيث أدخل نمط الإنتاج الرأسمالي على أوسع نطاق، واقتلع جزء كبير من السكان السود من جذورهم وطردوا ودفعوا خارج نمط العمل والحياة التقليديين.
ولنشر بشكل عابر إلى النفاق الأيديولوجي الذي اقترن بهذه الحركة، وشكاوى المجتمعات الرأسمالية ورجال الإدارة البيض من أن السود تنابل، لأنهم لا يريدون أن يعملوا حتى لو أعطوا إمكانية الحصول في المنجم أو في المعمل على عشرة أضعاف ما كانوا يكسبونه بشكل تقليدي من أراضيهم. لقد سمعنا هذه الشكاوي تتكرر ـ بالنسبة العمال الهنود والصينيين أو العرب قبل ذلك بخمسين أو ستين عاما. كما سمعنا ـ وهذا ما يثبت المساواة في الجوهر بين جميع العروق البشرية- بالنسبة للعمال الأوروبيين من فرنسيين وبلجيكيين وإنجليز وألمان في القرن السابع عشر أو الثامن عشر. إن المسألة لا تعدو هذه الحقيقة: ما من إنسان يحب، في الأحوال العادية، بحكم تكوينه الطبيعي والعصبي، أن يحبس مدة ثمان أو تسع أو عشر أو أثنى عشر ساعة في اليوم في معمل أو مصنع أو منجم. ولا بد فعلا من قوة، من ضغط غير عاديين تماما واستثنائيين للوصول إلى شخص لا يعتاد هذا العمل الشاق وإجباره على القيام به.
أما الأصل الثاني، أي ثانية خصائص نمط الإنتاج الرأسمالي: تركز وسائل الإنتاج في صورة احتكار بيد طبقة اجتماعية واحدة، هي الطبقة البرجوازية. إن هذا التركز ما كان يمكن أن يتحقق عمليا لو لم يكن ثمة ثورة مستمرة في وسائل الإنتاج، لو لم تصبح هذه الوسائل أكثر تعقيدا، وأغلى ثمنا باطراد، على الأقل فيما يتعلق بالحد الأدنى من وسائل الإنتاج لإمكان البدء بمشروع كبير (نفقات التأسيس الأولى).
لقد كان في الطوائف (الأصناف) الحرفية ومهن القرون الوسطى استقرار كبير في وسائل الإنتاج. فأنوال النسيج تنتقل من الأب إلى الابن، ومن جيل إلى جيل. كانت قيمة أنوال النسيج هذه منخفضة نسبيا، أي أن كل عامل في المهنة كان في وسعه أن يأمل بالحصول على ما يبادل قيمة هذه بعد عمل عدد من السنوات. إن إمكانية تشكل احتكار ظهرت من الثورة الصناعية، التي حركت نموا غير منقطع، متزايد التعقيد، في المكننة، مما يعني وجوب توافر رؤوس أموال أكبر فأكبر ليمكن البدء بمشروع جديد.
ومنذ ذلك الحين يمكن القول إن الوصول إلى ملكية وسائل الإنتاج يصبح مستحيلا بالنسبة للأغلبية الساحقة من المأجورين والمستخدمين، وأن ملكية وسائل الإنتاج أصبحت احتكارا في أيدي طبقة اجتماعية، تلك التي تتوافر لها رؤوس الأموال، واحتياطات من رؤوس الأموال، والتي تستطيع أن تحقق تراكم رؤوس أموال جديدة لمجرد أنها تملك رؤوس أموال. أما الطبقة التي لا تملك رؤوس أموال فمحكوم عليها بحكم وضعها هذا أن تبقى على الدوام في حالة واحدة من العوز ومكرهة على العمل لحساب غيرها.
الأصل الثالث، أو ثالثة خصائص الرأسمالية: ظهور طبقة اجتماعية ليس لها من وسائل لسد حاجاتها إلا بيع قوة عملها لأنها لا تملك من الثروات إلاّ ذراعيها، وهي في الوقت ذاته حرة ببيع القوة، فتبيعها للرأسماليين مالكي وسائل الإنتاج. ويسجل ذلك ظهور الطبقة البروليتارية الحديثة.
إننا أمام عناصر ثلاثة تتداخل وتتضافر. فالبروليتاريا، هي الشغيل الحر؛ إن هذا خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الوراء بآن واحد، بالنسبة لأقنان القرون الوسطى: خطوة إلى الأمام لأن القن لم يكن حرّا (كان القن ذاته خطوة إلى الأمام بالنسبة للرقيق)، وما كان يستطيع التنقل بحرية، وخطوة إلى الوراء لأن البروليتاري، خلافا لما كان عليه القن، هو “حر” أيضا، أي أنه محروم تماما من الوصول إلى وسائل الإنتاج.
3- أصول البروليتاريا الحديثة وتعريفها
ينبغي أن نذكر، بين الأسلاف المباشرين للبروليتاريا الحديثة، السكان المجتثين في القرون الوسطى، وهم سكان لم يكونوا مرتبطين بالأرض، ولا منتظمين في المهن والطوائف الحرفية في المراكز السكانية الصغيرة، فكانوا بالتالي سكانا تائهين، لا جذور لهم، أخذوا يؤجرون ذراعيهم باليوم، وحتى بالساعة. وفي عدد غير قليل من مدن القرون الوسطى، لا سيما في فلورنسا والبندقية وبروجس، بدأ يظهر “سوق العمل” اعتبارا من القرن الثامن، التاسع أو العاشر، بمعنى أن الناس الفقراء الذين ليسوا أعضاء في مهنة وليسوا صناع المعلم الحرفي، أي ليس لهم موارد رزق للمعيشة، كانوا يتجمعون صباح كل يوم في زاوية من المدينة، ينتظرون أن يستأجر بعض التجار أو المتعهدين خدماتهم لساعة أو لنصف يوم أو ليوم كامل، الخ.
وأصل ثان للبروليتاريا الحديثة، أقرب إلينا، هو ما سمي انحلال الحواشي الإقطاعية، أي الانحطاط الطويل البطيء، لطبقة النبلاء الإقطاعية، الذي بدأ اعتبارا من القرنين الثالث عشر والرابع عشر وانتهى مع الثورة البرجوازية في فرنسا، حوالي نهاية القرن الثامن عشر. ففي مطلع القرون الوسطى كان يوجد أحيانا خمسون أو ستون أو مائة أسرة أو ما يزيد يعيشون مباشرة على حساب السيد الإقطاعي. وأخذ عدد هؤلاء الخدم الأفراد يتقلص، لاسيما خلال القرن السادس عشر، الذي تميز بارتفاع كبير جدا في الأسعار، وبالتالي بافتقار كبير جدا لكل الطبقات الإجتماعية ذات الدخول النقدية الثابتة، بما فيها طبقة النبلاء الإقطاعية في أوروبا الغربية التي كانت قد استبدلت بصورة عامة الريع العيني بريع نقدي. وكان من نتائج هذا الافتقار تسريح جزء كبير من الحواشي الإقطاعية بالجملة. فوجد على هذا النحو آلاف من الخدم السابقين، من كتاب النبلاء سابقا، يهيمون على الطرقات ويصبحون شحاذين..الخ.
وثمة أصل ثالث للبروليتاريا الحديثة هو طرد جزء من قدماء الفلاحين من أرضهم نتيجة تحويل أراض زراعية إلى مروج. وقد كتب توماس مور، الطوباوي الإنجليزي، منذ القرن السادس عشر، هذه العبارة الرائعة: “لقد أكلت الخروف البشر” أي أن تحويل الحقول إلى مروج بغية تربية الخراف، المرتبطة بصناعة الصوف، قد أفضى إلى طرد آلاف وآلاف من الفلاحين الإنجليز من أراضيهم وحكم عليهم بالجوع.
وهناك أصل رابع للبروليتاريا الحديثة كان دوره أقل أهمية في أوروبا الغربية، ولكنه لعب دورا هاما في أوروبا الوسطى والشرقية، في آسيا وفي أمريكا اللاتينية وفي إفريقيا الشمالية: هو تدمير الحرفيين السابقين نتيجة معركة المنافسة بين طبقة الحرفيين والصناعة الحديثة التي كانت تشق من الخارج طريقها إلى هذه البلاد المتخلفة.
ولنلخص: إن نمط الإنتاج الرأسمالي هو نظام تصبح فيه وسائل الإنتاج احتكارا في يد طبقة اجتماعية، يكون فيه المنتجون أحرارا، ولكنه بفصلهم عن وسائل الإنتاج هذه حُرموا من أية وسيلة من وسائل العيش، وهم مكرهون بالتالي على بيع قوة عملهم إلى مالكي وسائل الإنتاج ليمكنهم الاستمرار في العيش.
إن ما يميز البروليتاري ليس في الأساس انخفاض أو ارتفاع مستوى أجره، بل بالأحرى كونه مقطوعا عن وسائله في الإنتاج، أو أنه لا يملك دخولا تكفي ليعمل لحسابه الخاص.
وإذا أردنا أن نعرف ما إذا كانت الظروف والشروط البروليتارية في طريقها إلى الزوال، أو أنها بالعكس في طريقها إلى التوسع، فإن ما ينبغي علينا أن نتفحصه ليس متوسط أجر العامل أو متوسط مرتب المستخدم، بل أن نجري مقارنة بين هذا الأجر ومتوسط استهلاكه، بعبارة أخرى إمكانيته للادخار مقارنة بنفقات التأسيس الأولى لمشروع مستقل. فإذا تبين لنا أن كل عامل وكل مستخدم يستطيع، بعد أن يعمل عشر سنوات، أن يدخر حولي 10 أو 20 أو 30 مليون، مما يمكنه من شراء مخزن أو ورشة صغيرة، يمكننا عند ذلك القول أن الشروط البروليتارية في طريقها إلى التقهقر وأننا نعيش في مجتمع تتجه ملكية وسائل الإنتاج فيه إلى الانتشار والتعميم.
أما إذا تبين لنا، على العكس من ذلك، أن الأغلبية الساحقة من الشغيلة والعمال والمستخدمين والموظفين، يبقون بعد حياة من العمل الجاد على ما كانوا عليه سابقا، أي عمليا بلا وفورات وبلا رؤوس أموال تكفي لاكتساب وسائل إنتاج، يمكن أن نخلص إلى أن الظروف والشروط البروليتارية قد انتشرت وتعممت بدلا من أن تتقلص، وأنها اليوم أكثر اتساعا مما كانت قبل خمسين عاما، وإذا رجعنا على سبيل المثال إلى الإحصاءات المتعلقة بالبنية الاجتماعية في الولايات المتحدة يتبين لنا أن النسبة المئوية من السكان العاملين الأمريكيين الذين يعملون لحسابهم الخاص، المصنفين كأرباب عمل (منظِمين) أو كمساعدين لهم من نفس العائلة، تنخفض منذ ستين عاما مرة كل خمس سنوات بلا انقطاع، بينما تزداد بانتظام، من خمسة إلى خمسة سنوات، النسبة المئوية من هؤلاء السكان التي أصبحت مكرهة على بيع قوة عملها.
وإذا تفحصنا من جهة أخرى الإحصاءات المتعلقة بتوزيع الثروة الخاصة يتبين لنا أن الأغلبية الساحقة من العمال، لعلها 95%، والأغلبية الساحقة من المستخدمين (80 أو 85%) لا تتوصل إلى تكوين ولو ثروات صغيرة أو رأسمال صغير، أي أنهم ينفقون كل دخلهم، وأن الثروات تنحصر في الواقع في جزء صغير جدا من السكان. ففي معظم البلاد الرأسمالية يملك 1%، 2%، 2,5%، 3,5% ، 5% من السكان 40%، 50%، 60% من الثروة الخاصة في البلد، ويكون الباقي في أيدي 20 أو 25% من هؤلاء السكان. إن الفئة الأولى من المالكين،هي البرجوازية الكبيرة، والفئة الثانية هي البرجوازية المتوسطة والصغيرة. وكل من هم خارج هاتين الفئتين لا يملكون عمليا سوى سلع استهلاكية (بما فيها أحيانا بيت للسكن).
إن الإحصاءات المتعلقة بحقوق الإرث، والضرائب على التركات، ذات دلالة كبيرة في هذا الصدد عندما تكون صحيحة.
إن دراسة دقيقة أجريت في بورصة نيو يورك من قبل مؤسسة بروكينغز Brookings (وهي مصدر لا يشك أحد أنه ماركسي) تكشف أن ليس في الولايات المتحدة إلا 1% و2% من العمال يملكون أسهما، وأن هذه “الملكية” تبلغ الألف دولار في المتوسط أي ما يعادل 5 ألف فرنك جديد.
إن رأس المال بكامله تقريبا هو في أيدي البرجوازية، وهذا يكشف لنا آلة التجدد الذاتي للنظام الرأسمالي: إن من يملكون رؤوس أموال يستطيعون أن يراكموا منها أكثر فأكثر، ومن لا يملكون رؤوس أموال لا يستطيعون الوصول إلى تملكها. وهكذا يستمر انقسام المجتمع إلى طبقة مالكة وطبقة مكرهة على بيع قدرتها على العمل. وثمن قوة العمل هذه، أي الأجرة، يستهلك بكامله من الناحية العملية، بينما تملك الطبقة المالكة رأس مال يزداد باستمرار بسبب فائض القيمة. إن إثراء المجتمع برؤوس الأموال إنما
يجري، إذا صح القول، لصالح طبقة واحدة من طبقات المجتمع وحسب، هذه الطبقة هي الطبقة الرأسمالية.
4- آلية الإقتصاد الرأسمالي الأساسية
والآن كيف تسير الآلية الأساسية لهذا المجتمع الرأسمالي؟
إذا ذهبتم يوما إلى بورصة القطن المصبوغ، فإنكم لن تعرفوا على وجه الدقة ما إذا كانت كمية القطن المصبوغ المتاحة مساوية للحاجات الموجودة في فرنسا في تلك الفترة أم أقل منها أو أكثر. ولن يتبين لكم الأمر إلاّ بعد مضي فترة من الوقت. أي أنه عندما يوجد فرط الإنتاج، عندما يبقى جزء من الإنتاج غير مبيع، فسترون أن الأسعار تنخفض، وعلى العكس ترتفع الأسعار عندما يوجد نقص في الإنتاج. وما دام لا يُعرف إلاّ بعد فوات الوقت ما إذا كانت كل كمية العمل المبذولة في فرع من فروع الصناعة قد استخدمت بالشكل الضروري اجتماعيا أو أنها بددت جزئيا، فإنه لن يمكن تحديد القيمة الصحيحة للسلعة إلاّ بعد فوات الوقت. فهذه القيمة هي بالتالي، إذا صح التعبير، فكرة مجردة، إنها ثابتة Constante تتقلب الأسعار حولها.
ما الذي يحرك هذه الأسعار، وبالتالي، ما الذي يحرك، على المدى الطويل بالنتيجة، هذه القيم، هذه الإنتاجية (إنتاجية العمل)، هذا الإنتاج وهذه الحياة الإقتصادية في مجموعها؟
ما الذي يحرك المجتمع الرأسمالي؟ إنها المنافسة. ليس من مجتمع رأسمالي بدون منافسة. إن مجتمعا تلغي منه المنافسة كليا وجذريا وتماما هو مجتمع لا يكون مجتمعا رأسماليا بقدر ما لا يعود قائما فيه المحرك الاقتصادي الرئيسي لأجل مراكمة رأس المال، وبالتالي القيام ب 10/9 العمليات الاقتصادية التي يقوم بها الرأسماليون.
على مَ تقوم المنافسة؟ في أساس المنافسة نجد مفهومين لا يتطابقان بالضرورة. فهناك أولا مفهوم السوق غير المحدود، السوق غير المنغلق تماما، وهناك مفهوم تعدد مراكز البت، بصورة خاصة في مجال التثمير والأرباح.
ولو وجد تركز كلي للإنتاج كله في قطاع صناعي بين يدي منشأة رأسمالية واحدة، فلا يعني ذلك إلغاء المنافسة تماما، لأن السوق غير المحدود ما يزال موجودا، وسيكون هناك على الدوام، صراع تنافسي بين هذا القطاع الصناعي وقطاعات صناعية أخرى بغية احتكار جزء كبير إلى هذا الحد أو ذاك من السوق. وثمة احتمال على الدوام في رؤية منافس جديد يعاود الظهور في هذا القطاع بالذات، متسللا من الخارج.
والعكس صحيح. فلو أننا تصورنا سوقا يكون محدودا كليا تماما، ولكن فيه عددا كبيرا من المشروعات تتصارع لاحتكار جزء من هذا السوق المحدود، فمن الواضح أن المنافسة تبقى محدودة.
إن المنافسة لا يمكن أن تلغي كليا إلاّ إذا ألغيت هاتان الظاهرتان في آن معا، أي إذا لم يعد يوجد إلاّ منتج واحد لكل السلع، وإلاّ إذا أصبح السوق مستقرا بشكل مطلق، متخثرا وغير قادر على التوسع.
إن معنى ظهور السوق غير المحدود يتوضح تماما بالمقارنة مع عهد الإنتاج السلعي الصغير. إن المنظمات المهنية في القرون الوسطى كانت تعمل من أجل سوق محدود، بصورة عامة، في المدينة وضواحيها المباشرة، وتتبع تقنية في العمل متخثرة ومحددة تماما.
إن الانتقال التاريخي من السوق المحدود إلى السوق غير المحدود يوضحه مثل “صناعة الأجواخ الجديدة” في الريف، التي حلت في القرن الخامس عشر محل صناعة الأجواخ القديمة التي كانت قائمة في المدينة. بذلك أصبح لدينا معامل الأجواخ غير مقيدة بقيود النظم الحرفية، دون قيود على الإنتاج، أي دون تقييد على التصريف، تحاول أن تتسلل بحثا عن الزبائن في كل مكان، ليس في الأمكنة المتاخمة لمراكز الإنتاج فقط، بل تحاول تنظيم التصدير حتى إلى بلاد بعيدة جدا. ومن جهة أخرى تسببت الثورة التجارية الكبرى في القرن السادس عشر في انخفاض نسبي في أسعار مجموعة من المنتجات، كانت تعتبر منتجات على جانب عظيم من الترف في القرون الوسطى، ولم يكن يقدر على شرائها سوى جزء قليل من السكان. هذه المنتجات أصبحت فجأة عند حدود تلك الثورة أقل غلاء بكثير، إن لم تكن قد أصبحت في متناول جزء هام من السكان. وأبرز مثال على ذلك هو السكر، الذي هو اليوم مادة شائعة، لا تستغني عنها اليوم بلا شك أسرة أي عامل في فرنسا وأوروبا، ولكنها في القرن الخامس عشر كانت ما تزال تعتبر منتجا بالغ الترف.
إنّ مدّاحي الرأسمالية يذكرون دوما بحسنات هذا النظام التي خفضت أسعار مجموعة من المنتجات ووسعت السوق أمامها. إنها حجة صحيحة. إنها مظهر مما يسميه ماركس “المهمة التمدينية لرأس المال”. ومن المؤكد أن الأمر يتعلق بظاهرة جدلية ولكنها فعلية، تعمل بحيث وإن تكن قيمة قوة العمل تنزع إلى الانخفاض بسبب أن الصناعة الرأسمالية تنتج بسرعة متزايدة السلع التي تكافئ الأجر، إلاّ أن قيمة قوة العمل هذه تنزع بالمقابل إلى التزايد، لأنها تشمل بصورة متزايدة قيمة جملة من السلع تصبح سلعا ذات استهلاك واسع بين الجماهير، بينما لم تكن في الماضي غير سلع استهلاكية لجزء صغير من السكان.
والحق أن كل تاريخ التجارة بين القرن السادس عشر والقرن العشرين هو تاريخ التحول المطرد من تجارة الترف إلى التجارة الجماهيرية، تجارة سلع موجهة لجزء متوسع باطراد من السكان. ولم يتم ربط العالم بمجموعه في سوق حقيقية مفتوحة لكل منتج رأسمالي كبير إلا مع نمو السكك الحديدية، ووسائل الملاحة السريعة، والمواصلات البرقية وسواها.
إن مفهوم السوق غير المحدود لا يتضمن إذن التوسع الجغرافي وحسب، بل والتوسع الاقتصادي ونمو القوة الشرائية المتاحة. لنورد مثلا حديثا، إن القفزة السريعة في إنتاج السلع الاستهلاكية المعمِّرة، في الإنتاج الرأسمالي العالمي خلال السنوات الأربع عشر الأخيرة، لم تتحقق أبدا عن طريق التوسع الجغرافي للسوق الرأسمالية، بالعكس فإنها قد اقترنت بتقلص جغرافي في السوق الرأسمالي، إذ خرجت منه مجموعة من البلاد في هذه الفترة. ليس ثمة، أو إذا وجد فعدد قليل، سيارات فرنسية أو إيطالية أو ألمانية أو بريطانية أو يابانية أو أمريكية تصدر إلى الإتحاد السوفييتي أو إلى الصين أو فيتنام أو كوبا أو كوريا الشمالية أو بلاد أوروبا الشرقية. ورغم ذلك فإن هذا التوسع قد تحقق لأن جزءا أكبر بكثير من القوة الشرائية المتاحة، المتزايدة هي أيضا، قد استخدم لشراء السلع الاستهلاكية المعمرة هذه. وليس من قبيل الصدفة أن يقترن هذا التوسع بأزمة زراعية دائمة إلى هذا الحد أو ذاك في البلاد الرأسمالية المتقدمة، حيث لم يقتصر الأمر فقط على عدم حدوث تزايد نسبي في استهلاك جملة من المنتجات الزراعية، بل أخذ هذا الاستهلاك نفسه يتناقص بصورة مطلقة، مثال ذلك استهلاك الخبز والبطاطا والفواكه والتفاح والإجاص، الخ.
إن الإنتاج من أجل سوق غير محدود، في ظروف المنافسة، يؤدي إلى تزايد الإنتاج، لأن تزايد الإنتاج يتيح تخفيض أسعار التكلفة ويتيح بالتالي التغلب على المنافس عن طريق البيع بأسعار أقل منه.
لا جدال في أن ثمة انخفاضا كبيرا في القيمة قد حدث، إذا نظرنا إلى تطور قيمة كل السلع المنتجة، على مقياس واسع في العالم الرأسمالي، في الأجل الطويل. ثمة بدلة أو سكين أو حداء أو دفتر الطالب – وقيمة هذه الأشياء الآن مقوّمة بساعات ودقائق عمل هي أقل بكثير مما كانت عليه منذ خمسين أو مائة عام.
وينبغي بطبيعة الحال مقارنة القيمة الحقيقية في مرحلة الإنتاج لا أسعار البيع التي تشمل إمّا نفقات جسيمة للتوزيع والبيع أو أرباحا مفرطة احتكارية متضخمة. لنأخذ البترول على سبيل المثال، وبخاصة البترول الذي نستخدمه في أوروبا، البترول المصدر من الشرق الأوسط. إن نفقات الإنتاج منخفضة جدا، إذ تبلغ بالكاد 10% من سعر البيع.
إن من الثابت في كل الأحوال أن هذا السقوط في القيمة قد حصل فعلا. إن تزايد إنتاجية العمل تعني انخفاض قيمة السلع، لأن هذه يتم صنعها في وقت عمل يتناقص باستمرار. تلك هي الأداة العملية التي تملكها الرأسمالية لتوسيع السوق والتغلب في المنافسة.
بأي أسلوب عملي يستطيع الرأسمالي في آن واحد أن يخفض بدرجة كبيرة سعر الكلفة ويزيد بدرجة كبيرة الإنتاج؟ عن طريق تنمية المكننة، تنمية وسائل الإنتاج،إذن تنمية وسائل الإنتاج الآلية المتزايدة التعقيد باطراد، المحركة أولا بطاقة البخار، ثم بطاقة البترول أو المازوت، وأخيرا بالكهرباء.
5- تزايد التركيب العضوي لرأس المال
إن كل الإنتاج الرأسمالي يمكن تمثيله من حيث قيمته بالصيغة التالية: ف + م + ث. إن قيمة كل سلعة تنقسم إلى جزأين: جزء منها يكون قيمة محتفظا بها، وجزء هو قيمة منتجة حديثا. إن لقوة العمل وظيفة مزدوجة وقيمة استعمال مزدوجة: المحافظة على جميع القيم الموجودة لوسائل الإنتاج، من آلات وأبنية، عن طريق دمج جزء من هذه القيمة في الإنتاج الجاري، وخلق قيمة جديدة يكون فائض القيمة، أي الربح، جزءا منها. إن جزءا من هذه القيمة الجديدة يذهب إلى العامل، وهو يمثل مقابل أجره، أمّا الجزء الآخر، فائض القيمة، فيحتكره الرأسمالي بلا مقابل.
إننا نرمز إلى مقابل الأجور بـ م، أي رأسمال متغير. لم هو رأسمال؟ لأن الرأسمالي يسلف فعلا هذه القيمة، فهي إذن جزء من رأسماله، ينفقه قبل أن تتحقق قيمة السلع التي ينتجها العمال المذكورون.
ونرمز إلى رأسمال المال الثابت بـ ث. إن رأس المال الثابت هو جزء رأس المال المتحول إلى آلات وأبنية ومواد أولية وسواها. والذي لا يؤدي الإنتاج إلى زيادة قيمته، بل إلى المحافظة عليها وحسب. ونسمي رأس مال متغير م الجزء من رأس المال الذي يشتري به الرأسمالي قوة العمل، لأنه الجزء الوحيد من رأس المال الذي يتيح للرأسمالي زيادة رأسماله بفائض قيمة.
ما هو الآن، المنطق الاقتصادي للمنافسة، للاندفاعة نحو زيادة الإنتاجية، للاندفاعة نحو زيادة الوسائل الآلية، عمل الآلات؟ إن منطق هذه الاندفاعة، أي الاتجاه الأساسي للنظام الرأسمالي هو زيادة أهمية ث ، أهمية رأس المال الثابت بالنسبة إلى مجموع رأس المال. ففي الكسر (ث+م)/ث يتجه ث إلى التزايد، أي أن الجزء من رأس المال المكون من آلات ومواد أولية، لا من أجور، يتجه إلى التزايد بنسبة النمو المتزايد للمكننة، حيث تكره المنافسة الرأسمالي على زيادة إنتاجية العمل أكثر فأكثر. هذا الكسر (ث+م)/ث نسميه التركيب العضوي لرأس المال: فهو إذن العلاقة بين رأس المال الثابت ومجموع رأس المال، ونقول إن هذا التركيب العضوي يتجه إلى التزايد في النظام الرأسمالي.
كيف يستطيع الرأسمالي أن يحصل على آلات جديدة؛ ماذا يعني قولنا أن رأس المال الثابت يتزايد باطراد؟
إن العملية الأساسية للاقتصاد الرأسمالي هي إنتاج فائض القيمة. ولكن ما دام الأمر مقتصرا على إنتاج فائض القيمة، فإن هذا الفائض يبقى مجمدا في سلع، ولا يستطيع الرأسمالي استخدامه. لا يمكن تحويل أحذية لم تبع إلى آلات جديدة، إلى إنتاجية أكبر. إن رجل الصناعة الذي يملك أحذية عليه أن يبيع هذه الأحذية ليستطيع شراء آلات جديدة، إن جزءا من حصيلة البيع سيفيد منه في شراء آلات جديدة، رأس مال ثابت إضافي.
وبعبارة أخرى: إن تحقيق فائض القيمة هو شرط تراكم رأس المال، الذي لا يعدوا أن يكون تحويل فائض القيمة إلى رأس مال.
إن تحقيق فائض القيمة هو بيع السلع بشروط بحيث يتحقق فعلا فائض القيمة الذي تتضمنه هذه السلع في السوق. إن جمع المشروعات التي تعمل في حدود متوسط إنتاجية المجتمع -التي يقابلها مجموع إنتاجها بالتالي عملا ضروريا اجتماعيا- مفروض فيها أن تحصل عن طريق بيع سلعها على مجموع القيمة وفائض القيمة المنتج في معاملها، دون زيادة أو نقصان. ونحن نعلم مما سبق أن المشروعات ذات الإنتاجية فوق المتوسطة ستحتكر جزءا من فائض القيمة الذي ينتج في مشروعات أخرى، بينما لا تحصل المشروعات التي تعمل بإنتاجية أدنى من متوسط الإنتاجية على جزء من فائض القيمة المنتج في معاملها، بل تتنازل عنه إلى معامل أخرى يرتفع مستواها التكنولوجي. إن تحقيق فائض القيمة يعني إذن بيع السلع بشروط يدفع فيها المشترون فعليا مجموع فائض القيمة الذي ينتجه عمال المعمل الذين صنعوا هذه السلع.
فحينما تباع كتلة من السلع التي أنتجت في فترة معينة، يسترد الرأسمالي مبلغا من المال يكون مقابل رأس المال الثابت الذي أنفقه في الإنتاج، أي بما في ذلك المواد الأولية التي استخدمت في هذا الإنتاج وجزء من قيمة الآلات والأبنية التي اهتلكت بهذا الإنتاج. كما أنه يسترد مقابل الأجور التي سلفها لتكون عملية الإنتاج ممكنة. ويحصل فضلا عن ذلك على فائض قيمة أنتجه عماله.
ما مصير فائض القيمة هذا؟ إن جزءا منه يستهلكه الرأسمالي بصورة غير منتجة، لأنه ينبغي على المسكين أن يعيش، ويعيل أسرته وكل من هم حوله، وكل ما ينفقه في هذه الأغراض يسحب كليا من عملية الإنتاج.
أمّا الجزء الثاني من فائض القيمة فيراكم، يستخدم ليحول إلى رأس مال. ففائض القيمة المتراكم هو إذن جزء فائض القيمة الذي لم يستهلك بصورة غير منتجة لسد الحاجات الخاصة للطبقة الحاكمة، والذي جرى تحويله إلى رأس مال، سواء أكان رأس مال ثابتا إضافيا، أي كمية (أو بالأحرى قيمة) إضافية من المواد الأولية والأبنية أو رأسمالا متغيرا إضافيا، أي وسائل لاستخدام عدد أكبر من العمال.
نستطيع الآن أن نفهم لماذا كان تراكم رأس المال يعني تحويل فائض القيمة إلى رأس مال، أي تحويل جزء كبير من فائض القيمة إلى رأس مال إضافي. كما نفهم كيف أن عملية تزايد التركيب العضوي لرأس المال تمثل سلسلة غير منقطعة من عمليات الرسملة (التحويل إلى رأس مال) أي إنتاج فائض القيمة من قبل العمال، وتحويله من قبل الرأسماليين إلى أبنية وآلات ومواد أولية وعمال إضافيين.
ليس صحيحا إذن التأكيد أن الرأسمالي هو الذي يخلق مجال الاستخدام، لأن العامل هو الذي ينتج فائض القيمة، وأن فائض القيمة هذا الذي ينتجه العامل هو الذي يحوله الرأسمالي إلى رأسمال، ويستخدمه بصورة خاصة في استخدام عمال إضافيين. وفي الواقع أن كل كتلة الثروات الثابتة التي نراها في العالم، كل كتلة المعامل والآلات والطرق والسكك الحديدية والمرافئ والحظائر وسواها -كل هذه الكتلة الضخمة من الثروات ليست سوى التجسيد المادي لكتلة من فائض القيمة خلقها العمال من العمل الذي لم يكافأوا عليه وحُوّل إلى ملكية خاصة، إلى رأس مال الرأسماليين، أي أنها برهان ساطع على الاستغلال الدائم الذي تعانيه الطبقة العاملة منذ نشوء المجتمع الرأسمالي.
هل يزيد جميع الرأسماليين باطراد آلاتهم ورأسمالهم الثابت والتركيب العضوي لرأسمالهم؟ لا. إن تزايد التركيب العضوي لرأس المال يتم بصورة تناحرية عبر صراع تنافسي يحكمه هذا القانون الذي توضحه صورة رسمها بيير برويغيل P Brueghel الرسام الكبير في بلدي: كبار السمك يلتهم صغاره.
إن صراع المنافسة يقترن إذن بتركز مستمر في رأس المال، بحلول عدد أقل من المنظمين محل عدد أكبر، وتحول عدد من المنظمين المستقلين إلى تقنيين ومديرين وجهاز إداري إن لم يكن إلى مجرد مستخدمين وعمال تابعين.
6- المنافسة تؤدي إلى التركز وإلى الاحتكارات
إن تركز رأس المال هو قانون دائم من قوانين المجتمع الرأسمالي، وهو يقترن بانحدار جزء من الطبقة البرجوازية إلى الطبقة البروليتارية، وبمصادرة عدد من البرجوازيين من قبل عدد أقل من البرجوازيين. ولهذا يؤكد “البيان الشيوعي” لماركس وانجلز على واقعة أن الرأسمالية، التي تدعي حماية الملكية الفردية، هي في الواقع المدمر لهذه الملكية الخاصة، وتقوم بمصادرة مستمرة ودائمة لعدد كبير من المالكين من قبل عدد قليل نسبيا من المالكين. إن ثمة فروعا صناعية يبدو فيها هذا التركز صارخا، بشكل خاص في استخراج الفحم، حيث كان يوجد في القرن التاسع عشر مئات من شركات الفحم في بلد كفرنسا(كان في بلجيكا حوالي مائتا شركة)، وصناعة السيارات التي كانت تعد، في مطلع هذا القرن، في بلاد كالولايات المتحدة أو إنجلترا مائة منشأة أو أكثر، تقلصت اليوم إلى أربع أو خمس أو ست منشآت على الأكثر.
ثمة صناعات، بكل تأكيد، كان التركز فيها أقل اندفاعا، كصناعة النسيج مثلا، والصناعة الغذائية وسواها. وبصورة عامة، كلما كان التركيب العضوي لرأس المال كبيرا في فرع صناعي، كان التركز أشد قوة، وكلما كان التركيب العضوي لرأس المال أقل ارتفاعا كان تركز رأس المال أضعف، لماذا؟. كلما كان التركيب العضوي لرأس المال أضعف، كلما قلت الحاجة إلى رؤوس الأموال في البداية للدخول في هذا الفرع وإقامة مشروع جديد فيه. إنه لأسهل كثيرا تجميع خمسين أو مائة مليون فرنك قديم اللازمة لتشييد معمل نسيج جديد من جمع عشرة مليارات أو عشرين مليارا اللازمة لتشييد مجمع الصلب ولو كان صغيرا نسبيا.
لقد ولدت الرأسمالية من المنافسة الحرة، ولا يمكن تصور الرأسمالية بدون منافسة. بيد أن المنافسة الحرة تولد التركز، والتركز ينتج نقيض المنافسة الحرة أي الاحتكار. وحيث يوجد عدد قليل من المنتجين، فإن هؤلاء يستطيعون بسهولة التفاهم على حساب المستهلكين عن طريق الاتفاق لتوزيع السوق فيما بينهم، والاتفاق لوقف أي انخفاض في الأسعار.
ويبدو أن الديناميكية الرأسمالية كلها قد غيرت طبيعتها خلال قرن من الزمن. كان لدينا في البداية حركة تتجه نحو الانخفاض المستمر في الأسعار عن طريق التزايد المستمر في الإنتاج، وعن طريق التضاعف المستمر لعدد المشروعات. وازدياد حدة المنافسة يفضي اعتبارا من فترة معينة من تركز المشروع إلى تقليص عدد المشروعات التي تستطيع عند ذاك التفاهم فيما بينها على عدم تخفيض الأسعار والتي لا تستطيع احترام مثل هذه الاتفاقات إلاّ بتقييد الإنتاج. بذلك حل عهد رأسمالية الاحتكارات محل رأسمالية المنافسة الحرة بدءا من الربع الأخير للقرن التاسع عشر.
لا شك أنه عند الحديث عن رأسمالية الاحتكارات، لا ينبغي قط أن ينصرف الذهن إلى رأسمالية ألغت المنافسة كليا. ذلك أمر لا وجود له. وكل ما نعنيه هو رأسمالية أصبح سلوكها الأساسي مختلفا، أي رأسمالية لا تدفع بعد إلى انخفاض مستمر في الأسعار عن طريق التزايد المستمر في الإنتاج، رأسمالية تستخدم تقنية توزيع السوق وتثبيت الحصص في السوق. بيد أن هذه العملية تنتهي إلى مفارقة. لماذا يعمد الرأسماليون، الذين كانوا يتنافسون في السابق، إلى التفاهم بغية الحد من المنافسة والحد من الإنتاج؟ لأن هذا وسيلة في يدهم لزيادة أرباحهم. إنهم لا يتفاهمون إلاّ إذا كان التفاهم يدر عليهم مزيدا من الأرباح. إن الحد من الإنتاج، إذ يتيح زيادة الأسعار، يدر مزيدا من الأرباح، ويتيح بالتالي تحقيق تراكم أكبر في رؤوس الأموال. بيد أنه لا يعود ممكنا تثمير رؤوس الأموال هذه في نفس الفرع، لأن تثمير رؤوس الأموال إنما يعني بالذات زيادة الطاقة الإنتاجية، أي زيادة الإنتاج، وبالتالي التسبب في انخفاض الأسعار. لقد وقعت الرأسمالية في هذا التناقض اعتبارا من الربع الأخير للقرن التاسع عشر. إنها تكتسب آنذاك فجأة صفة لم يتوقعها سوى ماركس وحده، وبقيت بعيدة عن فهم اقتصاديين مثل ريكاردو أوآدم سميث: إن نمط الإنتاج الرأسمالي يغير أسلوبه. إنه يأخذ في الانتشار في العالم بأسره عن طريق تصدير رؤوس الأموال، التي تنتج إقامة مشروعات رأسمالية في بلاد أو قطاعات ليس فيها احتكارات بعد.
إن النتيجة المترتبة على تحول بعض الفروع إلى احتكارات وعلى توسيع رأسمالية الاحتكارات في بعض البلاد هي توالد نمط الإنتاج الرأسمالي في بعض الفروع التي لم تتحول إلى احتكارات بعد، وفي بعض البلاد التي لم تصبح رأسمالية بعد. وعلى هذا النحو انتشر الاستعمار (الكولونيالية) وكل مظاهره، بسرعة متنامية خلال عقود قليلة من السنين، في جزء صغير من الكرة الأرضية، التي انحصر فيها في السابق نمط الإنتاج الرأسمالي، إلى العالم بأسره حوالي مطلع القرن العشرين. وبذلك تحول كل بلد في العالم إلى منطقة نفوذ وميدان استثمار لرأس المال.
7- نزوع متوسط الربح إلى الانحدار
رأينا منذ قليل أن فائض القيمة الذي ينتجه العمال في كل معمل يبقى “مجمدا” في السلعة المنتجة، وان معرفة ما إذا كان فائض القيمة هذا سيتحقق أم لا بالنسبة للرأسمالي مالك المعمل مسألة تفصل فيها ظروف السوق، أي إمكان هذا المعمل بيع سلعه بسعر يتيح له الحصول على فائض القيمة هذا. وفي وسعنا إذا طبقنا قانون القيمة الذي شرحناه هذا الصباح أن نضع القاعدة التالية: إن جميع المشروعات التي تنتج في مستوى متوسط الإنتاجية ستحصل بشكل عام على فائض القيمة الذي أنتجه عمالها، أي أنها ستبيع سلعها بسعر يعادل قيمتها.
غير أن هذا لن يكون حال فئتين من المشروعات: المشروعات التي تعمل في مستوى يقل عن مستوى متوسط الإنتاجية، والمشروعات التي تعمل في مستوى يزيد عنه.
ما معنى فئة المشروعات التي تعمل دون مستوى متوسط الإنتاجية؟ إنها ليست سوى تعميم صورة صانع الأحذية الخامل الذي تحدثنا عنه هذا الصباح. إنها، مثلا، مجمع الصلب الذي ينتج 500 ألف طن من الصلب في 2.2 مليون ساعة عمل أو في 2.5 مليون أو 3 ملايين ساعة بينما المتوسط القومي لإنتاجها هو 2 مليون ساعة. إنه يبدد إذن من وقت العمل الاجتماعي. إن فائض القيمة الذي ينتجه عمال هذا المعمل لن يحصل عليه كاملا مالكو هذا المعمل، إنه سيعمل بربح يقل من متوسط ربح كل مشروعات البلد.
بيد أن الكتلة الكلية لفائض القيمة في المجتمع هي كتلة ثابتة تتوقف في التحليل الأخير على مجموع ساعات العمل التي يبذلها مجموع العمال الذين يعملون في الإنتاج. إن هذا يعني أنه إذا وجد عدد من المشروعات لا تحصل، لأن إنتاجيتها دون مستوى متوسط الإنتاجية ولأنها بددت من وقت العمل الاجتماعي، على مجموع فائض القيمة الذي أنتجه عمالها، إلاّ أنه يبقى رصيد فائض القيمة المتاح والذي ستستحوذ عليه المعامل التي تعمل فوق مستوى متوسط الإنتاجية، والتي وفرت بالتالي وقت العمل الاجتماعي والتي يكافئها المجتمع لهذا السبب.
إن هذا التفسير النظري يساعدنا على تفهم الآليات التي تحدد حركة الأسعار في المجتمع الرأسمالي. ولكن كيف تعمل هذه الآليات من الناحية العملية؟
ما أن نكف عن تأمل عدة فروع صناعية، لتتوقف عند فرع واحد حتى تصبح الآلية جد بسيطة وشفافة.
لنقل إن متوسط سعر مبيع قاطرة يبلغ 50 مليون فرنك قديم. ما الفرق في هذه الحالة بين معمل يعمل دون مستوى متوسط الإنتاجية وآخر يعمل فوق مستوى متوسط الإنتاجية؟ إن المعمل الأول يكون قد أنفق 49 مليون من أجل إنتاج قاطرة، أي أنه لن يحصل إلاّ على مليون واحد من الأرباح. وبالعكس فإن المشروع الذي يعمل فوق متوسط إنتاجية العمل سينتج القاطرة ذاتها بإنفاق 38 مليون مثلا. إنه سيحصل تبعا لذلك على 12 مليونا من الأرباح أي على 32% من هذا الإنتاج الجاري، بينما متوسط الربح هو 10، أما المشروعات العاملة في متوسط الإنتاجية الاجتماعية للعمل فستنتج القاطرات بسعر الكلفة البالغة 45.5 مليون، ولن تحصل بالتالي إلاّ على 4.5 مليون من الأرباح، أي 10% [3].
وبعبارة أخرى، فان المنافسة الرأسمالية تحابي المشروعات الرائدة تكنولوجيا، فهذه المشروعات تحقق أرباحا إضافية تتجاوز الربح المتوسط. إن متوسط الربح هو في الحقيقة مفهوم مجرد، تماما هو شأن القيمة. إنه متوسط تتراوح حوله معدلات الربح الحقيقية في مختلف الفروع والمشروعات. إن رؤوس الأموال تتدفق نحو الفروع التي تدرّ أرباحا إضافية، وتتحسر عن الفروع التي تكون أرباحها دون المتوسط. وبسبب هذا التدفق والانحسار في رؤوس الأموال من فرع إلى آخر تتجه معدلات الربح إلى الاقتراب من هذا المتوسط، دون أن تبلغه قط بشكل مطلق وآلي.
وهاكم الآن كيف يتحقق تساوي معدل الربح. ثمة طريقة جد بسيطة لتحديد متوسط معدل الربح بصورة مجردة: نأخذ مجموع كتلة فائض القيمة التي أنتجها جميع العمال، خلال سنة واحدة مثلا، في بلد معين، وننسبها إلى مجموع كتلة رأس المال المستثمر في هذا البلد.
ما هي صيغة الربح؟ إنها العلاقة بين فائض القيمة ومجموع رأس المال إذن: (ث+م)/ف.
وينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار صيغة أخرى: م/ف ترمز إلى معدل فائض القيمة أو معدل استغلال الطبقة العاملة. إنها تحديد الأسلوب الذي نوزع بمقتضاه القيمة المنتجة حديثا بين العمال والرأسماليين.
فإذا كانت م/ف مثلا تعادل 100%، فمعنى ذلك أن القيمة المنتجة حديثا تتوزع إلى جزئين متساويين، يكون الجز الأول من نصيب العمال بشكل أجور، والجزء الثاني من نصيب الطبقة البرجوازية بمجموعها بشكل أرباح وفوائد وريع وسواها.
وحين يكون معدل استغلال الطبقة العاملة 100%، فإن يوم العمل بثماني ساعات ينقسم إذن إلى جزأين متساويين: 4 ساعات عمل ينتج العمال خلالها ما يقابل أجورهم، و4 ساعات يقدمون خلالها عملا مجانيا، عملا لا يكافئهم عليه الرأسماليون، بل يمتلكون حصيلته.
ويبدو للوهلة الأولى أنه إذا كان الكسر (ث+م)/ف يزداد بينما يتزايد التركيب العضوي لرأس المال، وأن ث تصبح أكبر فأكبر بالنسبة لـ م، فإن هذا الكسر يتجه إلى النقصان، مما يعني انخفاض متوسط معدل الربح تبعا لزيادة التركيب العضوي لرأس المال، لأن ف لا تنتج إلاّ من قبل م لا من ث. بيد أن ثمة عاملا يمكن أن يشل أثر تزايد التركيب العضوي لرأس المال: إنه بالذات تزايد معدل فائض القيمة.
إذا كان م/ف، أي معدل فائض القيمة يزداد، فمعنى ذلك أن البسط والمقام في الكسر (ث+م)/ف يزدادان كلاهما، وفي هذه الحالة يمكن للكسر في مجمله أن يحتفظ بقيمته، شريطة أن تتحقق الزيادة في كلا الحدين بنسبة معينة.
وبعبارة أخرى: إن تزايد معدل فائض القيمة يمكن أن يشل مفاعيل تزايد التركيب العضوي لرأس المال. لنفترض أن الإنتاج ث+م+ف يزداد من 100 ث+100م +100ف إلى 200ث+ 100م +100ف. بدا يكون التركيب العضوي لراس المال قد ازداد من 50 إلى 66%، وانخفض معدل الربح من 50 إلى 33%. ولكن إذا ارتفع فائض القيمة في الوقت ذاته من 100 إلى 150، أي أن معدل فائض القيمة ينتقل من 100 إلى 150% فإن معدل الربح 300/150 يبقى 50%: ان تزايد معدل فائض القيمة قد شل مفعول تزايد التركيب العضوي لرأس المال.
هل يمكن لهاتين الحركتين أن تتما تماما بالنسبة اللازمة لتشل إحداهما الأخرى؟ إننا نلمس هنا نقطة الضعف الأساسية (عقب آخيل) في النظام الرأسمالي، إن هاتين الحركتين لا يمكن أن تتطورا على المدى الطويل بنسبة واحدة، إذ ما من حد لتزايد التركيب العضوي لرأس المال. وفي الحد الأقصى يمكن لـ م أن تنخفض إلى الصفر، عندما نصل إلى الأتمتة الكاملة. فهل يمكن لـ م/ف أن تتزايد أيضا بصورة غير محدودة، دون أي قيد؟ لا، فلكي يوجد فائض قيمة، لابد من أن يكون ثمة عمال يعملون، وفي هذه الشروط فإن جزء يوم العمل الذي ينتج العامل خلاله ما يعادل أجره لا يمكن أن ينخفض إلى الصفر. يمكن إنقاص ساعات العمل من 8 إلى 7 ساعات، من 7 إلى 6 ساعات، من 6 ساعات إلى خمس ساعات، من خمس ساعات إلى أربعة ساعات، من أربعة ساعات إلى ثلاث ساعات، من ثلاث ساعات إلى ساعتين، من ساعتين إلى ساعة واحدة، إلى خمسين دقيقة. إنها لإنتاجية هائلة تلك التي تتيح للعامل أن ينتج في خمسين دقيقة ما يقابل كل أجره، إلاّ أنه لن يتمكن قط من إنتاج هذا المقابل من أجره في صفر دقيقة، وصفر ثانية. إن ثمة بقية لن يستطيع الاستغلال الإقتصادي قط أن يلغيها. مما يعني أن انهيار متوسط معدل الربح أمر محتوم مع الزمن، واعتقد شخصيا، خلافا لعدد لا بأس به من النظريين الماركسيين، أن هذا الانهيار أمر يمكن البرهنة عليه بالأرقام، بمعنى أن متوسط معدلات الربح في البلاد الرأسمالية الكبيرة هي اليوم أدنى بكثير مما كانت عليه منذ خمسين أو مائة أو مائة وخمسين عام.
صحيح أننا إذا تأملنا فترات أقصر نجد حركات باتجاه مختلف. ذلك ان ثمة عوامل عديدة تلعب دورها (سنتحدث عنها صباح غذ عندما نتحدث عن الرأسمالية الجديدة). غير أن الحركة جد واضحة في الفترات الأكثر امتدادا، سواء في ذلك معدل الفائدة أو معدل الربح. وينبغي أن نذكر أصلا أن اتجاه التطور هذا كان هو أكثر اتجاهات تطور الرأسمالية وضوحا في نظر النظريين الرأسماليين أنفسهم. فريكاردو يتحدث عنه، وجون ستيوارت ميل يلح عليه وكينز شديد الحساسية بالنسبة له. لقد كان في إنجلترا في أواخر القرن التاسع عشر ما يشبه المثل الشعبي: إن الرأسمالية تستطيع تحمل كل شيء، إلاّ انهيار متوسط معدل الفائدة إلى 2%، لأنه يلغي الحافز إلى التثمير.
من الواضح أن هذا القول السائر ينطوي على شيء من الخطأ في المحاكمة. إن لحساب النسب المئوية، ومعدلات الربح، قيمة حقيقية، إلاّ أنها قيم نسبية في النهاية بالنسبة للرأسمالي. إن ما يهمه ليس النسبة التي يربحها من رأسماله وحسب، بل هي كذلك مجموع المبلغ الذي يربحه. ولئن كانت نسبة 2% نسبة لا إلى 100 ألف بل إلى 100 مليون، فإنها تبقى مع ذلك تمثل 2 مليون، وسيفكر الرأسمالي عشر مرات قبل أن يقول أنه يؤثر أن يجمد رأسماله، بدلا من أن يكتفي بهذا الربح التافه الذي لا يتجاوز 2 مليون في السنة.
ولذلك لم نشهد في فرع من فروع الصناعة توقفا كليا في نشاط الاستثمار نتيجة انهيار معدل الربح والفائدة، بل بالأحرى تباطؤا يتزايد كلما تدنى معدل الربح. وبالعكس ففي الفروع الصناعية أو في الفترات التي تتسم بتوسع أسرع ويتجه فيها معدل الربح إلى التزايد فإن نشاط الاستثمار يسترد اندفاعه وبتسارع، وعند ذاك يبدو بأن الحركة تستمد عزمها من ذاتها. ويبدو أن هذا التوسع يجري بلا حدود إلى أن ينقلب الاتجاه من جديد
8- التناقض الأساسي في النظام الرأسمالي وأزمات فرط الإنتاج الدورية
ثمة اتجاه في الرأسمالية إلى أن توسع الإنتاج بلا حدود، إلى أن توسع دائرة نشاطها ليشمل العالم بأسره، إلى اعتبار كل الكائنات البشرية كزبائن محتملين (ثمة تناقض طريف يحسن الإشارة إليه، وقد تحدث عنه ماركس من قبل: إن كل رأسمالي يرغب دوما في أن يزيد الرأسماليون الآخرون أجورهم، لأن أجور هؤلاء العمال هي قوة شرائية لسلع الرأسمالي المنوه عنه. بيد أنه لا يقبل أن تزداد أجور عماله هو لأن هذا ينقص كما هو واضح أرباحه الخاصة).
فثمة ترابط بنيوي عجيب للعالم الذي يصبح وحدة اقتصادية، مع ترابط شديد الحساسية بين مختلف أطرافه. وتعرفون جميعا الدعايات التي استخدمت في هذا الشأن: لئن عطس فرد في بورصة نيو يورك، فمعنى ذلك خراب عشرة آلاف فلاح في ماليزيا.
إن الرأسمالية تنشئ ترابطا عجيبا بين الدخول وتوحيدا في أذواق البشر جميعا، إن الإنسان يصبح فجأة واعيا لغنى الإمكانيات البشرية، بعد أن كان في المجتمع السابق للرأسمالية سجين الإمكانات الطبيعية المحدودة لمنطقة واحدة. في القرون الوسطى لم تكن أوروبا تأكل الأناناس، لم يكونوا يأكلون إلاّ الفواكه المحلية. أمّا الآن فيأكلون، عمليا، الفواكه التي تنتج في العالم بأسره. بل أخذوا يقدمون الآن حتى على أكل فواكه الصين والهند التي لم يكونوا قد ألفوها قبل الحرب العالمية الثانية.
إن ثمة روابط متبادلة تقوم بين جميع المنتجات وجميع البشر. وبعبارة أخرى فإن الحياة الاقتصادية كلها تتسم بطابع اجتماعي متزايد إذ تصبح كلا واحدا، نسيجا واحدا. ولكن ببساطة فإن حركة الترابط هذه تتمحور كلها بشكل جنوني على المصلحة الخاصة والتملك الخاص لعدد صغير من الرأسماليين، تتناقض مصالحهم الخاصة بصورة متزايدة مع مصالح مليارات الكائنات البشرية التي ينتظمها هذا الكل الواحد.
وفي أزمات اقتصادية يتفجر بأجلى صوره التناقض بين الطابع الاجتماعي المتنامي للإنتاج والتملك الفردي الذي هو منه بمثابة المحرك والأساس، ذلك أن الأزمات الإقتصادية ظاهرات رهيبة مما لم يشهد لها مثيل من قبل. إنها ليست أزمات ندرة، قلة، كما كان شأن جميع الأزمات السابقة للرأسمالية، إنها أزمات فرط إنتاج. إن العاطلين يموتون فجأة من الجوع لا لأن الأكل المتاح لهم أقل بكثير مما يجب، بل لأنه يوجد نسبيا من المنتوجات الغذائية أكثر مما ينبغي.
قد يبدو هذا، للوهلة الأولى، أمرا يستعصي على الفهم، إذ كيف يمكن للمرء أن يموت جوعا بسبب وجود وفرة من الغداء، وفرة من السلع؟ إن آلية النظام الرأسمالي تتيح لنا فهم هذه المفارقة الظاهرية. إن السلع التي لا تجد مشتريا لها، لا تحقق فائض القيمة منها، بل إنها لا تعيد تكوين (تجديد) رأس المال المستثمر فيها. إن قلة البيع تجبر المنظمين إذن على إغلاق أبواب مشروعاتهم. وهم مضطرون إذن إلى تسريح عمالهم. وما دام هؤلاء العمال المسرحون لا يملكون احتياطيات، لأنهم لا يستطيعون الاستمرار في العيش إلاّ إذا باعوا قدرتهم على العمل، فإن البطالة تحكم عليهم بالبؤس الشديد، بالذات لأن الوفرة النسبية في السلع قد سببت عدم بيعها.
إن واقعة الأزمات الاقتصادية الدورية كامنة في النظام الرأسمالي، ولم يستطع التغلب عليها بعد. وسنرى بعد قليل أن هذا يبقى صحيحا في نظام الرأسمالية الجديدة التي نعيش في عهده الآن، حتى لو سمينا هذه الأزمات «فترات ركود». إن الأزمات هي أوضح تعبير (تجلٍّ) عن التناقض الأساسي في النظام، والتذكير الدوري بأنه محكوم عليه بالموت عاجلا أو آجلا. بيد أنه لن يموت أبدا بصورة آلية. ولا بد دوما من إعطائه دفعة صغيرة واعية للإجهاز عليه نهائيا. وهذه مهمتنا نحن، الحركة العمالية.
الهوامش:
[1] – في الواقع لا يحسب الرأسماليون معدل أرباحهم على أساس الإنتاج الجاري (وفق الإنتاج) بل على رأسمالهم المستثمر (المخزون). وبغية تفادي تعقيد الحسابات يمكن افتراض (وهو افتراض خيالي) أن إنتاج قاطرة واحدة قد امتص رأس المال بكامله.
[2] المعادلة ليست صحيحة تماما. وحرصا منا على التبسيط لم نأخذ بعين الاعتبار جزء القوة الشرائية الذي يخصمه الرأسماليون: 1- لاستهلاكهم الخاص، 2- لاستهلاك العمال الإضافيين الذين يستخدمهم الرأسماليون بفضل التثميرات الرأسمالية.
[3] – في الواقع لا يحسب الرأسماليون معدل أرباحهم على أساس الإنتاج الجاري (وفق الإنتاج) بل على رأسمالهم المستثمر (المخزون). وبغية تفادي تعقيد الحسابات يمكن افتراض (وهو افتراض خيالي) أن إنتاج قاطرة واحدة قد امتص رأس المال بكامله.
« السابقالتالي »

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ابحث في موضوعات الوكالة

برنامج ضروري لضبط الموقع

صفحة المقالات لابرز الكتاب

شبكة الدانة نيوز الرئيسية

اخر اخبار الدانة الاعلامية

إضافة سلايدر الاخبار بالصور الجانبية

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة
تعرف على 12 نوع من الاعشاب توفر لك حياة صحية جميلة سعيدة

روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية

روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية
روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية

احصائية انتشار كورونا حول العالم لحظة بلحظة

احصائية انتشار كورونا حول العالم لحظة بلحظة
بالتفصيل لكل دول العالم - احصائيات انتشار كورونا لحظة بلحظة

مدينة اللد الفلسطينيةى - تاريخ وحاضر مشرف

الاكثر قراءة

تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

-----تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

الاخبار الرئيسية المتحركة

حكيم الاعلام الجديد

https://www.flickr.com/photos/125909665@N04/ 
حكيم الاعلام الجديد

اعلن معنا



تابعنا على الفيسبوك

------------- - - يسعدنا اعجابكم بصفحتنا يشرفنا متابعتكم لنا

جريدة الارادة


أتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الارشيف

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام
الانستغرام

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة
مؤسستنا الرائدة في عالم الخدمات الاعلامية والعلاقات العامة ةالتمويل ودراسات الجدوى ةتقييم المشاريع

خدمات نيو سيرفيس

خدمات رائدة تقدمها مؤسسة نيو سيرفيس سنتر ---
مؤسسة نيوسيرفيس سنتر ترحب بكم 

خدماتنا ** خدماتنا ** خدماتنا 

اولا : تمويل المشاريع الكبرى في جميع الدول العربية والعالم 

ثانيا : تسويق وترويج واشهار شركاتكم ومؤسساتكم واعمالكم 

ثالثا : تقديم خدمة العلاقات العامة والاعلام للمؤسسات والافراد

رابعا : تقديم خدمة دراسات الجدوى من خلال التعاون مع مؤسسات صديقة

خامسا : تنظيم الحملات الاعلانية 

سادسا: توفير الخبرات من الموظفين في مختلف المجالات 

نرحب بكم اجمل ترحيب 
الاتصال واتس اب / ماسنجر / فايبر : هاتف 94003878 - 965
 
او الاتصال على البريد الالكتروني 
danaegenvy9090@gmail.com
 
اضغط هنا لمزيد من المعلومات 

اعلن معنا

اعلان سيارات

اعلن معنا

اعلن معنا
معنا تصل لجمهورك
?max-results=7"> سلايدر الصور والاخبار الرئيسي
');
" });

سلايدر الصور الرئيسي

المقالات الشائعة