الرباط: صدرت حديثا عن "دار النايا للنشر" السورية رواية تحت عنوان "العفاريت" للكاتب والناقد المغربي إبراهيم الحجري، كتبها قبل خمس سنوات وقدمها لاتحاد كتاب المغرب من أجل النشر ضمن الأعمال الصادرة عنه، ولكنها للأسف لم يكتب لها الظهور إلا خارج المغرب، كما قال لنا صاحب الرواية.
تحتضن رواية العفاريت، كما يقدمها صاحبها، جزءا من تاريخ "أم الرأس"، وجزءا من هواجس ومخاوف الطفولة، وجزءا من خرافة قرية ظالمة، وجزءا من حاضرها الملتبس الذي قرفص بعُنته على البلاد والعباد، ويتعلق الأمر بقرية "أحد أولاد أفرج"، التي قصدها الشيخ عبد الرحمن المجذوب رفقة أسرته، وأحبها، قبل أن يرحل إلى مكناس، فهناك اشتد عوده، وتشكلت هويته الفكرية والشعرية باعتباره صوفيا مميزا. لكن هذه القرية ما عاد حارسها هو المجذوب، وكأنه رحل لحدسه بأن هذه المنطقة نكد أبدي على من يتخذها موئلا، فهام على وجهه في أرض الله الواسعة، بحثا عن ظل ظليل. لقد حل بها بعده، أو قبله، رجل اسمه مسعود بن حسين، الذي جاء من بلاد "القصبة"، محملا بكثير من الكرامات والبركات التي أخذها عن شيخه سيدي أبو عبيد الشرقي، الذي لولا صراخه الشديد بعد أن تنبه بأن عرشه الصوفي كلّه يسير مقتفيا أثر مسعود الراحل على فرسه، تتبعه الخيام، والزاوية، والخيل، والأراضي، والكرامات، والبركة، وكل ما جناه السيد أبو عبيد، طيلة سنوات من الزهد والعبادة، والاعتكاف، والوعظ، لما عاد لحارس القصبة من شيء يذكر. ولولّى مجده الصوفي، الذي بات في كف عفريت إلى الأبد، لصار شيخ الزاوية الشرقاوية نسيا منسيا. يقيم مسعود، الزاوية، حيث اشتهت فرسه، ويجمع حوله المريدين والأتباع، غير بعيد عن "مشتراية"، المدينة التي تخرج منها أجداده وأساتذته وشيوخه، وبات يتوسع نفوذه يوما عن يوم، وينتشر صيته بين الزوايا والأقطاب غير بعيد عن جغرافيا شديدة الاكتظاظ بالمواقع الصوفية: أبو شعيب السارية غربا، وعبد الله أمغار في الجنوب الغربي، وأبو يعزى يلنور نحو الجنوب الشرقي، ناهيك عن سيدي إسماعيل وسيدي موسى وغيرهم. في هذه الخريطة ذات الكثافة الصوفية، ظل يجتهد مسعود ليوسع جغرافيا سلطته الرمزية، وراح يبرم التحالفات، واتفاقيات التعاون والتزوار، وتبادل الوفود. وكانت رقعة الأنصار تتوسع، ويكثر الوافدون الطالبون لرفقة الشيخ الجديد الذي حل بسهل دكالة.
كان هذا هو الإطار التاريخي الذي تتأسس عليه أسطورة النص، لكن إطارها الواقعي الناظم لحلقات الحكي هو التحول الذي طرأ على موقع الزاوية، فبعد ما كانت رمزا للعزة والغوث في زمن سلطانها الصوفي الأبي، الذي قهر عفاريت الإنس والجن، أصبحتْ موقعا مدنسا يطفح بالفقر والضياع، وملاذا قذرا للمشردين والمعتوهين والحمقى، في غياب لأي عناية للسلطة والمنتخبين بالوضع الاعتباري للمنطقة وسكانها، حيث يظل التهميش والانتهازية والاستغلال عناوين مرحلة تعاقبت خلالها مجالس وفرقاء كثر دون أن يتغير وجه القرية سوى إلى الأسوأ.
بين الماضي والحاضر، يكون الزمن كفيلا بتبديل الصور والرؤى. في الماضي، كانت الزاوية جغرافيا للورع والنبل، والشهامة، والاستقامة، والقداسة والزهد، واليوم هي مرتع للفساد المتعدد الأوجه، الأخلاقي والاجتماعي والسياسي... لم تعد مقصد العلماء والعارفين والزهاد، بل أصبحت وكرا للمنحلين والمهمشين والمتسكعين، الذين يجيئون إليها من كل البلاد، بحثا عن وهم الشفاء، يلتقي مرض الوافدين بمرض المحليين المقيمين، فتصير البلدة جسدا مريضا، بدل أن يمنح الوافدون الخلاص القديم، فهو يزيدهم داءً على دائهم. ما عادت زاوية مسعود بن حسين قادرة على تقديم ما لم تستطع تقديمه لنفسها، فقد هجرتها سلالة الصُّلاح، فروع شجرة الولي، وعوضتها عصابات اللقطاء، الناهبين، الذين يبيعون الوهم للمرضى الطارئين مقابل ما في جيوبهم، وما في أجسادهم من نضارة أيضا، ظنا منهم أنهم وارثوا بركة الأسلاف.





ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق