الخطاب السياسي في بلادنا العربية و ما أدراك ما الخطاب السياسي العربي ! مصطلحاتُ شارعٍ تتلقفها ألسنةُ مِمَّن يُفترض أن يكونوا من جحافل النخبة السياسية في البلاد العربية فيُكَوّرُونها و يُقولبونها على شكل قوالبَ تحمل نفس المعنى و إن اختلف المبنى لتتلقفها بدورها عدسات و ميكروفونات القنوات الخاصة و العمومية إضافة إلى أقلام الصحافيين من باب نقل و رصد الأخبار و الوقائع كما هي لتزُفها في آخر هذه الدورة التناقلية للخطاب السياسي بابتذالها وبذاءتها ( مصطلحات الشارع ) إلى عامة الشعب على اختلاف فئاته العمرية و المعرفية ليتشبع بها هو الآخر فيصيرَ صيرورةَ شعبويةِ أصحابِ هذا الخطاب السياسي .
لا يمكننا الجزم بحقيقة أن هذه الشعبوية متعمّدة أم عفوية و لو أنّ جلّ الإرهاصات و المعطيات المستقاة من تحليلنا لهذه الخطابات السياسة تثبت بشكل كبير أنها مفتعلة و مقصودة لغاية سياسية معينة لا تخفى على عاقل ، لا يغيب على رؤساء الأحزاب و هم من كانوا أكادميين و مثقفين قبل أن يلجوا عالم السياسة ليصبحوا حاملين للواء الخطاب السياسي و هم على أتم الدراية أنّ هذا الأخير لا يجب أن يتَنزّل إلى دركات الشعبوية و الغوغائية بل بالعكس تماما يجب أن يتنزه عنها محاولا بكل الطرق أن يصوغ فنَّ خطابٍ سياسي محترم يلفت و يجذب إليه ما تبقى من وعيٍ سياسيٍ لهذا الشعب المُنَّفر و المُطلِّقِ للسياسة بعدد طلقاتٍ لا نأمل أن يتعدى عددُها الطلقتان ليمكنه الرجوع إليها بشرعية ضرورية و صناديق عدل !
ليس تزيُدًا إن جزمنا بأن الخطاب السياسي في الساحة السياسية العربية جمعاء لم ينفض عنه غبار الكلاسيكية و العبارات التقليدية التي ما تفتأ مجالس معشر السياسيين من إعادتها في المجلس الواحد مرات عديدة ناهيك لو أحصينا عددها الكلي في عديد مجالسهم الدورية و المناسباتية فأنّى لمن يصغي إليهم ألّا يعتزل مجلسهم و يحلف يمينا غليظا أن لا يُزاول العمل السياسي و لو بمجرد المتابعة فقط ! ، هذا التكرار يُولد في النفس خمولا و لا مبالاةٍ كبيرين فيكون بذلك أولي الخطاب السياسي في وطننا العربي كمن يضيف إلى البحر ماءا في سبيل إقناع هذا المُتلقّي بالإصغاء و تبني هذا التقادم الخطابي ولو على حساب مضضه !
إن الحملة الإنتخابية الرئاسية الفرنسية الأخيرة كرست لمن يحفل بقيم الديموقراطية حقيقةَ أنّ الخطاب السياسي هو فنٌ و علم على حدّ سواء ، فلمّا ترى الرئيس الفرنسي الحالي ايمانويل ماكرون في حملته الإنتخابية يتنقل على المسرح مخاطبا جمهوره بطريقة تفاعليةٍ فنية مستعملا لغة و أسلوبا و وسائل علمية تكسب خطابه الشرعية اللازمة للتأثير و الإقناع ، كما تجده محيطا بكل المتغيرات و القضايا ناهيك عن التحديات المحلية و الدولية التي ستواجهه و بلاده إن ولج قصر الإليزي فيوضح الملتبسَ منها و يُفيض في إزالة هذا الإلتباس و التوجس برؤى و حلول سياسية عميقة أكسبته ذلك الزخم و الولاء الجماهيريين عن قناعة و ليس عن شعبوية رعناء كما هو الحال عندنا!
و من جملة ما يفتقره الخطاب السياسي العربي هو تحدي مواجهة النظراء السياسيين (خاصة رؤساء الأحزاب منهم ) لبعضهم البعض في بلاطوهات تليفيزيونية على الهواء مباشرة و تبني ثقافة الإستماع إلى الآخر و حق الرد عليه بطريقة حضارية بعيدا عن الكرنافالات_السياسية و وابل الشتائم و أطنانِ الإتهامات التي أثقلت رأس المواطن البسيط الذي هو في غنى تام عن مثل هذه السفاسف اللاّسياسية لتجده في كل مناسبة أو إستحاق يلعن السياسة و يعتبرها لغوا و كذبا وجب عليه تجنبه ، و قد غُيِّب عليه أنّها في حقيقتها السياسة علمٌ إنساني يُعنى بالشؤون و الإرهاصات الإجتماعية ليحللها و يبني من عصارة هذا التحليل رؤى و قرارات مصيرية تعالج هذه الشؤون الإجتماعية بما يُرضي من يعيشها و نعني بمن يقع عليه فعل يعيشها الشعبَ وحده لا شريك له !
يسقط و يتداعى كل هذا الكلام برمته إن لم تكن النية المضمرة وراء الخطاب السياسي خدمة الديموقراطية و صون مبادئها و قيمها الرمزية ، الديموقراطية لا تحتمل التجارة بمبادئها و قيمها فهي إن ابتسمت بادئ الأمر لمن يُتاجر بمبادئها فهذا لا يعني أنها ستبقى كذلك دون أن تنتقم لنفسها ، التجارة الزائفة مع الديموقراطية خاسِرةٌ و كاسدة من أولها ، لا يخسر المُتاجر بها قيمة الربح فقط بل رأس المال السياسي و الجماهيري بأكمله و عليه فالتفطن التفطن يا أولي الخطاب السياسي لأنّ الديموقراطية هي الوليُّ الشرعي للخطاب السياسي يُضيرها ما يضيره لأنّ صُلبهُما و مبعثهما واحد !
بقلم : يونس بلخام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق