لوحة للفنان الاردني حسن الاسمر
السياسة ودراما المصادفات اللغوية
محمد أمير ناشر النعم|
المصادفة هي باعث الدراما في حياتنا الإنسانية، التي نتجاوز من خلالها القانون الظاهري الحتمي الآلي المتكرر، فتسمو بنا من عالم النبات والحيوان إلى عالم الإنسان الناضح بالترقب والتوقع والمفاجأة والاندهاش، ولذلك قيل: «المصادفة هي الروائي الأعظم»، لأنها تؤدي وظيفتين أساسيتين: تُنشئ الحدث أولاً، ثم تضخُّ في عروقه عنصري المفاجأة والتشويق ثانياً، وهذا شأن كل ما يأتي من خارج سياق اللزوم البيّن، أو مما هو معتادٌ مألوفٌ رتيب.
ولأن ارتباط «اللغة» بـ «الوجود»، وتأثير كلٍّ منهما في الآخر هو فوق ما نتصور، فقد وُجد في عالم اللغة المحكوم بالمنطق والقوانين والنظام من المصادفات ما في الوجود نفسه من مصادفات، ولذلك قال هايدغر: «اللغة ليست أداةً تحت التصرف، بل هي الحادث الذي يتصرف في الإمكان الأعلى لوجود الإنسان». وحقيقةً لا تتصرف اللغة في وجود الإنسان في حالة انتظامها وتعاقبها فحسب، بل في حالة مفاجآتها ومصادفاتها التي تلعب بنا، فتوجّه إنشاءنا المعرفي، وبنياننا الثقافي، من خلال «جناس» يقفز في وجوهنا صدفةً، أو «بديع» يقتحمنا على حين غرة، أو «ترادف» أو «اشتراك» ينطان ويجلسان في حضننا من دون دعوة.
مصادفاتٌ لغوية تأتي بلا تعمّل، ولا تحضير، فتفرض نفسها، ثم تقوم بدورها، فتنشئ الدراما الإنسانية أيضاً في كل تجلياتها ما بين حديها الأعظميين: الكوميديا والتراجيديا.
يُنسب إلى الصاحب بن عباد أنه أراد مرةً أن يُرسل إلى قاضيه في مدينة قم رسالة، فكتب إليه: «أيها القاضي بقمْ»! ثم أُرتج عليه في اختيار عبارة تالية ذات سجع مناسب، يكمل بها مقصده، ولم يقفز أمامه سوى فعل الأمر «قمْ» فقال: «قد عزلناك فقمْ»! على رغم عدم نيته السابقة بعزله، لكن هذه المصادفة اللغوية المسجوعة فرضت نفسها على القاضي، ولم يرد تفويتها! فازدهى بها أيّما ازدهاء! وكان يقول إذا سئل، في ما بعد، عن سبب عزله: «أنا معزولُ السّجع من غير جرم ولا سبب».
ويحكى عن بعض الشعراء أنه دخل على أحد الخلفاء فوجده جالساً، وإلى جانبه جاريةٌ سوداء تدعى خالصة، وعليها من الحلي وأنواع الجواهر واللآلئ ما لا يوصف. فصار الشاعر يمتدحه، وهو يسهو عن استماعه! فلما خرج كتب على الباب:
لقد ضاع شعري على بابكم/ كما ضاع درٌ على خالصة
فقرأه بعض حاشية الخليفة، وأخبره به. فغضب لذلك، وأمر بإحضار الشاعر. فلما وصل إلى الباب مسح العينين اللتين في لفظتي «ضاع». وأُحضر بين يديه. فقال له: ما كتبت على الباب؟ قال: كتبت:
لقد ضاء شعري على بابكم/ كما ضاء درٌ على خالصة
فأعجبه ذلك، وأنعم عليه، وخرج الشاعر وهو يقول: «لله درّك من شعر! قلعتُ عيناه فأبصر». فيا لفرحته بهذه المصادفة اللغوية السعيدة! فمن خلال جناس ناقص «ضاعَ وضاءَ» جاء الفرج والتكريم على خلاف ما كان متوقعاً من عقوبة وإهانة.
لكن لو تركنا هذين المثالين الفكاهيين جانباً، وتناولنا مثالاً أكثر جدية.
كم من مقال كُتب حول: «الفتوى والتقوى»! وكم من كلام كثير تمَّ تداوله في التفريق بين عالميهما، حيث تُجوَّز بعض التصرفات في عالم «الفتوى»، وتُمنع في الوقت ذاته في عالم «التقوى»! تصوروا لو أن اللغة لم تحتوِ على صيغة «تقوى»، وإنما على صيغة «اتقاء» فقط! هل كنا سنجد مقالات تُكتب حول «الفتوى والاتقاء»؟ بتصوري لا. فالمصادفة اللغوية في الجناس ما بين «التقوى والفتوى»، فيما أظن وأحسب، هي التي فتّقت أذهاننا، ودفعتنا، وربما ألجأتنا لتدبيج كل ما قيل عن هذه «الثنائية»، حيث تغدو المصادفة اللغوية ههنا لجاماً يقودنا ويسيّرنا بإرادتنا أو من دونها، فتتحول من كونها وسيلة للكشف عن الموجود إلى وسيلة لإنشاء الوجود، وكما قيل: «فهي تجعل الأشياء الغائبة حاضرة، وغير الموجودة موجودة»، وهذا ما يدفعنا إلى القول مع القائلين: «إنّ الكلمات ليست مجرد علامات على أفكارنا، ولكنها منشئة لتلك الأفكار أيضاً». لكن لا أدري فعلاً إذا خطر على قلب برادلي، أو راسل، أو دي ألتوسير، أو فتغنشتين، أو هايدغر أن اللغة التي تنشئ الوجود لها قوة هائلة لتدميره! أَوَ لم يقل الشاعر الألماني العظيم هولدرلن: «إنّ اللغة أخطر النعم».
ولنا أن نتخيل مقدار تأثير كلمتين! كلمتين فقط! خفيفتين على اللسان، ثقيلتين على الشجر والحجر والإنسان والأوطان ثقلاً يوازي، حتى هذه اللحظة، أكثر من ثلاثمئة قنبلة نووية مجتمعة: «الأسد أو نحرق البلد»، و»الجوع أو الركوع».
كلمتان مسجوعتان بمحض المصادفة اللغوية: «الأسد» و «البلد»! مصادفة سجعية لم تكن لتجد طريقها مع «القوتلي» و «البلد» مثلاً، أو «القدسي» و «البلد» في مثل ثانٍ، أو «الأتاسي» و «البلد» في مثل ثالث، بل حتى لو عددنا أسماء جميع رؤساء سورية السابقين فلن نقع على هذه المصادفة اللغوية المشؤومة اللعينة، التي لا أدعي أنها كانت المنشِئ أصلاً لهذا الدمار الهائل، ولكنها كانت معينةً وداعمة ومعزِّزة له، لأنها خلقت في نفوس أزلام الأسد وعبيده منعكساً شرطياً بين مفردتين تجمعهما قافية واحدة بمحض المصادفة، تماماً مثلما غدا الأسد رئيساً بمحض المصادفة! والآن «الأسد» يعدل «البلد»! إن سلم «يَسْلَمُ البَلَدُ»، وإن غاب أو انقلع «تُحرق البلد».
عبارة كُتبت على جدران كل مدينة وقرية، كأنها آية من الإنجيل أو القرآن، ليتشبع بها جنود الأسد، وتمتلئ بها نفوسهم وأرواحهم، وليستمدوا منها طاقة التدمير وشرعية التقويض، ولتزرع الخوف والهلع والانهيار والاستسلام في نفوس أبناء البلد على اختلاف صنوفهم وأنواعهم وتوجهاتهم، وهيالمصادفة اللغوية نفسها القاتلة التي جمعت ما بين كلمتي «الجوع» و «الركوع»! والتي كتبت على جدران المدن المحاصرة، ليستمد المحاصِرون منها شرعية حصارهم، وقسوة قلوبهم، وتحجّر ضمائرهم، ولتقذف اليأس في قلوب المحاصَرين، والخور في نفوسهم، والخشية واللهفة على رُضَّعهم، وصغارهم، وأطفالهم.
وفعلاً: إن اللغة في يد الأسد تجرح!
ولأن ارتباط «اللغة» بـ «الوجود»، وتأثير كلٍّ منهما في الآخر هو فوق ما نتصور، فقد وُجد في عالم اللغة المحكوم بالمنطق والقوانين والنظام من المصادفات ما في الوجود نفسه من مصادفات، ولذلك قال هايدغر: «اللغة ليست أداةً تحت التصرف، بل هي الحادث الذي يتصرف في الإمكان الأعلى لوجود الإنسان». وحقيقةً لا تتصرف اللغة في وجود الإنسان في حالة انتظامها وتعاقبها فحسب، بل في حالة مفاجآتها ومصادفاتها التي تلعب بنا، فتوجّه إنشاءنا المعرفي، وبنياننا الثقافي، من خلال «جناس» يقفز في وجوهنا صدفةً، أو «بديع» يقتحمنا على حين غرة، أو «ترادف» أو «اشتراك» ينطان ويجلسان في حضننا من دون دعوة.
مصادفاتٌ لغوية تأتي بلا تعمّل، ولا تحضير، فتفرض نفسها، ثم تقوم بدورها، فتنشئ الدراما الإنسانية أيضاً في كل تجلياتها ما بين حديها الأعظميين: الكوميديا والتراجيديا.
يُنسب إلى الصاحب بن عباد أنه أراد مرةً أن يُرسل إلى قاضيه في مدينة قم رسالة، فكتب إليه: «أيها القاضي بقمْ»! ثم أُرتج عليه في اختيار عبارة تالية ذات سجع مناسب، يكمل بها مقصده، ولم يقفز أمامه سوى فعل الأمر «قمْ» فقال: «قد عزلناك فقمْ»! على رغم عدم نيته السابقة بعزله، لكن هذه المصادفة اللغوية المسجوعة فرضت نفسها على القاضي، ولم يرد تفويتها! فازدهى بها أيّما ازدهاء! وكان يقول إذا سئل، في ما بعد، عن سبب عزله: «أنا معزولُ السّجع من غير جرم ولا سبب».
ويحكى عن بعض الشعراء أنه دخل على أحد الخلفاء فوجده جالساً، وإلى جانبه جاريةٌ سوداء تدعى خالصة، وعليها من الحلي وأنواع الجواهر واللآلئ ما لا يوصف. فصار الشاعر يمتدحه، وهو يسهو عن استماعه! فلما خرج كتب على الباب:
لقد ضاع شعري على بابكم/ كما ضاع درٌ على خالصة
فقرأه بعض حاشية الخليفة، وأخبره به. فغضب لذلك، وأمر بإحضار الشاعر. فلما وصل إلى الباب مسح العينين اللتين في لفظتي «ضاع». وأُحضر بين يديه. فقال له: ما كتبت على الباب؟ قال: كتبت:
لقد ضاء شعري على بابكم/ كما ضاء درٌ على خالصة
فأعجبه ذلك، وأنعم عليه، وخرج الشاعر وهو يقول: «لله درّك من شعر! قلعتُ عيناه فأبصر». فيا لفرحته بهذه المصادفة اللغوية السعيدة! فمن خلال جناس ناقص «ضاعَ وضاءَ» جاء الفرج والتكريم على خلاف ما كان متوقعاً من عقوبة وإهانة.
لكن لو تركنا هذين المثالين الفكاهيين جانباً، وتناولنا مثالاً أكثر جدية.
كم من مقال كُتب حول: «الفتوى والتقوى»! وكم من كلام كثير تمَّ تداوله في التفريق بين عالميهما، حيث تُجوَّز بعض التصرفات في عالم «الفتوى»، وتُمنع في الوقت ذاته في عالم «التقوى»! تصوروا لو أن اللغة لم تحتوِ على صيغة «تقوى»، وإنما على صيغة «اتقاء» فقط! هل كنا سنجد مقالات تُكتب حول «الفتوى والاتقاء»؟ بتصوري لا. فالمصادفة اللغوية في الجناس ما بين «التقوى والفتوى»، فيما أظن وأحسب، هي التي فتّقت أذهاننا، ودفعتنا، وربما ألجأتنا لتدبيج كل ما قيل عن هذه «الثنائية»، حيث تغدو المصادفة اللغوية ههنا لجاماً يقودنا ويسيّرنا بإرادتنا أو من دونها، فتتحول من كونها وسيلة للكشف عن الموجود إلى وسيلة لإنشاء الوجود، وكما قيل: «فهي تجعل الأشياء الغائبة حاضرة، وغير الموجودة موجودة»، وهذا ما يدفعنا إلى القول مع القائلين: «إنّ الكلمات ليست مجرد علامات على أفكارنا، ولكنها منشئة لتلك الأفكار أيضاً». لكن لا أدري فعلاً إذا خطر على قلب برادلي، أو راسل، أو دي ألتوسير، أو فتغنشتين، أو هايدغر أن اللغة التي تنشئ الوجود لها قوة هائلة لتدميره! أَوَ لم يقل الشاعر الألماني العظيم هولدرلن: «إنّ اللغة أخطر النعم».
ولنا أن نتخيل مقدار تأثير كلمتين! كلمتين فقط! خفيفتين على اللسان، ثقيلتين على الشجر والحجر والإنسان والأوطان ثقلاً يوازي، حتى هذه اللحظة، أكثر من ثلاثمئة قنبلة نووية مجتمعة: «الأسد أو نحرق البلد»، و»الجوع أو الركوع».
كلمتان مسجوعتان بمحض المصادفة اللغوية: «الأسد» و «البلد»! مصادفة سجعية لم تكن لتجد طريقها مع «القوتلي» و «البلد» مثلاً، أو «القدسي» و «البلد» في مثل ثانٍ، أو «الأتاسي» و «البلد» في مثل ثالث، بل حتى لو عددنا أسماء جميع رؤساء سورية السابقين فلن نقع على هذه المصادفة اللغوية المشؤومة اللعينة، التي لا أدعي أنها كانت المنشِئ أصلاً لهذا الدمار الهائل، ولكنها كانت معينةً وداعمة ومعزِّزة له، لأنها خلقت في نفوس أزلام الأسد وعبيده منعكساً شرطياً بين مفردتين تجمعهما قافية واحدة بمحض المصادفة، تماماً مثلما غدا الأسد رئيساً بمحض المصادفة! والآن «الأسد» يعدل «البلد»! إن سلم «يَسْلَمُ البَلَدُ»، وإن غاب أو انقلع «تُحرق البلد».
عبارة كُتبت على جدران كل مدينة وقرية، كأنها آية من الإنجيل أو القرآن، ليتشبع بها جنود الأسد، وتمتلئ بها نفوسهم وأرواحهم، وليستمدوا منها طاقة التدمير وشرعية التقويض، ولتزرع الخوف والهلع والانهيار والاستسلام في نفوس أبناء البلد على اختلاف صنوفهم وأنواعهم وتوجهاتهم، وهيالمصادفة اللغوية نفسها القاتلة التي جمعت ما بين كلمتي «الجوع» و «الركوع»! والتي كتبت على جدران المدن المحاصرة، ليستمد المحاصِرون منها شرعية حصارهم، وقسوة قلوبهم، وتحجّر ضمائرهم، ولتقذف اليأس في قلوب المحاصَرين، والخور في نفوسهم، والخشية واللهفة على رُضَّعهم، وصغارهم، وأطفالهم.
وفعلاً: إن اللغة في يد الأسد تجرح!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق