في الحاجة إلى مفهوم التقدم - بقلم : موريس عايق

. . ليست هناك تعليقات:
لوحة للفنان التونسي خالد خليل
بقلم : موريس عايق 

منذ عصر النهضة العربية حظي مفهوم التقدم بمكانة مركزية في النقد الاجتماعي، فالنهضة صاغت سؤالها المركزي بالإحالة إليه: لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟ غير أن ضبط المفهوم وتأكيد محوريته تحقق لاحقاً مع حركات التحرر الوطني والحركات اليسارية التي جعلت من التقدم لاهوتاً قائماً بذاته، وذلك بالاعتماد على أيديولوجيات القرن التاسع عشر التي جعلت من التقدم مساراً إجبارياً للبشرية.

لم يكن، خلال هذه الفترة، من معنى للنقد الاجتماعي من دون الاتكاء على فكرة التقدم، فالنقد تم باسم مسيرة التاريخ والمستقبل الأفضل الذي يراكم على ما هو قائم حالياً، والأفضل -بدوره- مما سبق، سواء كان هذا النقد باسم حقوق المرأة أو الديموقراطية أو المساواة والعدالة أو حرية الشعوب.

لاحقاً حصل تحول هائل في ما يخص مكانة مفهوم التقدم، تحول يجد تبريره في مآسي القرن العشرين وفشل وعود التقدم. فظهرت تيارات ترى في مفهوم التقدم أيديولوجيا وأداة هيمنة وسيطرة. لم يكن نقد التقدم بحد ذاته شأناً حديثاً، فقد سبق وظهر مع الرومانسية التي استعاد نقدُ التقدم المعاصر العديد من أفكارها. فنشأت تيارات متنوعة معنية حصراً بنقد التقدم، وقد حاول بعضها تقديم نقد اجتماعي متحرر من مفهوم التقدم، فيجمع بين النقد الاجتماعي ورفض التقدم.

السؤال الذي يعنينا هنا، وبتجاهل التيارات المبنية حصراً على نقد التقدم، هو: هل يمكن القيام بنقد اجتماعي -مثل نقد الرأسمالية أو وضع السلطة والبنية البطريركية أو عدم المساواة والاستبداد- يؤسس لفعل إيجابي من دون مفهوم التقدم؟ أو بتعبير آخر، ما الذي يترتب على مثل هذا النقد الاجتماعي المتخلي عن "التقدم"؟

الإجابة ستكون بالنفي، فلا يمكن القيام بمثل هذا النقد إن تخلينا عن مفهوم التقدم. يكمن السبب في أننا نفقد عندها أي تصور بصدد المعيار الذي نستعين به في النقد، فبغياب أي معيار -وهو ما يتيحه لنا مفهوم التقدم- تبدو جميع الأشياء سواء، فتظهر السلطة والهيمنة ملتبسة في كل موقف أو ادعاء. المعيار الوحيد الذي نملكه، في حال تخلينا عن مفهوم التقدم، هو الماضي. عندها يبدو كل نقد اجتماعي بمثابة صورة عن النقد الرومانسي مستعيداً أشكالاً متخيلة ومتوهمة عن الحياة والطبيعة ليضعها في مواجهة الحداثة، أشكال لم توجد حقيقة في الماضي ولكن بُنيت من داخل الأيديولوجيا بوصفها أنماط حياة مضادة للحداثة. فيصبح لدينا القرية المثالية والجماعة المثالية والدولة الإسلامية المثالية والتعايش المثالي للمذاهب والجماعات المختلفة، بحيث تُقدم وكأنها شكل الحياة الذي رضي به الجميع وتمتعوا بفضله بأفضل الأوضاع.

قد لا يتبنى جميع النقاد مثل هذا الموقف، لكن بتخليهم عن مفهوم التقدم فإنهم لا يملكون أية حصانة في مواجهة مثل التوظيفات للنقد. وأفضل ما هو متاح لهم عندها هو الصمت وعدم قول أي شيء، بمعنى آخر أن يكتفوا بالنقد والتحطيم، وهو ما كان واضحاً لدى ميشيل فوكو. التحدي الآخر الذي سيواجهونه هو النماذج المضادة القائمة في الحاضر مثل بوتين وأوربان وخامنئي وغيرهم، حيث يجعلنا نقد الديموقراطية الليبرالية المقطوع عن مفهوم التقدم عراة أمام هذه النماذج السلطوية. حيث يمكن لهؤلاء أن يرفعوا شعار الخصوصية الثقافية والحضارية والنسبية الأخلاقية في مواجهة التقدم الإنساني، الذي يعايرونه بوصفه مجرد أداة في يد الإمبريالية والهيمنة الغربية. بالقطع التام مع فكرة التقدم فإنه لا يوجد رد تجاه هذه التحديات. بالمقابل لا يمكن استعادة مفهوم التقدم وكأن شيئاً لم يحصل، وكأنه مفهوم غير ملتبس وغير إشكالي ولا يعاني من تناقضاته وثغراته الخاصة. فقد استُخدم المفهوم زمناً طويلاً لتبرير الهيمنة والاستعمار، واستُخدم كذلك لتبرير مشاريع استبداد سياسي وهندسة اجتماعية انتهت بكوارث إنسانية.

ما يميز فكرة التقدم الموروثة من القرن التاسع عشر هو طبيعتها اللاهوتية، كونها لاهوت التقدم، أي مسيرة تاريخية ضرورية ومحددة، سنسيرها جميعنا بقوة التاريخ وبمعزل عن الأثمان التي يتوجب علينا دفعها، ولكن في النهاية سنصل. من الطبيعي أن لكل أيديولوجيا لاهوت تقدمها الخاص، طوباها الخاصة. وهذا فتح الباب على مصراعيه لصراع الأيديولوجيات الكبير في القرن العشرين، صراع بين عقائد لاهوتية متباينة حول التقدم. لاهوت التقدم هذا هو الذي انتهى، ولا مغزى لاستعادته أو المنافحة عنه، لاهوت يجد أصوله أساساً في التقاليد اللاهوتية لتواريخ الخلاص. ليس الوعد الخلاصي في التاريخ وحده ما انتهى، بل أيضاً الوعد بمعرفة نهائية وشاملة للعالم ومؤسسة على نفسها، وهذا بفضل الإنجازات في الرياضيات كما في الفيزياء. هناك حدود لما يمكن لنا معرفته، حدود لما يمكن للعلم أن يجيب عنه. هذه الوعود الكبرى، النهائية والخلاصية، انتهت. لكن هذا لا يعني، بدوره، نهاية أية فكرة حول التقدم، فالموضوع ليس كل شيء أو لا شيء.

يمكن تبني مقاربة براغماتية للتقدم بالنظر إليه من زاوية التمكين والرفاه الإنسانيين، وهي مسائل يمكن ملاحظتها. ارتفاع مستوى الحياة، ارتفاع مستوى الإمكانيات والمشاركة للأفراد والشعوب، التحسن في الرعاية الصحية وغيرها، كما الارتفاع في مستوى الحياة الروحية والثقافية وإمكانيات التمتع بحياة جيدة وممتعة، والتطور المرافق في المؤسسات والإجراءات والمعايير التي تمكننا من المحافظة على كل هذا. لكن، أيضاً، من دون تحويلها إلى أيديولوجيا.

كل البشر يرغبون بالتمتع بمستوى حياة مواز لذلك الذي يتمتع به الأوروبي أو الأميركي في ما يخص استهلاك الطاقة والمواد والغذاء، وهم يسعون إلى تحقيق هذا، لكن عندها لن تكفينا الأرض. هذا المثل يمكن أن يفيد من جهة في نقد أنماط حياة تدعي أنها متقدمة، ولكنها في الوقت عينه غير سوية وتتعارض مع المساواة والتمكين لأكبر عدد من البشر. لكنه أيضاً -ومن ناحية أخرى- يفيد في إظهار حدود ومفارقة فكرة التقدم. ثمار التقدم، ما نفترضه في لحظة تاريخية معينة تقدماً، ليست بالضرورة كلها جيدة، بل لها أيضاً سلبياتها. التقدم مسيرة ممتدة من دون هدف نهائي ومحدد، مسيرة محفوفة بمنعطفاتها ومشكلاتها الناشئة عن الطريق نفسه، لكن ومع هذا تبقى مسيرة إلى الأمام. وكما عبر إدوارد برنشتاين مرة عن هذا، بأن الهدف النهائي ليس شيئاً ولكن الحركة هي كل شيء.

فكرة مخففة عن التقدم لا تعني أن التقدم ليس مفهوماً إشكالياً، على العكس تقبل بالطبيعة الإشكالية للتقدم وبأنه يتضمن العديد من الإشكاليات الداخلية، مثل التقدم التقني الذي قد يقودنا إلى كوارث بيئية. لكن مقاربة براغماتية ومخففة للتقدم تسمح أيضاً بمعالجة هذه التناقضات والاستعصاءات الداخلية في سياقاتها، من دون الحاجة إلى ربط المفهوم بلاهوت يقوم على الضرورة والهدف النهائي. في الوقت نفسه، لن نخسر الطاقة النقدية لمفهوم التقدم في مواجهة السلطويات والرجعيات، أي التقدم بوصفه سلاحاً فعالاً في النقد الاجتماعي الذي لا يستقيم من دونه، نقد ينظر إلى المستقبل.

* كاتب سوري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ابحث في موضوعات الوكالة

برنامج ضروري لضبط الموقع

صفحة المقالات لابرز الكتاب

شبكة الدانة نيوز الرئيسية

اخر اخبار الدانة الاعلامية

إضافة سلايدر الاخبار بالصور الجانبية

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة
تعرف على 12 نوع من الاعشاب توفر لك حياة صحية جميلة سعيدة

روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية

روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية
روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية

احصائية انتشار كورونا حول العالم لحظة بلحظة

احصائية انتشار كورونا حول العالم لحظة بلحظة
بالتفصيل لكل دول العالم - احصائيات انتشار كورونا لحظة بلحظة

مدينة اللد الفلسطينيةى - تاريخ وحاضر مشرف

الاكثر قراءة

تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

-----تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

الاخبار الرئيسية المتحركة

حكيم الاعلام الجديد

https://www.flickr.com/photos/125909665@N04/ 
حكيم الاعلام الجديد

اعلن معنا



تابعنا على الفيسبوك

------------- - - يسعدنا اعجابكم بصفحتنا يشرفنا متابعتكم لنا

جريدة الارادة


أتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الارشيف

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام
الانستغرام

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة
مؤسستنا الرائدة في عالم الخدمات الاعلامية والعلاقات العامة ةالتمويل ودراسات الجدوى ةتقييم المشاريع

خدمات نيو سيرفيس

خدمات رائدة تقدمها مؤسسة نيو سيرفيس سنتر ---
مؤسسة نيوسيرفيس سنتر ترحب بكم 

خدماتنا ** خدماتنا ** خدماتنا 

اولا : تمويل المشاريع الكبرى في جميع الدول العربية والعالم 

ثانيا : تسويق وترويج واشهار شركاتكم ومؤسساتكم واعمالكم 

ثالثا : تقديم خدمة العلاقات العامة والاعلام للمؤسسات والافراد

رابعا : تقديم خدمة دراسات الجدوى من خلال التعاون مع مؤسسات صديقة

خامسا : تنظيم الحملات الاعلانية 

سادسا: توفير الخبرات من الموظفين في مختلف المجالات 

نرحب بكم اجمل ترحيب 
الاتصال واتس اب / ماسنجر / فايبر : هاتف 94003878 - 965
 
او الاتصال على البريد الالكتروني 
danaegenvy9090@gmail.com
 
اضغط هنا لمزيد من المعلومات 

اعلن معنا

اعلان سيارات

اعلن معنا

اعلن معنا
معنا تصل لجمهورك
?max-results=7"> سلايدر الصور والاخبار الرئيسي
');
" });

سلايدر الصور الرئيسي

المقالات الشائعة