> والأدب يبدأ هنا، معنا، منذ البداية: منذ تركيبة الفيلم التي تضعنا مباشرة أمام «الكوميديا الإلهية» لشاعر إيطاليا النهضوي المؤسس دانتي. ففي «الكوميديا الإلهية» ثمة رحلة يقوم بها الشاعر/ الراوي في أقسام الملكوت الأعلى الثلاثة: الجحيم، المطهر، والفردوس. وهذا التقسيم نفسه هو الذي استعاره شاعر السينما المعاصرة غودار، ليبني عليه «موسيقانا» الذي يقسمه بدوره إلى ثلاث مراحل، أو ممالك تحمل الأسماء نفسها، ولكن من دون أي توازن في التقسيم الزمني، وطبعاً من دون أن تكون الغاية المتوخاة من هذا التقسيم، نفس الغاية التي توخاها دانتي من عمله. دانتي كان في عمله يبحث عن حبيبته بياتريس التي كانت فارقت عالمنا، ودانتي كان يقوده في بعض رحلته سلفه الشاعر اللاتيني فرجيل صاحب «الإلياذة». أما غودار، فإنه في «موسيقانا» لا يبحث عن حبيبة أنثى، بالأحرى هو يبحث عن وسيلة تمكنه من فهم ما يحدث في العالم، وكذلك إعادة الارتباط بهواجس قديمة لديه: من الأدب إلى فلسطين، ومن الصورة إلى مبدأ التواصل إلى الحرب. ولكن هذا كله من الصعب في فيلم غودار هذا، إدراكه على مثل هذه البساطة. ذلك أن السينما لدى غودار هي- وكما كانت لديه دائماً- تكاد تشبه قصيدة شعر، أو لعبة كلمات متقاطعة بالغة الذكاء، أو لعبة كولاج من الصعب أن تكون الغاية منها مجرد عملية فهم وإفهام. بل نقل أحاسيس ومشاعر في نوع من العدوى الفكرية والحدثية في آن معاً. ومن هنا يمكننا طبعاً أن نواصل الحديث عن البعد الأدبي في هذا الفيلم، متوقفين خاصة عند واقع أن الساعة الزمنية التي يصور لنا غودار فيها «المطهر» إنما تدور من حول لقاء في مدية ساراييفو يتعلق بالأدب والكتاب، كما أن الشخصيات التي يتم استجوابها في هذا القسم، شخصيات أدبية (محمود درويش، خوان غويستولو) ناهيك بأن المرجعية الأساسية هنا هي هوميروس صاحب الإلياذة والأوديسة الأعمى، الذي تحدث عن الحروب وفظائعها من دون أن يخوضها أو يراها.
> وإذا كان الأدب حضر بكل هذه القوة، فإن التاريخ الذي كان تاريخ الحروب في «الجحيم» حضر كذلك وبقوة. المهم هنا أن نشير إلى أن في «موسيقانا» مساراً «حدثياً» خطياً واضحاً، يجمع ذلك كله. والمهم أيضاً- انطلاقاً من هنا- أن نشير إلى أن الفيلم يمتلئ- في قسمه الثاني على الأقل- بشخصيات تقول ما تريد، وتطرح من الأسئلة ما تشاء. وهناك أماكن محددة، منها ساراييفو عاصمة البوسنة التي كانت مزقتها حروب البلقان، وجسر موستار الذي كان يربط بين عالمين في مدينة واحدة، وها هو يعاد بناؤه حجراً حجراً. وهناك فلسطين... التي تظهر عدة مرات حيناً من خلال الحوار مع مترجم فرنسي يهودي من أصل مصري، ثم خاصة من خلال ابنة أخ هذا المترجم، وهي أولغا الشخصية المخترعة التي تريد أن تجري حواراً حول فلسطين مع محمود درويش. أولغا، هي الشخصية الروائية الرئيسية في الفيلم: إنها الأداة التي يحركها غودار للتوغل في داخل كتابه وشعرائه (محمود درويش خاصة)، وكذلك لاستعادة «خيانة» الفرنسيين لليهود خلال الحرب العالمية الثانية، وأخيراً ليحولها إلى ضحية تموت انتحاراً إذ تتخذ سمات إرهابية، لكي تنتقل في الجزء الآخر إلى «الفردوس» الذي يخفره جنود بحارة أميركيون.
> إذن... هناك كل هذا من حول أولغا... وهناك الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي... وثمة شعراء وكتاب وصحافيون وفلاسفة وهنود حمر، يكاد خطابهم يشبه خطاب محمود درويش. وكالعادة هناك أفلام وكتب، وسينما ولقاءات ومحاضرات وصور فوتوغرافية. ثم أخيراً لأنثمة في مواجهة كل هذا سينمائي يعرض، من خلال طرحه للأسئلة وعبوره للضفتين جملاً وعبارات حادة، إن أفضل طريقة لولوج عمل من هذا النوع هو تجميع العناصر ثم تركيبها إلى بعضها البعض وتركها، هي، لتقول في نهاية الأمر أسئلتك، أو أجوبتك، إذا شئت... نجدنا في نهاية المطاف أمام عمل كبير، يمت إلى الفلسفة والتاريخ كما يمت إلى السينما والأدب بأكثر من صلة.
> «موسيقانا»، فيلم كولاج. لكن الكولاج هنا، وكما العادة لدى غودار هو كولاج مفهومي، بقدر ما هو كولاج بصري... يدعي في الظاهر أنه يترك للمتلقي حرية التلقي كما يشاء- قصد أن يعيد- هذا المتلقي- تركيب العمل. لكن هذه الحرية ليست سوى ظاهرية، لأن غودار وبعصا سحرية خفيفة يعرف هو سرها، يوصل متلقيه حيث يشاء هو، من دون أن تبرح وجهه ملامح البراءة المرتسمة دائماً. وفي «موسيقانا»- الذي يجب أن نؤكد منذ الآن أنه ليس فيلماً عن الموسيقى كما قد يوحي عنوانه- محطة أخيرة يريد غودار لمتلقيه أن يصل إليها. ظاهرياً توصلنا النهاية إلى «الفردوس»- الذي يتألف من مقطع سينمائي في عشر دقائق، فيه أولغا، الصبية الحسناء تصل إلى شاطئ صغير قرب بحر يملأه شجر وارف وحس بالدعة والسلام. إنها الجنة، ولكن رضوان حارسها تحول إلى جنود أميركيين، لا يمكن ولوج الفردوس من دون إذنهم.
> ما الذي أراد غودار أن يقوله بهذه النهاية؟ لا نعتقد أن الإجابة يجب أن تكون تفسيرية وبالكلمات: المشهد هنا ودلالته هما في تعبيره البصري. وواضح أن هذه الدلالة سوف يبسّطها، إلى حد لا يطاق أي تفسير منطقي لها... ولا يمكن أن ينظر إليها في انفصال عن بقية ما في «موسيقانا». وفي «موسيقانا» منذ البداية واقع الحرب ثم تفسير الحرب وموقف الإنسان منها. وإذا كان غودار قد صوّر الحرب في مونتاج يليق حقاً بسلفه الكبير ايزنشتاين... فإنه عرف كيف يمزج «كل» الحروب في بعضها البعض، في استمرارية توحيدية مدهشة: بالألوان وبالأسود والأبيض على إيقاع موسيقى بيانو هادئة وصوت أنثوي يقطع الموسيقى، وصوت القصف والدمار بين الحين والآخر مردداً أربع جمل... لكن اللافت حقاً هو إن هذا كله في رعبه وقسوته سرعان ما يهدأ بعد الدقائق المخصصة له، لننتقل إلى «المطهر» بدءاً من مطار ساراييفو، وصولاً بعد ساعة إلى مطارها مرة أخرى: إنها رحلة غودار ذهاباً وإياباً في ساراييفو، ولكن أيضاً في شكل موارب في فلسطين وفي تاريخها كما في تاريخ الهنود الحمر. و «المطهر» الذي يشكل ما يملأ هذه الساعة، يشكل بالتالي، العمود الفقري للفيلم: هنا، من خلال زيارة غودار لساراييفو، تلتقي الكاميرا بالكتّاب والمبدعين والفلاسفة متراوحين بين شخصيات حقيقية وشخصيات وهمية. غير أن اللقاء الأساس هنا يكون مع حرب البوسنة وبالتالي مع الحرب على الفلسطينيين: لماذا ساراييفو؟ مرة أخرى: لأن فلسطين... فالمقطع الخاص بفلسطين هنا يبدو أساسياً، وليس فقط لأن «بطله» هو محمود درويش، ولا لأنه يتم عبر مجابهة بين غودار وموضوعه. هنا يبدو غودار بالأحرى واقفاً على الحياد. أما محمود درويش- شاعر الضمير الفلسطيني الحديث- فيبدو أنه الأنا- الآخر لهوميروس شاعر طروادة. ووسيلة تبيان هذا هي أولغا الصحافية الإسرائيلية التي سيشكل انتحارها لاحقاً أداة وصولنا إلى الفردوس. باختصار، في هذا الفيلم قد تكون دقائق قليلة هي تلك التي يكرسها غودار لقضيتنا الفلسطينية. ولكن لا شك أنها تساوي ألف فيلم سبق أن حقق عن فلسطين!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق