جنى الحسن |
في عام 2009، قبل ثلاثة أعوام من إعلانه اعتزال الكتابة، توقّع الكاتب الأميركي فيليب روث موت الرواية أو احتضارها. وقال إنّ قرّاء الرواية بعد 25 عاما سيصبحون أشبه بـ"أقليّة إثنية"، مجموعة قليلة من الأشخاص، ربما أقل بقليل ممّن يقرأون الشعر اللاتيني اليوم.
بالنسبة لروث، تكمن المشكلة في الكتاب المطبوع نفسه، لأنّ قراءة الرواية تحديدا تحتاج الكثير من الصبر والتركيز والإخلاص للقراءة. وهذا أمر يصبح شبه مستحيل يوما بعد يوم في عالم تجتاحه التكنولوجيا وأصبحت فيه مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر المصدر الأساسي لاستهلاك القارئ ليس فقط للأخبار بل للمعلومات أيضا. الكتاب الإلكتروني لا يمكنه إنقاذ الكتاب الورقي من المأزق، يعتقد روث، على الرغم من وجود تطبيقات أو أنظمة للقراءة الإلكترونية، وذلك لأن الكتاب لا يمكنه أن يتنافس مع الشاشة. ونذهب هنا إلى الشاشة بمعناها البصري، شاشة التلفزيون أو شاشة السينما.
وعلى نفس خط توقعات روث، يشير الكاتب البريطاني من أصل بنغلاديشي زيا رحمن حيدر إلى أن مبيعات الأعمال الروائية انخفضت خلال السنوات الخمس الماضية بنسبة 23%. لكن حيدر يرى أن التلفزيون ينقذ بشكل أو بآخر الرواية عبر اقتباس الأعمال الروائية وإعادة إنتاجها سواء في الأفلام أو في المسلسلات التلفزيونية.
وهناك نقطة أخرى مثيرة للاهتمام يشير إليها رحمن في مقاله وهي أن الإنتاج التلفزيوني أو السينمائي الدرامي ينتج شخصيات بشرية معقدة تثير التعاطف مع الكثير من الحالات الإنسانية، وهي شخصيات تضاهي الشخصيات الروائية. لكنه يجادل بأن الهدف من الرواية هو إثارة التعاطف مع هذه الشخصيات، وهو ما يمكن أن يحققه الفيلم فعليا، لكن اعتبار أن الهدف الروائي هو تحقيق التعاطف ليس فعلا مسألة يمكن التوافق معها.
موت الرواية
قبل أن تصل إلى إعلان موت الرواية هذاـ والذي قد يصيب أو يخطئ – قطعت الرواية في الغرب أشواطا كثيرة سواء من ناحية تطورها الفني وحتى من ناحية الاعتراف بأهمية الثقافة وبالتالي بالكاتب وإعطائه التقدير الذي يستحق. ومرّت أيضا بحقبات اجتماعية وتغيرات سياسية كبيرة عاصرتها ونقلتها. هذا الأمر لا ينطبق على الدول العربية، حيث ظهر في السنوات الأخيرة ما يشبه طفرة في الرواية العربية واحتضار بشكل أو بآخر للشعر، تحديدا في عالم النشر.
وظهر أيضا قرّاء جدد، ليسوا ربما بالأعداد التي نتمنى أن تكون، لكنهم موجودون. ولا يمكن فصل هذا الانتشار الروائي الحديث عن الجائزة العالمية للرواية العربية أو ما يعرف بالبوكر، وهي جائزة أدبية عالمية تختص بالأدب العربي، أنشئت في عام 2007 وتمّ تنظيمها بتمويل من هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة وبدعم من مؤسسة جائزة بوكر البريطانية.
فجأة، بات هناك قواعد جديدة للواقع الثقافي العربي، جائزة موضوعية لا يعلن عن حكّامها ويكون فيها المجال للموضوعية أكبر وللمحسوبيات والعلاقات الشخصية مجالا أقل. فللأسف، الواقع الثقافي العربي لا يختلف كثيرا عن الواقع الاجتماعي أو حتى الواقع السياسي والاقتصادي، فيه من المبدعين من لا يريد إفساح المجال للآخر وفيه من التسلط ما يشعرك أنّك في امبراطورية وبلاط ملكي أكثر ممّا أنت في بيئة للفكر والنقاش.
والواقع أنّ التخبط الثقافي في العالم العربي أمر متوقع وانعكاس للواقع الموجود ولكنه غير محبّذ، فهو لا يتيح نقاشا حقيقيا يرتقي إلى إيجاد أفكار جديدة وحلول للمشاكل والتحديات التي تواجه الدول العربية. وإذ كان الناس يدفعون في دول أخرى المال لحضور الندوات والمحاضرات الثقافية، فهم يبتعدون عنها أحيانا في بلادنا حتى حين تكون مجانية، ربما لأنها نمطية وروتينية لا تقدّم الكثير من الصراحة وربما لأن الناس لا يهتمون فعليا بالفكر.
وسط كل هذا، ما تحتاجه فعليا الدول العربية تكريس دور أكبر للفن، سواء الرواية أو الشعر أو الموسيقى أو الأفلام، وهذا ما لا تقدّمه الجهات الرسمية، وليس فقط لنقص في الموارد، بل للخوف من الحرية. وبدل أن نرى أن التحولات في السنوات الأخيرة أنتجت فعليا رقابة أقل، نجدها تنتج رقابة أكثر. وهذه الرقابة يليها الكثير من انتقاص قيمة الفن.
وبالتالي، تبدو الرواية أحيانا كمقاتل وحيد في حلبة الخصم فيها ليس فردا بل مجموعة من العوامل. ونحن اليوم بحاجة إلى الفن الروائي لأنّه يلخص الذاكرة فيما هو أبعد فعليا من توثيق الوقائع (إن تمكّنا من تعريفها وسط تعريف كل طرف للحوادث من جهته) والتأريخ بمعنى رواية الأحداث. وحدها الرواية يمكنها أن تلخّص لحظات الموت والذل والأسى وحكايات الشجاعة والغضب الذي يعيشه العالم العربي المضطرب اليوم، أن تلخصها ببعدها الإنساني وما يرافقه من إشكاليات، وهي القادرة على رسم الأسئلة حول الإنسان العربي المعاصر.
يحاول الشباب اليوم في الدول العربية أن يوصلوا أصواتهم عبر الفن الروائي، أن يوصلوا أفكارهم وأن يكون لهم صوت. وحين يصبح لهذا الصوت نوع من التقدير، وهو ما تقدمه الجوائز، يصبح الصوت أيضا مسموعا أكثر، ويتبلور، وتزداد معه أيضا القدرة على التعبير.
وإن كان احتضار الرواية في الغرب قد بدأ – أو محذّر منه – لا تزال أمامنا تحديات عدة حتى نصل إلى أن يستطيع التلفزيون والسينما على منافسة الكتاب في الدول العربية. وما يبدو أشبه بمأساة الرواية اليوم بشقيه في الغرب لقلة القرّاء وفي الشرق لقلة الاعتراف بأهميتها، له أيضا وجه آخر في بلداننا. فهذه المأساة قد تتوج بالأمل إن لقيت الاهتمام الكافي. والبوكر نوع من هذا الاهتمام، لذا بغض النظر عن اللغط الذي يثار حول هذه الجائزة كل عام، تبدو بالنسبة لي أشبه بوردة يقدّمها حبيب لحبيبته فتشعر بالفرح وتبتسم، وتبقى تشعر أن للعواطف قيمة.
(*)روائية لبنانية والنص من موقع ارفع صوتك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق