تتناول الكاتبة منال حمدي في مجموعتها القصصية «تلك الوجوه.. هذه الأبواب» الهموم التي تحطم نفسيات شخوصها وتحولهم إلى ماكنات منزوعة المشاعر، أو إلى بشر غير قادرين على تصريف هذه المشاعر والانفعالات. فقصص المجموعة وسيلة الكاتبة في تحطيم أصنام صنعها الإنسان وشرع في عبادتها، وهذه قراءة في بعض النصوص..
محاولة ثورية
في قصتها التي بدأت بها مجموعتها «يشربه الورد أحيانا»، تحدثنا عن امرأة تشعر بالملل وعدم القدرة على تحقيق رغباتها البسيطة، فهي تعمل خياطة ملابس للنساء والأطفال، ومتزوجة من رجل عاجز جنسيا، فمهما حاولت أن تغريه بمفاتنها، يبدو عقيما وغير قادر على الفعل. وحتى بعد أن تناولت شراب الورد من الثلاجة، وسكبته فوق صدره، ودنت منه، «وردمت كل الفراغات بينهما، لاصقة جسدها به، ثم طوّقته بذراعيها. لكنه ظل كمسمار لا يتحرك من مكانه». وتخاطبه بحسرة لماذا لا تحس ولا تشعر، لماذا أنت هنا؟ وعندما تفقد الأمل به، تعتمد على نفسها في التمتع بجسدها. والمرأة تبدو تحاول الهروب من واقع مأزوم فتشغل نفسها في صناعة شراب الورد، تعبئه في زجاجات وتضعة في الثلاجة، هي تحب صناعته أكثر من شربه، وباتت تحبذ إهداءه إلى زبائنها. وفي النهاية تقول لإحدى زبائنها: «بدأت أتعلّم خياطة الملابس الرجالية. ربما أفتح مشغل خياطة ذات يوم». وكأنها طفقت تفكر في هجره، والثورة على وضعها المأساوي، والتخلص من عجزها عن تحقيق أبسط الأشياء.
الباب السحري
في قصة «باب سحري.. درجات متحركة» تطرقت لفتاة مكسورة الساق وتعاني من التهابات حادة في العظم، ومراجعتها للمستشفى، وانتظارها حتى يأتي دورها، وتشغل نفسها بتصفح الوجوه. «الأيادي المتلاحمة والحانية بعضها على بعض». فهناك امرأة تمسك يد ابنتها، وفتاة صغيرة تمسك بيد أمها، ولا يهم من يمسك بيد من، «الأهم أنهما تسيران جنبا إلى جنب، وأنّ هنالك طراوة ما، وكثيرا من التحنان». فتتخيل أمها، وأنها ستدخل من الباب لتعاتبها كونها ذهبت إلى الطبيب بدون علمها، ولم تعد تسمع ما يقول الطبيب، فهي مشغولة بالنظر إلى الباب في انتظار دخول والدتها. لم تأت الأم، تمسك الفتاة هاتفها النقّال، وتتصل بها، ويأتيها الرد الأوتوماتيكي إن رقم الهاتف المطلوب مفصول. تصدمنا الكاتبة بأن الأم المنتظرة فارقت الحياة منذ فترة.
أصدقاء!
أما قصة «أصدقاء برسم البيع» فبطلها كاتب مشهور ومحبوب، يفاجأ باتصال هاتفي من فتاة تطلب مقابلته، ويدفعه الفضول للموافقة، وتكون المفاجأة المرّة التي تنتظره، تقدم له مجموعة من كتبه، لم يستغرب في البداية فالأمر عادي، ولكنها تطلب منه أن يدقق فيها، تصفحها، فامتقع لونه، وتجهم وجهه، وسألها: من أين أتيت بها؟ فقالت: من محل بيع الكتب المستعملة. فيقول وكأنه يهمس لنفسه: «من الآن فصاعدا على المثقف أن يصوغ حياته بطريقة تجعل مسافة بينه وبين الآخرين، خوفا من أن يكونوا من فئة صديقي الذي يبيع كتبي، وأنا لم يكن في حسباني صناعة الدروع ذات يوم لأحمي ظهري منه». فالإهداء الرزين والمفعم بالحب الذي يزين الكتب المهداة لم يشفع لها، وقام الصديق المقرب من الكاتب ببيعها للخلاص منها، فهو لم يقرأها، إما لأنه غير مهتم بالأدب أو لأنه يشعر بالغيرة والحسد من نجاح صديقه الكاتب. وتخفف الفتاة عنه، قائلة: بيع كتبك في محلات الكتب المستعملة، يجعلها تذهب إلى قرائك الحقيقيين. فالإنسان في حياته يقابل الكثير من الناس، الذين يتحول بعضهم إلى أصدقاء أو هكذا يعتقد، حتى تثبت الأيام أنهم يتخفون خلف أقنعة زائفة، وألا مناص من كشفهم ورحيله عنهم.
أحلام بسيطة
في القصة الأخيرة، تروي لنا الكاتبة حياة فتاة في مقتبل العمر، تقضي وقتها في حضور المحاضرات الدينية، تلك المحاضرات التي استطاعت أن تغير من شخصيتها، وتجعلها إنسانة رخوة، وقابلة للانقياد الأعمى. فهي تحب سماع أغاني أم كلثوم وتحفظها عن ظهر قلب، ولكنها تخشى صديقاتها ومرشدتها، فتلك طامة كبرى. تتحضر الفتاة لحضور حفلة زفاف خالها في سوريا، وعندما تزورها صديقتها وتخبرها عن الأمر، تتهجم وتحذرها أن يكون الزفاف مختلطا، فتشعر بالقشعريرة والخوف من معرفة مرشدتها بالأمر. وفي نقاش مع أختها حول حضورها الحفل من عدمه، تحذرها قائلة: «هذه خصوصياتك. ثم من هنّ ليغيّرن مجرى حياتكّ». فترد أنها منذ طفولتها وهي معهن، فما كان من اختها إلا أن قالت: «منذ طفولتك وأنت عاجزة على أن تكوني مثلهن».
وتخبرها أنها حجزت في صالون السيدات لها، وتستهجن الأمر فهي لم تدخل صالونا طوال حياتها، فتخبرها بأنها بحاجة لبعض الترتيبات لتكون أجمل، فقد حان الوقت لتخفيف من الحاجبين الثخينين كأنهما لرجل، وإزالة الشعر عن ساقيها. وتقابل ابن خالتها، وتكون السخرية أنها لا تعرفه، فهي لا تظهر على الرجال، وتجبر على مصافحته، وكونها تصافح رجلا للمرة الأولى، فقد «أهاجها شعور لم تقو على فهمه أو مقاومته». وقلبها ازدادت ضرباته، وأخذ تحاول لملمة نفسها. في الصالون شرعت تتخيل نفسها أميرة ومن حولها الناس معجبون، وحدثت نفسها: «ماذا لو كانا خطّين رفيعين، كم سأبدو سيدة جميلة بحاجبين رائعين، ولكن ماذا أفعل بهما عند عودتي إلى عمّان؟ هل أنقطع عن الجماعة إلى أن يطولا؟». فحياتها الشخصية ليست ملكها، والآخر ممثلا برفيقاتها في المحاضرات الدينية يلعب دورا كابحا كي تنطلق، وتشعر بحريتها في القيام بأبسط الأشياء التي تقوم بها أي فتاة. بعد إجراء التعديلات على الحاجبين وإزالة الشعر، ووضع القليل من أحمر الشفاه، ومن الكحل، ظهرت كامرأة غاية في الجمال والحسن، واندهشت أختها والقريبات من هذا الجمال المتواري. حضرت الحفلة وغنت أغنيتها المفضلة «هذه ليلتي وحلم حياتي»، وعندما اختلت إلى نفسها، نظرت في المرآة، وقالت: «لا أدري، ولا أعرف، سوى أنني أكتشف أنني أريد أن أكون حقيقية. أنا الآن أنا…لماذا لم أتعرف إلى نفسي إلا الآن فقط؟…كيف سأواجه من هُم هناك؟ تلك الجماعة والجيران بشكلي الجديد». وتنتصر على مخاوفها وأوهامها، فهي جميلة هكذا وتريد أن تبقى بشكلها الجديد الباهر، وعند عودتها إلى عمّان لم تنس أن تحتفظ بالفستان الوردي هدية خالتها، مصممة على ارتدائه هناك، فهذا قرار لا رجعة عنه. فالشخصية هنا ظهرت هشة وضعيفة، أما صديقاتها ومرشدتها، وكانت حياتها منحصرة بين البيت وحضور المحاضرات الدينية، وفي أول فرصة استطاعت بطلتنا التخلص من خوفها وجبنها والانطلاق إلى عالم أرحب، عالم غير معقد يمكن فيه تحقيق الأحلام البسيطة بدون أن نضع حواجز بأنفسنا في طريقنا.
امتلكت الكاتبة لغتها الخاصة، المفعمة بالحزن والحسرة، والتصاوير العذبة بدون إفراط، منتقدة مساوئ نفسية واجتماعية، فتكتب عن واقع بائس معاش، ومحاولات البشر تخطي العقبات. كما أظهرت مقدرة على النفاذ إلى نفوس شخصياتها، وأبانت ما يعتمل فيها من اضطراب وقلق وأحلام يسعون إلى تحقيقها بكل ما يملكون من قوة. إلا أنها بحاجة للقليل من الخيال المجنح ليجعل قصصها قادرة على الانفلات من الواقع وتخطّيه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق