بقلم : د.باسم الطويسي
بين إرادة الدولـة والمجتمع من جهـة، ومحددات المحيط الإقليمي والدولـي من جهـة أخـرى، مرت العقـود الماضيـة أردنياً بعيداً عن الاسترخاء السياسي، ولم تعرف الهدوء والسكينـة، على الرغم من الحديث الذي لا يهدأ عن الاستقرار. في المقابل، يبدو المشهد أكثر وضوحاً حينما ينظر إليه من الخارج، على أصداء التحولات والحروب والأزمات التي لا تنتهـي، والصفقات المتتاليـة التي لا تتوقف. في هذه الأجواء، وتحت وطأة الازمات، صيغت الثقافـة السياسيـة المحليـة التي ننهل منها المعايير والأحكام والقيم، وهـي الحالـة التي تطرح سؤال بناء قـوة الدولـة، وتماسك بنيتها ومؤسساتهـا، في سياق الحاجـة إلى دفع زخم الإصلاح إلى الامام. كما تطرح السؤال حول موقع المبادرات الأردنيـة التي تصاغ حاليــاً حـول الاجندة الوطنيـة، ومشـروع الأقاليم التنمويـة، وتفاصيل مشروع الإصلاح، وحتى مستقبل الحكومـة الحاليـة ايضاً، من مضامين الثقافـة السياسيـة السائدة واتجاهاتها.
تبدو الثقافـة السياسيـة المحلية اليوم تتشكــل وفق ثـلاث ارادات؛ أولها إرادة المجتمع الأردني، التي لا تملك إلا الترقب والانتظار، على ما يكتنفها من تعدديـة وغموض، وإرادة الدولـة الأردنيـة، التي تمارس الاختبار/المفاضلـة لمزيج من عناصـر القـوة المتعددة والمتناقضة أحياناً، وارادة حالة الطوارئ التاريخية المستمرة في المحيط الإقليمي والدولي، والتي تبدو أحياناً مقياسا لحركـة الارادات الأخرى.
ولعل ابرز مؤشرات هيمنة حالة الطوارئ التاريخيـة، التي لا تهدأ ولا تعرف الاستقرار، تعليق المسار الديمقراطي والإصلاح الداخلي على محددات وتحولات هذه الحالـة. إذ عمل هذا الواقع على تفويت الكثير من فرص التغيير والتحول الديمقراطي ونمو المجتمع المدني، كما أضعفت من إرادة الدولة في تبني مبادرات وطنيـة نحو التغيير، وبناء السلام والتفاهم الاجتماعي الداخلي على قواعد الاستقرار وقـوة الدولـة والديمقراطيـة، وجميعها عناصـر ومدخلات أساسية بقيت ملازمـة لبنيـة الدولـة الأردنيـة وتحولاتها. ومن جانب اخر، شكل تضخيم هذه الحالة والمبالغة في حساسياتها، أداة من أدوات السلطـة أو الحكومــات المتعاقبـة حينما تبحث عن مبرر لإعاقـة الديمقراطيـة، في ضـوء تناقض مصالحها الآنية مع استمرار عمليات التحول المدني والديمقراطي وتراكمها.
في هذا الوقت، يبدو ان الخروج من حالـة الطوارئ الداخليـة، في خيارات النظام السياسي واتجاهاته نحو الإصلاح والتنميـة السياسيـة، موضـوع جدل وطني عام، يأخذ عناويــن متعددة، لكـن باطنه الحقيقي يُستمد من عناويـن وملفات حالـة الطوارئ المحيطة، وهي العناوين التي حان الوقت اليوم إلى حسمها، أو على الأقل توفر جرأة الحوار حولها، أو بأضعف الايمان القدرة على تحديدها بشكل واضح وجلي.
هذا النسيج من الأفكار والعصف الذهني، المربوط ببعض مظاهر التوتر، ليس بالجديد؛ فهو حمال أوجه في المراحل السابقة، وله غرف تحكم في الخارج والداخل، ويتم استثماره من هذه الجهة أو تلك لمصالح آنية، وقد أسهم، وعلى مدى مراحل طويلة، في تكوين ملامح الثقافة السياسية المحلية وتحديد اتجاهاتها. فإذا كانت هذه الثقافة تشير إلى مجموع المعتقدات والاتجاهات التي تعطي نظاماً ومعنى للعملية السياسية، وتقدم قواعد شبه مستقرة تحكم تصرفات الأفراد داخل النظام ومؤسساته، فإن حدود اللعبة وممارسة الأدوار داخل اطر هذه الثقافة باتت تصطنع في هذه الأثناء شكلا من الشرعية، يعتقد اللاعبون في إطارها انها صورة من صور التعبير الديمقراطي، في ظل تراجع أو غياب المؤسسات والأطر الموضوعية للتعبير والممارسة السياسية.
إن مشروع الإصلاح السياسي الأردني له مداخل متعددة، وله في نفس الوقت عناصر ومقومات يبنى عليها، ويملك الاستجابـة لمنهج الجدولة والتدرج، لكن يبدو أن المهمة العاجلة التي لا تنتظر، والتي تحتاج إلى وقت وتراكم حقيقي، تتلخص في بناء ثقافة سياسية جديدة، تخرج وعي الناس أولاً، وقبل غيرهم، من حالة الانتظار والترقب وردود الأفعال، وتوفر قواعد واضحة وغير قابلة للمساومة والتفريط، تلتقي عليها الأطراف الراغبة في الدخول في مسارات الحياة السياسية العامة.
الثقافة السياسية الجديدة المطلوبة أردنياً، مثلها مثل أي ثقافة سياسية فرعية عرفتها مجتمعات العالم التي حسمت أبجدياتها السياسية، يجب أن تنطلق وتنهي في محصلة بناء عناصر قوة الدولة الأردنية وتعزيزها وحمايتها. والثقافة السياسية الجديدة، يجب أن تفهم وتمارس الإصلاح والتحول الديمقراطي، باعتباره عنصرا أساسيا من عناصر قوة الدولة وتماسكها. والثقافة السياسية الجديدة معنية بالخروج من التكيف السلبي مع حالة الطوارئ التاريخية في المحيط الإقليمي، نحو بناء أنموذج آخر للتكيف الإيجابي الذي يصب في قوة الدولة، وليس فقط في مجرد الاستقرار الهش، القائم على التوازن والمصالح الآنية.
من المعروف نظرياً أن التنمية السياسية تلازمها أزمات تسمى باسمها، وأهمها فجـوة "اللااستقرار"، نتيجـة الصراع حول عمليــات التحديث، لكن يجب أن نتذكر بأن الأردن مر بهذه الفجوة منذ الخمسينيات، ويجب أن يكون قد تجاوزها. وبمعنى آخر، هل كان بالإمكان إنتاج نموذج أردني في التنمية السياسية يمتلك القدرة على إضافة عنصر جديد لعناصر قوة الدولة، ويعمل على التكيف الإيجابي مع الظروف المحيطة؟ وعلى اعتبار أن هذا السؤال افتراضي يقصد الماضي، فإن السؤال الأجدى يجب أن يوجه نحو الحاضر، وإمكانية البحث عن عناصر بناء القدرات الذاتية لمفهوم قوة الدولة، واستثمارها في أي تحول سياسي يضاف إلى بيئة عناصر قوة الدولة.
القوة هي روح الدولة الحقيقية، على الرغم مما يحمله هذا المفهـوم من وقع مادي. والثقافة السياسية التي دشنت مشاريع القوة في التاريخ، هي التي قامت على تنشئة مواطني الدولة على قيم العدالة والتحرير، وعلى إنتاج القيم الكبرى التي يتفق عليها الجميع ولا تقبل المساومة والاختلاف. ولعل الثقافـة السياسيـة العاجزة والضعيفـة، التي تعمل على إعاقة التنميـة والإصلاح، أول ما تعانيـه افتقادهـا الاتفاق حول القيم الكبرى في الحياة السياسيـة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق