هكذا حدثنا ابن خلدون
لا يُمَسك ابن خلدون في مطرح، إذ له في كل عرس قرص. مولده تونسي، وأصله حضرمي، وسياقاته إشبيلية أندلسية، ومدفنه مصري في شمالي القاهرة، كذلك هو لم يراوح في علم معرفي واحد.
لا أرتوي من قراءة ابن خلدون. أعود إلى أجوائه بين الحين والآخر. أقترب منه، فيما كتب وما كُتب عنه. هو غنيٌ عن التعريف. فمن قديم افتُتنت بذكائه ونفاذ بصيرته، واستهوتني سيرته، لكثرة ما طاف وعمل في الأمصار. ولا علاقة لعاطفتي نحوه، بالصلة التي قامت بينه وبين السلطان برقوق، الذي ترك لنا في خان يونس مسقط رأسي، الأثر الإسلامي الوحيد وهو قلعتها، ولا علاقة للأمر بتجربته الجزائرية عندما ازدانت به مجالس تلمسان وبجاية وبسكرة. ولا علاقة للأمر نفسه، بتونس التي نحب، ويحن إليها كل من حلّ فيها.
فلا يُمَسك ابن خلدون في مطرح، إذ له في كل عرس قرص. مولده تونسي، وأصله حضرمي، وسياقاته إشبيلية أندلسية، ومدفنه مصري في شمالي القاهرة، كذلك هو لم يراوح في علم معرفي واحد. يؤسس علم الاجتماع، ويتحفنا في السياسة، ويخوض في الاقتصاد والفلسفة، برؤية رجل سبق عصره بقرون.
لنتخيل أنفسنا في القرن الرابع عشر، وفي حضرة ابن خلدون. نعطيه وحده الحق في الكلام، ليقول لنا نحن الذاهبون إلى القرن الحادي والعشرين “عندما تنهار الدول يكثر المنجمون والمتسولون، والمنافقون والمُدّعون، والكتبة والقوّالون، والمغنون النشاز والشعراء النظَّامون، والمتصعلكون وضاربو المندل، وقارعو الطبول والمتفقهون، وقارئو الكفّ والطالع والنازل، والمتسيّسون والمدّاحون والهجّاءون وعابرو السبيل والانتهازيون. تتكشف الأقنعة ويختلط ما لا يختلط”.
ويستطرد قائلا في وصف الأزمنة الرديئة، كمن يتنبأ بداعش وكل أقرانها “عندما تنهار الدول، يسود الرعب ويلوذ الناس بالطوائف، وتظهر العجائب وتعم الشائعات، ويتحول الصديق إلى عدوّ والعدوّ إلى صديق، ويعلو صوت الباطل، ويخفتُ صوت الحق، وتظهر على السطح وجوه مريبة، وتختفي وجوه مؤنسة، وتشح الأحلام ويموت الأمل، وتزداد غربة العاقل، وتضيع ملامح الوجوه، ويصبح الانتماء إلى القبيلة أشد التصاقا، وإلى الأوطان ضربا من ضروب الهذيان، ويضيع صوت الحكماء، في ضجيج الخطباء، والمزايدات على الانتماء وعلى مفهوم القومية والوطنية والعقيدة وأصول الدين”.
أما الفساد، فإن له في فكر ابن خلدون تجليات نقدية، إذ يجعله سببا لسقوط الدول. فهو القائل “إن الظُلم يؤذن بخراب العمران. فإذا ارتُكبت المعاصي من قبل النافذين في الدولة، ولم تستطع يد القانون أن تطالهم، كونهم محميين بمكانتهم ونفوذهم، فعندئذ تكون الدولة ساعية في طريقها إلى السقوط”.
ويضرب مثلا في إهاب قصة رمزية، مؤداها أن استلاب حقوق الناس، وعربدة الأبناء والبطانة، من شأنهما إضعاف العصبية الحامية للدولة وتبديد عزائم حُماتها في الأطراف والثغور.
كتب بواسطةعدلي صادق
كاتب وسياسي فلسطيني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق