الرواية تبقى خالدة في قدرتها على تجسيد موضوعتها وتحقيق الكم المناسب من الإدهاش والمتعة والمعرفة بالنسبة إلى القرّاء، سواء كانت نوفيليت من ستين صفحة أو نوفيلا من مئة صفحة أو نوفيل من ثلاثمئة صفحة.
يعتقد البعض نظريًا بأنّ الرواية لا ينبغي أن تكون طويلة جدًّا، ولكن إذا كانت قصيرة جدًّا فإنها لا تكون رواية. طالما شغلت هذه القضية الكثير من متتبعي الأدب ومحبي الرواية في مختلف مناطق العالم وفي مختلف الأزمنة، وما زال الجدل قائمًا حتى يومنا هذا، فقد ساد اعتقاد ما في الماضي بأنّ الروايات الطويلة والضخمة هي التي تحظى بالتقدير والاهتمام، وهذا الاعتقاد سببه ظهور بعض الروايات العظيمة آنذاك مثل رواية سرفانتس “دون كيشوت” ورواية دوستوفيسكس “الأخوة كرامازوف” ورواية تولستوي “الحرب والسلام” ورواية تشارلز ديكنز “ديفيد كوبرفيلد”، بينما يعتقد الكثير من النقاد ودارسي الأدب في الغرب بأنّ الإيجاز فضيلة مثلى نتيجة لاختلاف نمط الحياة ومزاج القرّاء.
ويبدو أن هناك طريقتين لتقديم الطابع الإنساني للأحداث، الأولى الطريقة المختصرة أو المكثفة لترصّد حياة شخصية أو مجموعة من الشخصيات. والأخرى تلك المغرقة في التفصيلات والرصد البانورامي والامتداد الزمني الطويل، والتي تبدأ منذ الولادة وتنتهي في الشيخوخة في فترة من التاريخ.
ولا يمكن لأي شكل آخر من أشكال الفن المعاصر، كالقصيدة الملحمية والدراما والفيلم، أن يتطابق مع موارد الرواية المفتوحة بمؤثراتها الحسيّة والعاطفية المجسّدة بالكلمات، سواء أكانت طويلة أم قصيرة. ولعل رواية “الحرب والسلام” هي المثال المظفر الكبير لدراسة النوع البانورامي لمجتمع كامل، إذ امتدت أحداثها من أوائل القرن التاسع عشر في روسيا حتى مطلع القرن العشرين، من دون أن تهمل رصد المشاعر والأحاسيس والعواطف إبان فترة التغيير الكارثي وتمخضات دخول القرن الجديد، والمثال الثاني يأتي من روسي آخر هو بوريس باسترناك في روايته “الدكتور زيفاغو” في العام 1057، على الرغم من أنها أقل رصدًا للمشاعر المضطرمة إبان الثورة الروسية حسب الكثير من النقاد.
لكن وبعدد صفحات أقل بكثير من هاتين الروايتين، جسدت مارغريت ميتشل في روايتها “ذهب مع الريح” مشاعر العظمة والرعب والكراهية والصراعات الكلاسيكية التي اعترت المجتمع حديث التكوين في أعقاب الحرب الأهلية الأميركية.
لكن وبعدد صفحات أقل بكثير من هاتين الروايتين، جسدت مارغريت ميتشل في روايتها “ذهب مع الريح” مشاعر العظمة والرعب والكراهية والصراعات الكلاسيكية التي اعترت المجتمع حديث التكوين في أعقاب الحرب الأهلية الأميركية.
وغني عن القول إن طول الروايات وبانوراميتها لا يضمنان بحد ذاتهما عظمة خياليَّة، فمن بين الكتّاب الأميركيين، على سبيل المثال احتفل جيمس جونز بالجيش الأميركي عشية الحرب العالمية الثانية في روايته “من هنا إلى الخلود” الصادرة في العام 1951، على الرغم من قصرها النسبي نتيجة ما عدّه النقاد كتابة غير متحفظة زاخرة بالتوصيف العاطفي.
وغالبًا ما يحتم موضوع الرواية حجمها الكبير جدًّا، بغض النظر عن نجاحها في تحقيق المتعة والتفاعل العاطفي لدى القرّاء، وتحضر هنا رواية مارغريت يونغ “مس ماكينتوش عزيزتي” الصادرة في العام 1965 كمثال حيّ على هذا الصعيد، وهي أطول رواية من مجلد واحد في القرن العشرين إذ تجاوزت الـ1198 صفحة.
ولم تكن الأشكال الجديدة والقصيرة من الروايات كالنوفيلا والنوفيليت معروفة أو شائعة جدّا، ومع ذلك فإن معرفة الاختلافات لا تزال مهمة بالنسبة إلى الكثيرين، على الرغم من أنها جميعها تعتمد الخيال بطريقة أو بأخرى، لكن لكل نوع منها غرضه الخاص وطريقته في التوصيل بما يراه كتّابها مناسبًا لموضوعاتهم.
وبغض النظر عن التصنيفات الحديثة للنصوص السرديّة والمتمثلة في إطلاق المصطلحات اللاتينية على أطوالها كالنوفيلا والنوفيليت والنوفيل ووضع الجداول بعدد كلمات كل صنف منها، تبقى الرواية خالدة في قدرتها على تجسيد موضوعتها وابتكار قالبها السرديّ المتفرد وتحقيق الكم المناسب من الإدهاش والمتعة والمعرفة بالنسبة إلى القرّاء، سواء كانت نوفيليت من ستين صفحة أو نوفيلا من مئة صفحة أو نوفيل من ثلاثمئة صفحة.
كتب بواسطةمحمد حياوي
كاتب عراقي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق