الشقيقتان تتصارعان داخل «بيت» ينتهي خراباً / مسرحية

قد تكون مسرحية «البيت» (مسرح مونو) بمثابة العمل الأول تأليفاً وإخراجاً ولو أن الكاتبة الشابة أرزة خضر وضعت النص قبل أعوام وقدّم في قراءات ممسرحة في لندن وتونس ونيويورك في سياق الاحتفال بمسرح الشباب وصدر في العام 2011 في كتاب جماعي في طبعتين الأولى لبنانية «من الكتابة المسرحية اللبنانية الجديدة» (دار بيسان) والثانية عربية «مسرحيات عربية من الألفية الثالثة» (دار ممدوح عدوان). وترجم النص إلى الفرنسية والإنكليزية والألمانية وأخرجه المسرحي الألماني أكسل كراوس العام 2014. هذا النص الذي يعد باكورة هذه الكاتبة الموهوبة كان مفاجأة في مرحلة يتراجع فيها التأليف المسرحي في لبنان وتندر النصوص الموضوعة مما دفع معظم المخرجين إلى اللجوء إلى الترجمة وإلى إعداد نصوص مركبة مسرحياً. وما يميز هذا النص هو قوّته الدرامية ولا سيما في بناء الشخصيات ورسم علاقاتها عطفاً على فرادة - وعمق- القضية التي يعالجها. ولم يغب مثلاً عن النص الأثر التشيخوفي (الكاتب الروسي أنطون تشيخوف) ، ففكرة وداع البيت وهجره والصراع العائلي داخله تذكر بمسرحية «بستان الكرز» الشهيرة.

أما المخرجة كارولين حاتم فهي أيضاً في عملها الإخراجي الأول بعدما خاضت ميدان الرقص والتمثيل وسعت إلى أن يكون عملها في قوة النص وجماله ومأسويته ونفَسه الكوميدي الأسود. وفي إخراجها بدت حاتم تميل إلى الفضاء الطبيعي والواقعي وابتعدت عن البحث عن حلول إخراجية أخرى تتطلب مقداراً من البحث والتخييل. لكنها نجحت أيما نجاح في تركيزها على التمثيل، خصوصاً في اختيارها ممثلتين هما يارا أبو حيدر (أدت دور ناديا) وجيسي خليل (أدت دور ريم)، وقد برعت كلتاهما كل البراعة في أداء شخصيتي الأختين اللتين تعيشان داخل فضاء الأسرة الصغيرة التي تضم أيضاً شقيقهما نبيل (أدى دوره طارق يعقوب) بعد وفاة الأم التي تلت وفاة الوالد سابقاً في سقوط قذيفة على البيت. وحضور الشقيقتين وصراعهما اليومي والسلوكي وتناقضهما ذكّر بجو مسرحية «بيت برناردا ألبا» البديعة للشاعر الإسباني فديريكو غارسيا لوركا حيث تعيش الشقيقات حالاً من المواجهة والتوتر.

إنها إذاً مسرحية الشقيقتين ناديا وريم اللتين تختلفان إلى حد التناقض، مزاجاً ومسلكاً وطبائع وتطلعات... ريم فتاة متحررة تعيش كما يحلو لها، تتوزع حياتها بين بيروت والدوحة، تحب شاباً من غير طائفتها مما أثار غضب أمها قبل رحيلها، تكره جو البيت والأسرة وتكره ظاهراً وفي ما يشبه رد الفعل النفسي أمها وأباها، خصوصاً بعدما باتت أمها وشقيقتها ترميان عليها عبء مقتل أبيها الذي لم تلبّ طلبه وتجلب له الماء قبل سقوط القذيفة على المطبخ الذي قصده ليشرب. تكره ريم جو البيت وذكرياتها فيه ولم تعد قادرة على العيش تحت سقفه، فتستأجر شقة تحيا فيها وحيدة وتطمح إلى بيع البيت وتقاسم سعره الباهظ مع الشقيقة والشقيق، فهو يتيح لهم جميعاً أن يشتروا بيوتاً منفردة... لكنّ ناديا المحافظة والتقليدية (على رغم إدمانها شرب الويسكي والاستماع إلى أغنيات الطرب) تتعلق بالبيت وبذكرى الأم والأب وتواجه ريم رافضة سلوكها وتحررها وتنبذ فكرة بيع البيت ملجأها الأخير الذي يمثل ذكرى والديها.

أما الشقيق نبيل فهو بين بين، يؤيد فكرة بيع البيت لكنه يحترم شعور شقيقته ناديا، مع أن زوجته تشجعه على المضي في بيع البيت. وبعد طول خلاف وتجاذب بين ناديا المصرة على عدم البيع والتمسك بذكرياته، وبين ريم التي تريد بيعه والتخلص من ماضيها... وبعد بلوغ الخلاف حداً من التوتر دفع بريم إلى اللجوء إلى المحكمة والحصول على إذن بإغلاق البيت بالشمع الأحمر عبر وساطة مدبرة وغير قانونية... بعد كل هذا الصراع يصدر قرار رسمي يقضي بتملك البلدية العقار وهدم البيت ليمر مكانه أوتوستراد. يشفي هذا القرار غليل ريم وتشعر بأنها استطاعت أن تنتقم من شقيقتها وأن تنتقم أيضاً لنفسها فتتخلص من البيت نكاية بشقيقتها. لكن الخسارة تقع على الجميع، فعوض أن يباع البيت بسعر باهظ، تصادره الدولة بسعر بخيس. هكذا أضحى البيت من ذكريات الماضي، الجميل في نظر ناديا والبشع في نظر ريم. لكنّ الشقيقتين عندما تنبشان صور العائلة في إحدى لحظات صراعهما تسترجعان حالاً من الحنين إلى الماضي فتبدو ريم كأنها تخطت توترها للفور.

يارا أبو حيدر وجيسي خليل، ممثلتان رائعتان فعلاً، نجحتا كثيراً في تجسيد الشخصيتين المتناقضتين والمتواجهتين وفي تنويع لعبة الأداء ومنح هاتين الشقيقتين تعابيرهما المناسبة وحركتهما وإيقاعهما، وبرعتا في نسج هذه العلاقة العميقة بتوتراتها وإرهافاتها، وببعدها الداخلي والعاطفي أحياناً. ونجحت المخرجة في ارتكازها على هاتين الممثلتين وعلى حضورهما الذي رفع كثيراً لعبة الإخراج وغطى بعض الهنات التي أصابته.

ولئن مال الإخراج إلى الواقعية والبساطة، فالسينوغرافيا كانت بدورها واقعية جداً، علماً أن النص يفتح المخيلة على مصراعيها. وقد تكون موفقة كثيراً فكرة صورة الأم التي وضعت على مقدم الخشبة وعلى أرضها والتي لم يشاهد الجمهور منها سوى قفاها وأمامها الشموع، مما جعل هذا الجمهور يتخيل صورة هذه الأم الغائبة والحاضرة في وقت واحد. أما لجوء المخرجة إلى ما يشبه المشاهد «التغريبية» عندما تدفع الممثلتين إلى الرقص فكان مفاجأة بصرية ولو من خارج السياق الدرامي.