المقاومة والنهضة في فكر وممارسة الحزب الشيوعي السوداني

. . ليست هناك تعليقات:




أصيل الماركسية:# "لا يقتصر عمل الحركة الاجتماعية التقدمية على حشد بسيط لإحصاءات جور النظم الحاكمة أو تدبيج عرضحالات بمظالمها. فالحركات المحسنة بين الحركات الاجتماعية تفعل فينا فعل الشعر العظيم. فهذا الشعر يرحل بنا إلى فضاء آخر، ويجعلنا نعيش رعب عالمنا للمرة الثانية، وأهم من ذلك كله، فهو يعيننا على تخيل مجتمع جديد حقاً" كاتب راح علىّ اسمه.
# "شايل جبل مرة بلا وقاية" حكمة من دارفور

أصيل الماركسية في الحزب الشيوعي

لا ماركسية بعد اليوم

ربما قرر مؤتمر الحزب الشيوعي القادم، وهو الخامس منذ تأسيسه في 1946، طلاقه مع الماركسية طلاق بينونة. فقد بشرت بهذا الطلاق جماعة غير واضحة الحجم والأثر بعد في المناقشات العامة التي جرت بمثابة تحضير للمؤتمر. بل إن مشروع اللائحة المقدّم له نزع الماركسية من فراداتها كأيدولجية الحزب الوحيدة وشملها ضمن عقائد أخرى يهتدي بها في نظره وممارسته. أهم من ذلك كله أن بعض أميز كادر الحزب قد خرج عنه في 1995 في خضم تيار سُمي "حق" نادى بغير مواربة بأن الماركسية نظرية قاصرة فات زمانها ومات مغنيها. وأردفوا أن المعاني المتفق عليها في الحزب حول البعث الوطني و نصرة المستضعفين لن تقوم لها قائمة ما أنفك يستظل بالماركسية.

نريد في هذه الورقة أن ندقّق في صدق الزعم بأن البعث الوطني المتفق عليه سيكسب من تخلي الحزب الشيوعي (الذي سيتخذ اسماً جديداً في سياق هذا المشروع) عن الماركسية. وسنعرض للمسألة من زاوية أخرى طلباً للعصف الذهني. فمما يستوجب الخشية أن يستسهل الشيوعيون رمي الماركسية في سلة مهملاتهم بالنظر الى تهافت تطبيقها في حقولها الأوربية البكر تهافتاً يجعل تخلي الحزب الشيوعي السوداني، وهو عيشة في سوق الغزل، ضربة لازب. بل تجد من غير الشيوعيين من يستكثر على الشيوعيين، أو على البعض منهم، التمسك بها مايزال بينما استدبرها مَن هم أعرف بها في بئياتها الأوربية الأصل. فمثل هذا التوقع الشيوعي، أو التوقع منهم، قد يعفيهم من التفكر في التنصل من الماركسية بصورة مسؤولة. وهذا التنصل عظيم الخطر بالنظر إلى التأثير الغالب للماركسية في السودان، دون سواها، في بلورة المشروع السياسي الفريد لمستضعفي السودان منذ منتصف الأربعينات سواء من جهة التحرر الوطني أو التغيير والعدالة الاجتماعيين. ولسنا نريد لعصفنا الفكري هذا بالطبع أن يمنع طلاق الشيوعيين المتوقع من الماركسية بل غايتنا منه ألا يقعوا في أبغض الحلال بضربة لازب بدون إعمال ذكي للعقل والعاطفة معاً.

من رأينا في هذه الورقة أن الحزب الشيوعي في واقع الأمر ليس بصدد اطراح الماركسية في مؤتمره القادم. الأحرى أنه قد تخلي عنها، منذ عهد طويل، سوى الذكرى منها أو صداها الحاكي. وهذه هي الزاوية الأخرى التي نستقدمها لدائرة النقاش حتى لا يظن من تهيّأوا لهجر الماركسية في المؤتمر الخامس أنهم يأتون بجديد. وعليه فالشيوعيون إن اسقطوا الماركسية كأيدولجية لحزبهم في المؤتمر الخامس فهم ما زادوا عن فقدان شئ لم يوظّفوه على رأي الأمريكيين. فقد بدا لي الحزب الشيوعي منذ عهد بعيد حزباً انشغل بمعارضة نظم ديكاتورية بلغت سنوات حكمها نحو 40 عاماً منذ استقلال السودان لنحو نصف قرن. وقد أحسن الحزب مقاومة هذه النظم وضحّى تضحية مشهودة. غير أنها مقاومة يحسنها أي أحد غيره وبغير حاجة للماركسية. فقد قل في الحزب تباعاً الاسترشاد بالماركسية حتى تتأسس مقاومته للنظم الطاغية على هدي ماركسي يستنطق هذه النظم منشأها الطبقي والعرقي والبطرياركي ليوطن تكتيكاته للمقاومة بين المستضعفين، بشكل رئيسي ، بالنظر إلى استطاعتهم ومصلحتهم، وليضمن إن هزّ الشجرة أن تسقط الثمار في عبه لا كيفما اتفق. وهذه آفاق البعث الوطنى التي رنا لها الشيوعيون وعجموا كنانتهم وتخيروا لها الماركسية سهماً لا يخيب. ولما غطت المقاومة على هذه الآفاق تحول الحزب الشيوعي إلى حزب معارض ذي همة مميزة بالفعل ولكني كسبه من المعارضة مثله مثل كل حزب آخر.

واتوقف قليلاً هنا للتمييز بين المقاومة والنهضة حتى يقف القارئ على كساد الماركسية في الحزب الشيوعي. وجدت الدكتور مارك موريس، وقد كان زميلاً لي بجامعة ميسوري بالولايات المتحدة، ميز بين الهمتين بصورة لماحة مفيدة لغرضنا هنا. فقد جاء بهما في سياق دراسة له عن مجاهد مكسيكي على عهد الاستعمار الأسباني لها في القرن الثامن عشر. فالمجاهد، باسكال مورينو، من غمار الناس واختاره أهله ليكون قيماً على شأنهم مع المستعمرين. واغتنم مورينو هذه السانحة ليخرج بدعوة للإصلاح معتمداً على قاعدته الراسخة بين مواطنيه وإحسانه لغتهم المحلية، وحسن دربته في منطقها المفحم، وبلاغتها الآسرة. وأضحت اللغة عنده أثراً دالاً على موهبة قومه في التعبير، وأداة تستنهضهم للعلا. وقد وظفها مورينو بهذين الصفتين كطاقة تاريخية لنهضة قومه. وأراد موريس من هذه الدراسة أن يوضح أن مورينو لم يكتف ب "المقاومة" للحكم الأجنبي كيفما اتفق. فقد اقترنت عنده المقاومة ب"النهضة" بإحسانه مصطلح بلاغتهم المسمي "الحب والشرف". فهو لم يجتزئ هذه البلاغة ليلهب ظهور قومه للذود عن الحمى ورد الدخيل ومحو عار الاحتلال كما نفعل باستعادة أبيات شهرية لمهيرة بت عبود في حض قومها الشايقية لرد اسماعيل باشا وجيشه على أعقابهم في 1821. خلافاً لذلك حمل مورينو مصطلح قومه كبؤرة يكتشفون بها أنفسهم بأنفسهم ويستردون بها عافيتهم التاريخية.

ولم اجد عبارة شافية في طلاق المقاومة عن النهضة في ممارسة الحزب الشيوعيي مثل التي جاءت في الماركسية وقضايا الثورة السودانية وهو التقرير المجاز في المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي في 1967. ويكاد التقرير أن يكون شكوى كظيمة من أن الحزب لم يتمتع بفسحة مستقرة من الوقت لتعميق الماركسية بين صفوفه أو العناية بتربية عضويته (من طلائع ثورة أكتوبر 1964 كما سماهم) بعبارة أخرى. فقد نهض الحزب مباشرة "وسط ضجيج الحركة الثورية" حتى أن مثقفيه أنفسهم تلقوا عموميات الماركسية وهم في خضم الصراع ضد الاستعمار بصورة أصبحت وحدة تفكيره قائمة علي البرنامج السياسي لا الأساس الأيدلوجي. وقوَّت هذه الناحية في تكوينه اتجاهات يسارية حالت دونه ودون أن يكتشف طرقاً متعددة للعمل السياسي، في ظروف صودر فيها ذلك العمل ، غير المنشور والإثارة و"النشاط الإثاري العملي". وترتب علي هذا أن انقطعت اتصالاته اليومية بالجماهير وأخفق في أن "يرتبط بالحياة في اكثر من أفق". والشاهد هنا تعليق التقرير السلبي لمقاصد مقاومة الحزب الجرئية لنظام الفريق عبود (1958-1964). فقد وصفها بأنها كانت تقليدية جرت في إطار الجو العام الذي كان حبيس "الخلاص من الديكتاتورية العسكرية والرغبة في التخلص منها وحسب". وزاد التقرير بقوله إن الحزب واجه النظام كديكتاتورية عسكرية ولم يواجهه كنظام طبقي أداته العسكرية. والمواجهة الأخيرة هي ما يعتد به الماركسي لبلوغ التغيير الاجتماعي المفضي للبعث الوطني. فالمقاومة الضريرة احتطابُ ليل.

الماركسية والريف، المفاجآت غير السارة

ربما أصاب الأستاذ الخاتم عدلان (وآخرون) في استقالته عن الحزب الشيوعي في قوله إن الحزب لم يستطع استيعاب القضايا المعقدة للتركيبة السودانية مما ضرب عليه عزلة أصبح بها "إزاء الجنوبيين حزب للشماليين، وإزاء الريف حزب للمدينة، وإزاء المرأة حزب للرجال". وإصابة الخاتم في ما ذهب إليه قاتلة. فقد سبقه الأستاذ عبد الخالق محجوب، سكرتير الحزب 1949-1971 إلى بعض هذا القول منذ أكثر من أربعين عاماً. فقد أخذ على حزبه اقتصاره على مسائل الشمال وبنادره حتى صار الجنوبيون يعدونه حزباً للشمال ،كما يراه أهل الريف حزباً للمدن والأقسام "المتقدمة من الجماهير".

وقد حالت دون الحزب والانغماس في الريف السوداني حوائل من الحداثة كما فهمها لا كما ينبغي لها أن تكون. وليس أدني تلك الحوائل لغته التي صور بها الريف بصورة استدبرته ونفته عن زماننا بجعله أثراً خالفاًً من عهود خلت. فمصطلح الحزب عن الريف زاخر بأوصاف التخلف والتبلد وإثقال الكاهل. ولا غرابة. فمعلوم أن الماركسية بنت البندر وتشوبها نعرة البندر على التخوم. وقد اشتهرت عن ماركس قوله "بلاهة الريف". ونجد هذا المصطلح المثبط عن الريف في وثيقة شيوعية عمدة هي الماركسية وقضايا الثورة السودانية. فهي تصف الريف وحياته في "القطاع التقليدي" فتقول إن اقتصاده متخلف تابع للنفوذ الأجنبي. فهذا القطاع، الذي ينتج 56% من الإنتاج الأهلي، في قول الشيوعيين، يعتمد على الآلات القديمة التي نكتشفها بين حضاراتنا القديمة. فهو "يحط بثقله على اقتصاديات البلاد" ونجد أنفسنا حياله نرتد إلى "عهود ما قبل القرون الوسطى". وهو بالتالي يحبس " أغلبية شعوبنا (87% من السكان) في عهود غابرة لا علاقة لها بالنور أو التقدم". وهذا القطاع الأثري، بحيطانه الغليظة، "يكتم أنفاس الجماهير فيه". وقد ذاق منه الحزب والجماهير المتقدمة الأمرين حين استثارت القوى الرجعية "عنف البادية والجماهير المتخلفة" ليصب جام غضبه على الشيوعيين. ومهمة الحزب حيال هذا القطاع هو هز ساكنه بجلبه "إلي حياة المعرفة وفي إطار البعث الوطني الجديد" وإدخال "الحياة والحركة وسط الجماهير" فيه.

فالقطاع الحديث مدعو من الحزب أن يوسع قاعدة الإنتاج ويدخل "مراكز للتقدم" في القطاع التقليدي وجذب سكانه بطريقة ثابتة ومؤثرة إلى ميدان الحداثة. وهذا، عندي، ذم للريف لا تحليل لاقتصاده وسياساته.

الجنوب: حمار الحزب في العقبة

كانت حرب الجنوب الأهلية هي ساحة شقاء الحزب الشيوعي الباكرة والكبرى بالقطاع التقليدي. فقد طالت واستطالت حتى خشي الحزب منها أن تصبح عبئاً على الحركة الشعبية الديمقراطية في قطاع الحزب الحديث. فقد جاء في الماركسية وقضايا الثورة السودانية أن الجنوب مشكلة كأداء تواجه قضايا النهضة الوطنية الديمقراطية. فالحركة الجنوبية ذات طابع تغلب عليه معاداة النهوض الوطني والتحرر من التبعية الاستعمارية وتطور الثورة الديمقراطية. وقد فاقم من طابع هذه المعادة السياسات الرجعية للفئات الحاكمة. وأصبحت حركة الجنوب بذلك عبئاً على الحركة الشعبية الديمقراطية مع أن الجنوب، كأقلية قومية، له مصلحة في انجاز تلك الثورة.

ولم يمر عام على المؤتمر الرابع حتى صدرت وثيقة بعنوان قضايا ما بعد المؤتمر الرابع عن اجتماع اللجنة المركزية في مارس 1969. واصطلحت الوثيقة على تسمية القطاع التقليدي من جنوب وبواد للأنصار، وهم محبو الأمام المهدي الذي عاش في القرن التاسع عشر، وغيرهم ب" "التكوينات غير الرأسمالية". وهنا اعترف الحزب بوضوح بأنه قد صار حزباً للمدن و "للأقسام المتقدمة من الجماهير". فهو في نظر الوثيقة قد قصر عن تنمية صيغة شاملة للعمل الثوري بعد نشاطاته الناجحة بين رعاة مديرية كردفان في الخمسينات. وتساءل التقرير إن كان للماركسية فرصة لاستنهاض أهل هذه التكوينات السابقة للرأسمالية. واسترجع قول لينين للعاملين الثوريين في شرق روسيا القيصرية بقدرة الماركسية على استنهاض شعوبهم متى اكتشفوا اللغة والوسائل والأشكال التنظيمية لتقديم الماركسية لها.

وعاد الحزب في قضايا ما بعد المؤتمر الرابع (1968) إلى مسألة الجنوب في محاولة لتخطي مخاوفه التي أذاعها عنه في مؤتمره الرابع. وتركزت في الخشية من انتكاس الحركة الثورية في الشمال من جراء حركة القوميين الجنوبيين الضالعة مع الاستعمار في غالبها. فقد تعلم الحزب من خبرة ثورة أكتوبر 1964كيف استنزفت متاعب الجنوب طاقات الثوريين الشماليين. ومع ذلك تمسك الحزب بالعمل الدؤوب في الجنوب برغم أن معظم حركة الجنوب القومية لا تلقى قبوله. وأشارت قضايا ما بعد المؤتمر الرابع إلى تناقض قائم في كون الحزب والقوى التقدمية هي أخلص القوى في تحالفها مع جماهير الجنوب إلا أن أقساماً كبيرة ومؤثرة بين ممثلي هذه الجماهير لا تقدر هذه الحقيقة. بل قد يذهبون إلى معاداة القوى الديمقراطية .والأنكى أنهم يعدون الحزب الشيوعي في عداد سائر الشماليين. وغلبت المحاذير أيضاً على نظرة الحزب للبادية في قضايا ما بعد المؤتمرالرابع. وانطوت لغته على الإعياء حيالها. فجماهير الأنصار "عبء" آخر يقع على عاتق الحركة الثورية. وقد ظل الأنصار يشكلون هذا العبء لفترة طويلة خلال فترة النضال الوطني. فقد استخدمهم عداة التقدم في منعطفات وطنية لوقف تطور البلاد. فهم عبء ومعالجة شأنهم في الحزب عبء ثقيل. وهذه لغة ناكصة عن الريف.

تجدد اهتمام الحزب بالجنوب بصورة إيجابية في ملابسات انقلاب الرئيس النميري في مايو 1969. فقد كان الشيوعيون وراء إعلان التاسع من يونيو لذلك العام. وتولى السيد جوزيف قرنق، عضو المكتب السياسي للحزب، وزارة شؤون الجنوب. وخلص الأستاذ عبد الخالق محجوب، سكرتير الحزب (1949-1971) من هذه التجربة (في كتيب حول البرنامج، آخر ما كتب قبل إعدامه في 1971) من عمل الحزب على مستوى الدولة في الجنوب قائلاً إنه متى ما نجح الحكم الذاتي المقترح سيطرح الشيوعيون "في مرحلة البناء الاشتراكي شعار حق تقرير المصير للقوميات" وسيختار الجنوب البقاء في الدولة السودانية الاشتراكية على محصلة هذه التطورات الإيجابية. وهذا شح سياسي تصوّر به عبد الخالق أن مقاليد التطور بيد الحزب ولم يجعل فرجة للتطورات الدرامية التي أسفرت عن جعل تقرير المصير حقاً في صلح نيفاشا بين حكومة السودان والحركة الشعبية عام 2004 حتى قبل أن نبلغ من أمرنا شئياً في تدرّج عبد الخالق آنف الذكر.

وتناول كتيب حول البرنامج أوضاع "التجمعات القومية والقبلية" في سياق الدعوة للثورة الديمقراطية التي أراد لها عبد الخالق أن تتغلغل في المجتمع. ولعل القفزة التي جاء بها حول البرنامج حيال الديمقراطية هو التزام الشيوعيين بمبدأ تمثيل المواطنين في برلمان منتخب. ولكنه سرعان ما انتكس بهذا التمثيل وحصره في القوى الوطنية الديمقراطية الواعية حتى يأذن وعي القطاعات الأخرى بتمتعها بهذا الحق لاحقاً. كما أن "حول البرنامج" مس التحاذر العرقي بين الأقوام السودانية حين وصى بدخول الدولة في ميدان السلع بالشراء والتوزيع في القطاع التقليدي لإزالة الوسطاء الطفيليين الذين يستحوذون على جزء من الفائض عن طريق التجارة والتحكم في السلع. وقال إن هذا سيقع برداً وسلاما على القوميات والقبائل في القطاع التقليدي لأن أغلب هؤلاء الوسطاء هم الآن من القومية العربية مما خلق شيئًا من الحذر والعنت في بعض الأحيان.

لم يصمد الحزب عند وجهته للتوافر علي مسائل الجنوب والبادية السودانية كقضايا للنهضة أمام مزاج المقاومة الذي أخذ بمجامع الحزب بعد فشل انقلاب 19 يوليو 1971 الذي ذهب بزهرة القيادة الشيوعية ورد هذه النكسة، في قول أحدهم، إلى طفولة ثانية. وقد ساد هذا المزاج تقويمه لإتفاقية أديس أبابا التي نجح خصم الشيوعيين وسفاحهم الأشر، الرئيس نميري، في عقدها مع الجنوبيين بعد نحو 6 اشهر من ضربته القاصمة للانقلاب الذي اتهم الشيوعيين بتدبيره. وجاء تقويم الشيوعيين للاتفاقية واجهة لمتاعبهم مع نميري وآخرين أكثر منه تحليلاً مستقلاً للحدث في بواطنه السياسية والقومية منها بوجه خاص. ومن أهم مصادر ضيق الشيوعيين من الاتفاقية قناعتهم بأنهم كانوا بصدد إبرام اتفاقية أفضل كان يعد لها السيد جوزيف قرنق، وزير شؤون الجنوب، قبل فاجعة انقلاب 1971 يوليو. ولذا ساد في أدبهم أن أتفاقية أديس أبابا حل برجوازي ووجهة سياسية انتهازية قائمة على التنازلات والمكاسب المؤقتة. ومن رأي الحزب أن تكتيك العصابات، الموصوف بالتمرد، هو "ثغرة لينفذ الاستعمار الجديد إلى جسد السياسية السودانية". ومع تفهم الحزب للدوافع السياسية لمن حملوا السلاح إلا أنهم لم يجنوا سوى الفتات من الاتفاقية في حين بشم قادتهم الوالغين في الفساد المدعومين بالاستعمار الجديد وإسرائيل. فهولاء القادة المترفون هم نواة طبقة رأسمالية روّضها الجلابة، وهم التجار الشماليون في الجنوب، بالشراكة والرشوة. وعليه فهي ستناوئ سير البلاد في طريق التطور غير الرأسمالي. وأخذت نعرة المقاومة من الحزب كل مأخذ حتى قال إن السلام لن يسود في الجنوب قبل الإطاحة بنميري وأعوانه جنوبيين وشماليين.

وحاول الحزب في تقويمه للاتفاقية أن يرسى تحليله علي قاعدة طبقية. فقد قال محقاً إن الحكم الذاتي للجنوب جاء طريقاً قويماً ليتخطى عقلية التعالي القومي للبرجوازية وشبه الإقطاع في الشمال ، ولمواجهة دعوات الفدريشن والانفصال في الجنوب. وبهذه الصفة فهو حل اقتضاه صراع طبقي ولن يقع أو يثمر بمثل اتفاقية أديس أبابا( 1972) التي هي حل إداري عسكري قطف ثماره قادة التمرد وتقوّى به نميري المستبد. ورفع الحزب عقيرته مرة أخرى بالهتاف المعارض بوجوب الإطاحة بنميري وحلفائه ليستعيد الحكم الذاتي معناه ولتقوم سلطة وطنية ديمقراطية للشمال والجنوب قادرة على تطبيقه باستقامة. ويقول الحزب إنه متى لاحت الاشتراكية في نهاية هذا الطريق أزف موعد تقرير المصير للقوميات الجنوبية.

ومما يدلل على سوء ظن الحزب باتفاقية أديس أبابا وانسداد نفسه منها أنه انتهز أول سانحة لعمل مضاد لنظامها في الجنوب، وهو انقلاب جوبا المؤود في فبراير 1977 ، للبرهان على أن رأي الحزب السلبي في الاتفاقية كان صحيحاً. وذكّر الحزب الناس أنه قال في 1972، بعد الترحيب بوقف نزيف الدم، إن الاتفاقية ستؤدي إلى "تحكم قيادات التمرد المشبوهة، وقيام برجوازية بيروقراطية متعصبة تعادي وحدة البلاد، وعاجزة عن تلبية المطالب الحيوية للجنوبيين". وإن الاتفاقية لن تؤدي إلى استقرار البلاد بل زعزعتها. وقد أثبتت الانقلاب الفاشل صدق قول الحزب هذا. وهكذا استثمر الحزب الانقلاب ليبرهن صدق قوله في 1972 إن الاتفاقية كانت استسلاماً للمتمردين وتسليماً لجنوب البلاد لهم "كجزء من الصفقة الشاملة مع الاستعمار". وأضاف بأن عَرّابي الصفقة هم مجلس الكنائس العالمي والإمبراطور هيلا سيلاسي وعميل المخابرات الأمريكية منصور خالد ممن تآزروا "لخلق حكومة إقليمية في الجنوب تخدم مصالح الاستعمار في قلب القارة الأفريقية."

ولعل أكبر ضحية لهذا التشويش الشيوعي من جهة الجنوب هو تعطيل الحزب الاجتهاد في آفاق الحكم الذاتي الإقليمي للقوميات المستضعفة، الذي كان أول من جاهر به في خمسينات القرن الماضي، ليبلغ به ما بلغناه منه اليوم من حق لتقرير المصير. فلم يقبل الحزب بمبدأ تقرير المصير للجنوب بالكلية. وأصر على أن تلك القوميات لن تنال هذا الحق إلا في ظل الاشتراكية ودون نيلها هذا الحق -قبل ذلك- خرط القتاد. وقد استخار الحزب في هذا الموقف تشوشه من جهة تمزق الوطن و من جهة أخرى سوء ظنه بالاثنيين، الجنوبيين والشماليين واكتفاءه من الماركسية بالتطبيق الإستاليني اللئيم لها في الاتحاد السوفيتي دون سخاء لينين الذي تمسك بتقرير المصير للقوميات بغير لبس أو إرجاء.

وقد قبل الحزب بهذا الحق مضطراً في الوثيقة المسماة "قرارات أسمرا المصيرية" التي تواثقت عليها المعارضة السودانية لنظام الإنقاذ عام 1995. فحتى نهاية العقد الثامن من القرن الماضي ظل الأستاذ محمد إبراهيم نقد، سكرتير الحزب الشيوعي منذ 1971، يتمنّع على اعتبار حق القوميات لتقرير مصيرها مما يوافق واقع السودان. وهيأ حوار لجريدة الميدان الشيوعية مع نقد (نشر في قضايا الديمقراطية في السودان، 2002) أن يوضح موقف حزبه المٌرْجئ لمنح القوميات السودانية حق تقرير المصير. فقد انبرى بالنقد للشيوعيين الأستاذ طه ابراهيم لمفارقتهم اللينينية بحجب هذا الحق عن القوميات. وقال إنهم إنما يسوّفون في الحق خشية استفزاز جمهرة الشماليين بهذه الليننية القحة. وقال نقد في رده إن طه لم يقف على كامل عقيدة الماركسيين حول حق القوميات في تقرير مصيرها. فهو ليس حقاً جامداً من جهة الإلزام. فقد تحفظ طه نفسه من جهة منح هذا الحق متى انصرف به الناس إلى إقامة دويلات منفصلة وعد ذلك رجعية. واغتنم نقد تحفظ طه هذا ليقول إن هذا اعتبار رافق تفكير وممارسة الشيوعيين طويلاً في سياق قناعتهم بالبدء من وقائع الوضع في السودان لا النقل المسطري من النصوص أو تجارب الآخرين. فأساس عمل الحزب وحدة السودان في مواجهة الاستعمار قديمه وجديده ولن يتنازل لحركة انفصالية في الجنوب بتبني ذلك الحق مهما قيل من إجازة الدولية الاشتراكية له. وزاد بأن الدكتور جون قرنق لم يطلب حتى الحكم الذاتي ناهيك عن تقرير المصير بل طلب سوداناً جديداً تتساوى فرص الجميع به في الحكم والثروة.وقال بإن الحق يصبح تقدمياً حين يخدم وحدة الوطن وتآخي قومياته ورفع عنجهية القومية الكبيرة وتلافي العنصرية المضادة في القوميات الأخرى. ورجع إلى كتاب عبد الخالق حول البرنامج الذى قيد الحق بنشؤ سلطة وطنية ديمقراطية.

نصحهم ستوكلي كارمايكل بمنعرج اللوى

وسنعرض هنا لبعض الفرص المهدرة التي سنحت للحزب ليلقى أثقال القضايا التي أخرجتها الأرياف مستعداً لا مستدركاً. ومن هذه الأثقال مسألة العرق والطبقة والسياسة. فلو تخطى الحزب عقله المعارض لهيأت له هذه السوانح أن يرفع سقفه النظري وينوع نشاطه ليلامس البعث الوطني من أقطاره جميعاً.

أذاع استوكلي كارمايكل، من مؤسسي حركة القوة السوداء في ستينات القرن الماضي في الولايات المتحدة، في محاضراته بدار الثقافة واتحاد المعلمين ودار اساتذة جامعة الخرطوم بمدينة الخرطوم في شتاء 1970 فكرة حبيبة لأفارقة الشتات مفادها أن سمة الصراع الرئيسية لعصرنا هي صراع البيضان والسودان. وهذا مخالف بلا شك لعقيدة الماركسيين السودانيين الذين يرون التناقض الرئيسي في عالمنا هو صراع الرأسمالية والاشتراكية. ولما أصمّ الماركسيون في السودان آذانهم عن قول كارمايكل بارتداف وعي بالسلالة والعنصر إلى الوعي بالطبقة أضاعوا نصحاً ضحى الغد لم يرشدوا إليه حتى تكاثف الوعي بالعرق واستبدت مشاعر الضيق بعنصرية "الجلابة" في الثمانينات وشقت طريقها إلى أدب العمل السياسي المسلح في الجنوب وغيره وإلى العالم بأسره.


أجور للشمالي بغض النظر

وربما تسرب من بين أيدي الماركسيين السودانيين وعي آخر بالعرق وسياساته من جراء الطريقة التي استخفوا بها بالموضوع حتى لو جاءهم من ماركسيين سودانيين غير شماليين. فقد نشرت جريدة "الميدان" السرية (أغسطس-سبتمبر 1984) عرضاً ونقداً لبرنامج جماعة "نام" وهي حركة العمل الوطني الجنوبية الماركسية. وقد استبشرت الميدان في عرضها بتبني جماعة جنوبية شابة للماركسية في ملابسات تبلور قوى جنوبية رضعت وعياً بالنضال من الحرب الأهلية وفي منافيها الأفريقية. غير أن عرض الميدان لم يجد في أفكار الوثيقة المخصوصة سوى ما يكتم منه "الغيظ صبراً على النقاش." وهذه عبارة كاتب الميدان. فقد شخصًّت منظمة"نام" وضع السودان بأنه يعاني من الإمبريالية والاستعمار الاستيطاني العربي. وقوام هذا الاستعمار في نظر "نام" جماعة سكانية لا تزيد عن 30% من السكان في حين يسيطرون على كل الثروة والسلطان. استنكرت الميدان تقدير "نام" ذلك قائلة إن منطلق مصطلحات الوثيقة الماركسية عنصرية وبعيدة كل البعد "عن أي فكر ديمقراطي إنساني أو فكر تقدمي أو ماركسي". ونبهت الميدان محقة أن اكثر أفراد الثلاثين بالمائة من الجماعة الموصوفة بالعرب عمال ومزارعون وكادحون تعرضوا للاستغلال أو ناضلوا لسودان اشتراكي. وهذا حجة غراء بالطبع ولكن من يعانون من الاضطهاد العرقي لهم منطق آخر. فهم يحتجون بأن أبناء العرق السيد من الفقراء والمساكين ينالون أجراً زائداً على ما عداهم بمحض انتمائهم لذلك العرق المتمكّن. وقد سمّى الباحثون هذا الأجر الزائد ب "أجور البياض" في نظرهم للصراع العنصري في الولايات المتحدة. وهي أجور ينالها حتى فقراء البيض لأجل بياض جلدهم.

وتكاد الميدان تعلن ردة برنامج "نام" عن الماركسية بقولها إن "النظرة العنصرية التي تتبناها الوثيقة تنسف أي اساس يسند محاولاتها لتحليل الواقع الجنوبي تحليلاً طبقياً". واستطردت الميدان تلقي على جماعة "نام" محاضرة عن الماركسية والطبقة بصورة لم تخل من أستاذية. وفيها أخذت عليهم، مثلهم مثل سائر الثوريين الأفريقيين، الانبهار بأدبيات الماركسية الأوربية أو الصينية أو من أمريكا اللاتينية بغير دراسة موضوعية لباطن مجتمعاتهم. وجدّدت قولها أو تحذيرها من أن تعمى مصطلحات الماركسية الواردة في الوثيقة الأبصار عن "رؤية المنطلقات العنصرية العرقية التي تحجب عن أصحابها آفاق المستقبل لشعب السودان".

ولم يخطر لكاتب الميدان أن مساهمة هؤلاء الماركسيين الجنوبيين، مثلهم مثل كارمايكل، هو في جعل العرق موضوعاً للنظر السياسي الماركسي مهما شطحت بهم العبارة. فالميدان سريعة إلى دمغ الوثيقة بالعنصرية متى ما تحدثت عن "الاستعمار الاستيطاني" وتعده إدعاءاً يكتم المرء غيظه منه ويناقش. وتدفع الميدان تهمة"نام" للشمال بالاستعمار الاستيطاني بقولها إن عدد الجنوبيين في الشمال أكبر بمئات المرات من عدد الشماليين في الجنوب. واتفقنا على سداد مصطلح الاستعمار الاستيطاني على الحالة السودانية أم لم نتفق فليس الأمر في مثل هذه المسألة أمر عدد وإنما هو أمر شوكة وإخضاع. فقد استعمرنا الإنجليز وكانوا بيننا فئة قليلة جداً.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ابحث في موضوعات الوكالة

برنامج ضروري لضبط الموقع

صفحة المقالات لابرز الكتاب

شبكة الدانة نيوز الرئيسية

اخر اخبار الدانة الاعلامية

إضافة سلايدر الاخبار بالصور الجانبية

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة
تعرف على 12 نوع من الاعشاب توفر لك حياة صحية جميلة سعيدة

روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية

روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية
روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية

احصائية انتشار كورونا حول العالم لحظة بلحظة

احصائية انتشار كورونا حول العالم لحظة بلحظة
بالتفصيل لكل دول العالم - احصائيات انتشار كورونا لحظة بلحظة

مدينة اللد الفلسطينيةى - تاريخ وحاضر مشرف

الاكثر قراءة

تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

-----تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

الاخبار الرئيسية المتحركة

حكيم الاعلام الجديد

https://www.flickr.com/photos/125909665@N04/ 
حكيم الاعلام الجديد

اعلن معنا



تابعنا على الفيسبوك

------------- - - يسعدنا اعجابكم بصفحتنا يشرفنا متابعتكم لنا

جريدة الارادة


أتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الارشيف

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام
الانستغرام

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة
مؤسستنا الرائدة في عالم الخدمات الاعلامية والعلاقات العامة ةالتمويل ودراسات الجدوى ةتقييم المشاريع

خدمات نيو سيرفيس

خدمات رائدة تقدمها مؤسسة نيو سيرفيس سنتر ---
مؤسسة نيوسيرفيس سنتر ترحب بكم 

خدماتنا ** خدماتنا ** خدماتنا 

اولا : تمويل المشاريع الكبرى في جميع الدول العربية والعالم 

ثانيا : تسويق وترويج واشهار شركاتكم ومؤسساتكم واعمالكم 

ثالثا : تقديم خدمة العلاقات العامة والاعلام للمؤسسات والافراد

رابعا : تقديم خدمة دراسات الجدوى من خلال التعاون مع مؤسسات صديقة

خامسا : تنظيم الحملات الاعلانية 

سادسا: توفير الخبرات من الموظفين في مختلف المجالات 

نرحب بكم اجمل ترحيب 
الاتصال واتس اب / ماسنجر / فايبر : هاتف 94003878 - 965
 
او الاتصال على البريد الالكتروني 
danaegenvy9090@gmail.com
 
اضغط هنا لمزيد من المعلومات 

اعلن معنا

اعلان سيارات

اعلن معنا

اعلن معنا
معنا تصل لجمهورك
?max-results=7"> سلايدر الصور والاخبار الرئيسي
');
" });

سلايدر الصور الرئيسي

المقالات الشائعة