
قد يكون من المنطقي هنا القول إن جمهور السينما الجادة، العريض نسبياً، يعرف اسم الكاتبة البريطانية آيرس ميردوك أكثر مما يعرفها جمهور القراء العريض. لكن المفارقة أن الجمهور الأول يعرفها صبية تحت ملامح الممثلة الفاتنة كيت وينسليت، ثم مكتهلة تحت ملامح سيدة التمثيل الإنكليزي الكبرى جودي دنتش، أكثر كثيراً مما يعرفها تحت ملامحها الخاصة التي تحملها تلك الصورة الهادئة التي التقطت لها في زمن متقدم من حياتها بشعرها الوقور القصير ونظرتها المفعمة بالحزن. وطبعاً ما ندور من حوله هنا إنما هو فيلم «آيرس» الذي قدم قبل سنوات سيرة سينمائية للكاتبة حقق نجاحاً يتجاوز نجاح رواياتها وكتبها الأخرى الفلسفية. وربما لأن الفيلم اهتم بالجانبين الإنساني والعاطفي من حياة الكاتبة وبإصابتها بالآلزهايمر في سنواتها الأخيرة، وتفاني زوجها جون بايلي في خدمتها، أكثر مما ركّز على أدبها وإبداعها. تعامل معها الفيلم كأيقونة وكصاحبة مأساة وهي كانت كذلك بالفعل. لكنها كانت أيضاً أكثر من ذلك بكثير: كانت من أكبر كتاب اللغة الإنكليزية في القرن العشرين وواحدة من الروائيات المجددات في أوروبا، وهذا إضافة الى بحوثها الفكرية والفلسفية. ومن هنا لم يكن مستغرباً أن يعتبرها الأوروبيون «سيمون دي بوفوار إنكلترا»، علماً بأن ما زاد من التركيز على هذه القرابة كان إصدار ميردوك ذات يوم دراسة عن جان بول سارتر اعتبرت واحدة من أفضل الدراسات التي كتبت عنه بلغة شكسبير. ولنضف هنا في سياق «القرابة» ذاتها أيضاً أن حياة ميردوك الطويلة مع بايلي لم تخل من حكايات غرامية جانبية لم يعترض هو عليها كثيراً، تماماً كما كانت الحال بالنسبة الى سيمون دي بوفوار التي لم يعترض رفيق حياتها سارتر على غرامياتها الجانبية!
> إذاً، عُرفت ميردوك بخاصة برواياتها الطليعية التي انتمت الى أدب جديد يتميز بتركيبية لغته الآتية أصلاً من لغة الفلسفة التي درستها الكاتبة خصوصاً مع الفيلسوف فتغنشتاين هي التي كثيراً ما أعلنت أنها من الناحية الفلسفية تنتمي الى «النيو أفلاطونية» وأخذ عليها النقاد الراسخون كونها تكتب «وكأن فلوبير وعصر الشك» لم يوجدا أبداً. والحقيقة أننا إن بحثنا عن رواية للكاتبة تصوّر هذا كله، سنجد أمامنا بالتأكيد روايتها الأشهر «البحر... البحر» التي نشرتها في العام 1978 ونالت عليها «جائزة البوكر» الأدبية التي كانت ذات قيمة فائقة في حينه قبل أن تصبح مادة للتصدير في أيامنا هذه.
> بادئ ذي بدء، لا بد من الإشارة الى أن ميردوك جاءت بعنوان هذه الرواية من أحد أبيات قصيدة بول فاليري الشهيرة «المقبرة البحرية» التي غالباً ما تأتي على ذكرها لسبب أو لآخر في رواياتها. والحقيقة أن هذه الاستعارة إنما تكشف عن قرابة أسلوبية بين ميردوك وفاليري، فهي مثله يقوم أدبها على إدخال القارئ بطيئاً بطيئاً، ولكن بشكل وثيق في عملها والأجواء التي تريد تصويرها، ناهيك بأن شخصياتها غالباً ما تكون أناساً مميزين لهم وزنهم الاجتماعي أو الفني والثقافي، أرسقراطيين أو فنانين مشهورين أو جامعيين أو حتى قساوسة ومحللين نفسيين، من دون أن يكون نجاحهم في حياتهم شرطاً لوجودهم في أدبها. ولا تشذ رواية «البحر... البحر» عن هذه القاعدة التي تجعل من الممكن القول إن كل أدب آيرس ميردوك هو نوع من سيرة ذاتية متواصلة متعددة الوجوه والأجناس.
> في «البحر... البحر» الرواية التي لا يقل عدد صفحاتها في أصلها الإنكليزي عن 500 صفحة، ما يجعلها «رواية/نهر» حتى وإن كان البحر ديكورها... صحيح أن القارئ كالعادة، يجد صعوبة في تخطي الصفحات الأولى البطيئة، غير أنه سرعان ما يجد نفسه غارقاً في لجة أمواج هذا البحر الروائي الذي يدور من حول تشارلز آروباي الكاتب والمخرج المسرحي الذي يقرر ذات يوم أن ينفي نفسه بعيداً من صخب لندن المجنون كي يشتغل على كتابة مذكراته التي كثيراً ما كان يؤجلها عاماً بعد آخر. هذه المرة لن يؤجل بل سينسحب الى منزل صغير مبني قرب الصخور عند شاطئ بحر دائم العصف حيث يعيش في دعة وينطلق في الكتابة. بل إنه سيواصل نشاطه هذا حتى حين يزوره أصدقاء وصديقات كان من الصعب عليهم أن يفهموا رغبته في الانعزال. مهما يكن فإن تلك الرغبة، بأكثر مما ستصطدم بأولئك الرفاق الذين يمكن لتشارلز أن يتناسى وجودهم ويواصل الكتابة، ستصطدم بحضور آخر لم يكن متوقعاً على الإطلاق. إذ ذات يوم سيلتقي تشارلز في مكان عزلته بماري هارتلي فيتش التي كانت قبل عقود طويلة من السنين، حبيبته الأولى. فهو ما إن يراها حتى يحس بخفقان مدهش في فؤاده، على رغم أنها وبكل المقاييس أضحت امرأة عجوزاً. ولكن هل يهم العمر حقاً هنا إزاء كل ذلك القدر من الذكريات والحنين الذي يستيقظ تجاه ماري التي تقيم في المنطقة؟ بل حتى إزاء الحب الحقيقي الذي يستعيد الشعور به تجاهها؟ صحيح أن ماري متزوجة الآن وهي جدة وفي آخر سنوات حياتها، لكن تشارلز لا يأبه بذلك كله، بل يقرر أول ما يقرر أن عليها أن تنفصل عن زوجها مهما كلف الأمر وأن «تعود» إليه هو. إنه يقرر هذا في إصرار غريب ويعلنه أمام خلصائه الذين إذ يعتقدون انه يمزح أول الأمر، يقررون حين يرونه مصمماً على مشروعه عن حق وحقيق، أنه قد أصيب بمسّ من الجنون وبنوع من هوس غير طبيعي. أما هو فالأمر بالنسبة اليه محسوماً هو الذي يرى أن ماري لا تزال فائقة الجمال ومرغوبة غير دار أن «حبيبته القديمة» قد أضحت مجرد سيدة بورجوازية صغيرة لا أهمية لأفكارها. أما هي فإنها حين يفاتحها برغباته تبدو غير عابئة به على الإطلاق بل إنها ترفضه من دون أن تسعى حتى الى فهم ما يدور في أفكاره... فترفضه وتقاوم كل عروضه!
> وأمام هذا كله يرى صاحبنا أن الخيارات المطروحة أمامه معدومة تقريباً وأن الحل الوحيد الذي يمكنه اللجوء اليه هو خطفها لاستعادتها وجعلها تفيق عما يبدو أنها ساهية عنه: حبها المؤكد له. وسرعان ما يسعى الى تحقيق مشروعه هذا ليخطفها لوضعها في مكان آمن لا يمكن لغيره أن يصل اليه. وهو في الوقت نفسه يرتبط بابن متبنى لفاتنته وهو شاب لطيف المعشر يقرر أن يجعل منه بدوره ابناً بالتبني له. ومن المؤكد أن هذا كله سوف ينتهي نهاية درامية وتحديداً على الشاطئ الصخري للبحر حيث يكاد تشارلز يموت غرقاً لولا وصول ابن عم له، وهو شخص غامض شديد الغموض، ينقذه مخبراً إياه انه كان قد تعلم في التيبت كيف ينقذ الناس من مصائر تترصدهم... ومهما يكن هنا فإن ذلك الإنقاذ إذ يأتي في اللحظات الأخيرة إنما يوقظ فيتش على حقيقة أنانيته التي دفعته الى ذلك السلوك العبثي هو الذي سوف يعترف لنا - ولنفسه طبعاً - بأنه إنما كان واقعاً في الحقيقة، في غرام صباه هو وليس في غرام أي شخص كان. وأن ما كان في حاجة الى صدمة كي يتنبه اليه، هو ان ذلك الصبى قد انقضى ولا يقتصر الأمر على ماري التي أضحت غير ماري صباه الآن.
> ذلك هو الإطار العام لهذه الرواية التي نالت منذ صدورها، نجاحاً كبيراً لدى النقاد كما لدى القراء، الى درجة انها اقتبست أكثر من مرتين للتلفزة، مرة في أربع حلقات وأخرى في حلقتين. أما آيرس ميردوك نفسها فتقول سيرتها أنها وُلدت العام 1919 في دابلن الإرلندية، لتموت بعد ذلك بثمانين عاماً في أوكسفوردشير الإنكليزية. وكانت اول رواية تنشرها «تحت الشبكة» في العام 1954 وهي رواية اختيرت في العام 1998 كواحدة من أهم 100 رواية انكليزية في القرن العشرين، لكنها لم تبلغ شهرة «البحر... البحر» ولا شهرة «الجرس» (1958) أو «الأحمر والأخضر» (1965) وروايات أخرى كثيرة كتبتها خلال نحو أربعين عاماً من نشاط أدبي اشتمل كذلك على مسرحيات وكتب فلسفية. وكل هذا جعل صحيفة «التايمز» تختار ميردوك في العام 2008 لتصنفها الثانية عشر بين أكبر الكتاب البريطانيين منذ العام 1945 ناهيك بأن ملكة بريطانيا أنعمت عليها في العام 1987 بلقب ووسام «دام كوموندر الإمبراطورية البريطانية».
* نقلاً عن "الحياة"




ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق